فى مهرجان كان السينمائى الثامن والسبعين والذى أقيم خلال الفترة من 13 إلى 24 مايو 2025، لم تساورنى لحظة شك فى فوز الفيلم الفلسطينى "كان ياما كان فى غزة""Once Upon a Time in Gaza للمخرجين عرب وطرزان ناصر بأحد جوائز مسابقة "نظرة ما" التى عُرض بها، وقد حدث وفاز بجائزة أفضل إخراج، لكن هل كان يستحق؟ ولماذا؟ فى زحام معتاد مع الأفلام الفلسطينية فى المهرجانات الأوروبية بشكل عام، شاهدت "كان ياما كان فى غزة" وخرجت محبطة، يبدو أننى كنت أنتظر فيلما يروى للعالم مأساة الشعب الفلسطينى تحت الاحتلال، والأهوال التى يعيشها الغزاويون تحت الحصار منذ سنوات بعيدة، ولدى قناعة أن الفرص المتاحة لمخاطبة العالم ومنها عرض عالمى فى مهرجان كبير، لابد من اقتناصها واستغلالها بشكل إيجابى يفيد القضية الفلسطينية دوليا، ودون تصفية حسابات ومواقف مع السلطة الفلسطينية أو حماس، فليس لدنيا الآن رفاهية محاسبة نظام أو حزب أو جماعة فاسدة ونحن فى حالة حرب، وإبادة جماعية لشعب قد لا يفيده اليوم فيلم يتأرجح بين نقد لحركة حماس وسياستها القمعية، وكفاح الغزاويين فى ظروف صعبة قد تضطرهم لفعل أى شئ كالاحتيال وتجارة المخدرات، مع تلميحات وظهور عابر للعدو الحقيقي! فى المؤتمر الصحفى التالى لعرض الفيلم فى كان، قال طرزان الذى غادر غزة هو وتوأمه عرب عام 2012 : "فى الأفلام آخر ما أرغب فيه هو الحديث عن إسرائيل وما تفعله" وأضاف بهدوء "البشر أهم، من هم وكيف يعيشون وكيف يتكيفون مع هذا الواقع القاسي"! بكل أسف كانت أقواله فى هذا المؤتمر فرصة لبعض وكالات الأنباء والصحف لاكمال الرواية التى لم يروها بنفسه... AFP الفرنسية مثلا، عقبت على كل فقرة واستكملت بما يؤكد أن اسرائيل كانت فى موقف دفاع، فهى سيطرت على غرة بعدما خطفت حماس احد جنودها... ثم اجتاحت غزة بعدما هاجمتها حماس فى 2023 واسفر هجومها عن مقتل 1218 اسرائيلي!! وهكذا استغلت الصحافة الاجنبية جيدا ماقاله المخرجان فى المؤتمر دفاعا عن البشر !! بالتأكيد البشر أهم، ولكن تجنب أو تجاهل عدوك الحقيقى وجرائمه ضد البشر والحجر، واختزال قسوة الواقع فى فساد ودكتاتورية سلطة حاكمة حتى وإن كنا نرفضها، حقيقة منقوصة وفرصة تهديها لأعدائك لتزييف الواقع والوعي. قبل انطلاق أحداث "كان ياما كان فى غزة"،يطل علينا الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بتصريحاته المستفزة حول تحويل قطاع غزة لريفييرا الشرق الأوسط، لكننا نعيش مع بطلى الفيلم عام 2007 بداية سيطرة حماس على غزة، الحياة تبدو طبيعية فى القطاع، أسامة ويحيى تجمعهما الصداقة وتجارة المخدرات، فى مطعم الفلافل الذى يديرانه، فى الخلفية إعلان بالتليفزيون عن فرصة لقضاء عطلة بشاطئ الريفييرا، تحت الشمس المبهورة والسماء الصافية، والصديقان مشغولان بإخفاء أقراص المخدرات التى قاما بسرقتها بالاحتيال على الأطباء والصيدليات المختلفة، يدس الصديقان الأقراص فى سندويتشات الفلافل لتهريبها، وهو مايعرفه أبو سامى ضابط الشرطة الفاسد والذى يحاول أن يعرف من أسامة أسماء شركائه لكنه يرفض الإفصاح عنهم ،يضغط عليه ليقتسم معه أرباح المخدرات، وتشتعل الأحداث، التى تنتهى بقتل أسامة. يمر عامان تقريبا، الحياة بلا روح، و قد فقد يحى صديق عمره، وقضى الاحتلال على أحلامه بالسفر للدراسة، إلا أن الصدفة تقود أحد المخرجين لاختيار يحيى ليلعب بطولة فيلم دعائى عن أحد رجال حماس، بعدما لاحظ تشابها بينه وبين الشخصية التى يقدمها الفيلم، يقبل يحيى بالدور، ليبدأ تصوير "المتمرد" أول فيلم أكشن يتم تصويره فى غزة، كما يأتى فى الأعلان له - يشير إلى فيلم "عماد عقل" الذى أنتجته حماس وعُرض عام 2009 - ويشير المخرجان الأخوان ناصر لسيطرة حماس على كل مناحى الحياة، وتسخير كل الإمكانات لتحقيق أهدافها، وان فشلت محاولتها لاستخدام السينما كسلاح دعائي، بسبب القيود الشديدة التى تفرضها. يحضر يحيى اجتماعات مع وزارة الثقافة التابعة لحماس، فيصدمه العقلية التى تدير وتتحكم، وتفرض عليهم استخدام أسلحة حقيقية بدلا من المؤثرات والخدع بسبب ضعف الميزانية المرصودة للفيلم!. تتوالى الأحداث، ويعود الظابط الفاسد أبو سامي، وقد تمت ترقيته وازداد نفوذه، يحاول الضغط على يحيى مستغلا هذا النفوذ، ويظل المخرجان يتابعان تفاصيل قسوة الحياة تحت قيادة حماس وفساد أذرعها، وفى الخلفية نلمح ظلالا للاحتلال من خلال طيران يراقب، وفى القلب المواطن الغزاوى يدفع الثمن وحده...والفيلم يبدو بعيدا عما نحن فيه الآن، لكنه يبدو تمهيدا أو سببا لما يحدث وهو رسالة مرفوضة فى هذا الوقت! كوميديا سوداء تهيمن على الفيلم خاصة جزئه الثاني، بعد بداية تصوير الفيلم الدعائى "المتمرد" وما يصاحبه من حوارات واجتماعات ومؤامرات، فى محاولة للتشبه بفيلم سيرجيو ليون "كان ياما كان فى نيويورك" الذى اقتبس الأخوان ناصر منه الاسم والفكرة الرئيسية فسيطر التشتت والارتباك على فيلمهما "كان ياما كان غزة"... ربط سيرجيو ليون فى فيلمه الرائع بين الفقر والبؤس الذى سيطر على أمريكا فى فترة الكساد الكبير وبين ارتكاب الناس للجرائم وتحول اخلاقهم، وكيف دفعهم العوز إلى التورط فى عالم الجريمة، وهو ما حدث مع بطلى فيلم "كان ياما كان فى غزة"، وربط ليون أيضا بين الفساد والسلطة، واستغلال الكبار للنفوذ، وهو ما طبقه الأخوان ناصر على فيلمهما أيضا، غير الانتقال بالسرد بين الأزمنة المختلفة وهو ما أربك "كان ياما كان فى غزة". والموسيقى لأمين بوحافة مستوحاة أيضا من فيلم "الأب الروحي"! الفيلم تم تصويره فى الأردن مثل أفلام الأخوين ناصر السابقة ومنها فيلمهما الرائع "غزة حبيبتي"... لعب بطولته إسحاق إلياس ونادر عبد الحى ورمزى مقدسي، تصوير كريستوف جرايلوت.