عبد الرحمن نصر حين يقترب الأدب من جراح التاريخ، لا يعود مجرد سرد، بل يصبح شهادة حيّة ومرآة لأحلام الشعوب المسروقة. فى رواية «ألا يمكننى الرحيل؟» للكاتبة الكورية لى جيوم لى، والصادرة فى ترجمتها العربية عن دار عصير الكتب للنشر والتوزيع، لا نقرأ فقط عن الاحتلال اليابانى لكوريا أو عن الحرب الكورية، بل نقرأ عن هشاشة الإنسان حين يسحقه الاستبداد، والفقر، والخذلان. بدأ الاحتلال اليابانى لكوريا عام 1910، وسعت الإمبراطورية إلى محو الهوية الكورية: فرضت لغتها، ألغت الأسماء الكورية، وسيطرت على التعليم والموارد. من أبشع جرائمها إنشاء «وحدات نساء المتعة»، حيث أُجبرت فتيات صغيرات من كوريا ودول آسيوية أخرى على العمل فى معسكرات جنسية للجيش الإمبراطورى. تشيريونج وسونام: الحب والعبودية فى هذا السياق، تولد «تشيريونج»، ابنة فيكونت متعاون مع اليابانيين، وتتلقى فى عيد ميلادها السابع هدية غير متوقعة: فتاة تُدعى «سونام»، اشتُريت من أسرتها لتكون خادمة مدى الحياة. علاقة الطفلتين تعكس العلاقة الاستعمارية بين اليابان وكوريا: تشيريونج المولودة بامتيازات طبقية، وسونام التى لا يُعترف بإنسانيتها. بينما تحلم الأولى بالتحرر من التقاليد، تحلم الثانية بأبسط الحقوق: أن تتعلم القراءة كى لا تضيع. تقول: «- بمجرد أن تتعلمى، ماذا ستفعلين؟ - أريد أن أكون قادرة على العثور على الطريق عندما أضيع.» الرواية تحفر فى طبقات الألم. تشيريونج تخون سونام حين تسرق حياتها ومنحتها الدراسية إلى أمريكا. وسونام تخون صديقاتها فى معسكر «نساء المتعة» حين تهرب وحدها، وتعيش مطاردة بالذنب. مشهد اغتصاب سونام فى بيت مهجور بعد هروبها، لم يكن مجرد انتهاك، بل لحظة انسحاق إنسانى كامل. تقول: «كان الجدار بارداً، والرائحة كريهة. شعرت أننى لم أعد أملك شيئًا، حتى جسدى لم يعد لي.» الذاكرة فى الرواية أداة مقاومة وعبء لا يُحتمل. وسونام تحمل روايات لا تجد من يصغى لها. أما الهوية، فهى مشروع معلق، تنتزعه الشخصيات بصعوبة فى عالم لا يعترف إلا بالنافع أو القابل للتسويق. أمريكا: حلم مشوّه تشيريونج تهاجر لأمريكا بحثًا عن ذاتها، لكنها تصطدم بالعنصرية والاغتراب. تقول: «فى كل مرة نظرت فيها إلى المرآة، شعرت أننى أرتدى وجهًا لا يخصني... وجهًا لا أعرف من يصدقه، أنا أم من حولى؟» أما سونام، فتنتقل إلى أمريكا كخادمة متبنّاة. تبدأ بتعلم الإنجليزية، وتدرك فجأة أن الكلمات التى تُستخدم ضد الأقليات كانت مهينة، وأن التمييز لم يتغير عمّا عرفته فى كوريا. المعرفة هنا توقظها على وعى جديد بنفسها وتاريخها. نساء فى الهامش: منظور نسوى حاد الجسد الأنثوى فى الرواية ليس فقط موضوعًا للرغبة، بل ساحة حرب. سونام، رغم التشييء والاستغلال، تحاول بإصرار أن تعيد تعريف ذاتها. تقول: «كان اسمى يتغير، وكنت أقول فى نفسي: ربما إذا غيرتُ اسمى، سيتغير قدرى. لكننى كنت أنا، أنا دائمًا، التى لا أحد يعرفها.» الجسد يتحول إلى مساحة للذل، ولكن أيضًا للذاكرة والمقاومة. تنبش الرواية فى الصمت المرافق لانتهاك أجساد النساء، لتضعه فى مواجهة الذاكرة والتاريخ. رمزية الاسم والهوية يتكرر تبدل الأسماء، خاصة مع سونام، ليكون استعارة لهشاشة الهوية. حين تسرق تشيريونج اسم سونام، لا تأخذ مجرد تعريف، بل حياة كاملة. وفى النهاية، حين تشاهد سونام فيلمًا وثائقيًا عن تشيريونج، تدرك: «لقد سرقتِ حياتى، حتى الكلمات التى تعلمتها بصعوبة أصبحت لكِ، حتى ذكرياتى.» الاسم فى الرواية هو بطاقة عبور، لا يحصل عليها من يستحقها، بل من يستطيع اقتناصها. من يملك الحق فى الحلم؟ تشيريونج تعود إلى كوريا كشخصية عامة، وتُحتفى بها. سونام تشاهد فيلمها بصمت، وتبكى. لا غيرة، بل لأن حياتها سُرقت للمرة الثانية. فالحلم فى الرواية لا يُمنح للجميع. تشيريونج تصعد، ولو على حساب غيرها. سونام، رغم كل شيء، لم تتوقف عن الحلم. وحين تلتقى بجانجهوى، حبها الأول، يحلمان معًا ببيت صغير وحديقة وطفل. هذا الحلم، البسيط، يصبح فعل مقاومة، ومطالبة بالاعتراف. أدب مطموس ومصائر متشابهة روايات مثل «ألا يمكننى الرحيل؟» لا تزال غائبة عن عيون القارئ العربى. ربما لأن الألم فيها كثيف، أو لأن أصوات النساء تُكتب من الهامش. هذه الرواية تذكرنا برواية باتشينكو لمين جين لى، التى تحكى عن الكوريين فى اليابان. كلا العملين يؤرشفان نساءً كُسرن فى الظل، ويعيدان لهن اسمًا وصوتًا ومكانًا فى الحكاية. رغم أن الرواية كورية، إلا أن ألم سونام يتردد صداه فى كل مكان: نساء البوسنة، فتيات الأيزيديين، ولاجئات الحدود. هى ليست فقط رواية عن «امرأة كورية»، بل عن كل أنثى تُهان بصمت، وتُعاد صياغتها من رماد الجراح. الأسلوب والترجمة لى جيوم لى تكتب بلغة شفافة مشبعة بالإيحاء، دون خطاب مباشر. الجمل قصيرة، لكنها مكثفة، كأنها تنفّس من يحمل فى قلبه حكاية ثقيلة. الترجمة التى أنجزها محمد نجيب جاءت رصينة، تنقل التوتر الدرامى والثراء النفسى دون ترهل. وأخيرًا.. نجد أنه فى رواية «ألا يمكننى الرحيل؟»، لا تكتب لى جيوم لى مجرد حكاية فتاتين، بل تؤرخ لهوية كاملة، تُسرق وتُشوَّه وتُقاوم. تشيريونج وسونام ليستا فقط شخصيتين فى حبكة روائية، بل تجسدان تناقضات حقبة بأكملها، وتعكسان مرآة واسعة لمعنى «الاستلاب» بكل صوره: من الاستعمار اليابانى إلى النزوح والشتات، من العبودية الحديثة إلى الخيانة الناعمة باسم الحب. الرواية تنسج عبر مصائر البطلتين ثنائية كثيفة الرمزية: تشيريونج، الوجه الذى يُعرض على الشاشة؛ وسونام، الظلّ الذى لا يظهر لكنه أساس الصورة. الأولى تمثل القشرة، ما يراه العالم ويحتفى به؛ والثانية تمثل الجوهر، ما يصرخ فى الداخل دون صوت. وبينما تسطع نجومية تشيريونج فى وطنها المحرر، تختفى سونام فى الظل — رغم أنها صاحبة النضال، وصاحبة الحكاية التى كُتبت باسم غيرها. «فى النهاية، لم يكن اسمى ما يهم... بل هل استطعتُ أن أكون أنا، ولو مرة واحدة، دون أن أُستبدَل بشخص آخر؟» ليست هذه رواية عن كوريا فقط، بل عن كل امرأة وجدت نفسها جسدًا فى زمن الحرب، أو اسمًا منسيًا فى خلفية صورة أحدهم. سونام، بصوتها الذى لا يصل، تمثل صوت نساء العالم: من نساء المتعة إلى نساء الغربة، من المهمشات فى المزارع والمصانع، إلى اللواتى تُنسى أسماؤهن فى شهادات التخرج وحفلات الختام. «ألا يمكننى الرحيل؟» هو سؤال تطرحه كل شخصية على طريقتها، لكنه فى حقيقته سؤالنا جميعًا: ألا يمكننا أن نتحرر من قيودنا، من الظلال التى فرضها الآخر، من الأسماء التى لم نخترها، ومن الحكايات التى لم نكتبها بأيدينا؟