ياسمين مجدى استنطاق الماضى والاحتفاظ بالموروث الاجتماعى، يحدث عبر «حكايات منسية» للكاتبة سعاد سليمان (الدار المصرية اللبنانية)، التى تنبش ذاكرتها وذاكرة أسرتها، لتوثق المنسى من قرى الصعيد، والمجمعات السكنية فى الإسكندرية، وما تبقى من سيرة المماليك والحملة الفرنسية. تنهار مع تلك الوثيقة الروائية صلابة الصعيدى الخارجية ويبدو من الداخل إنسانًا يصارع الفقر والتقاليد والحروب التى حصدت أبناءه. تخبر الكاتبة سعاد سليمان أنها استلهمت بعض ذكريات أسرتها، فالحديث عن أسرة صعيدية هو حديث عن أسر كثيرة عبرت مرحلة عبد الناصر والسادات، بحثت عن الرزق، وسافرت من الصعيد إلى الإسكندرية. أسرة يرعاها الأب بمرونته وهو يرضخ وينحنى للموج، وجمود الأم وتمسكها بذكريات عز أبيها والتزامها بالتقاليد الصارمة، يغلف ذلك النظرة المتدنية الموروثة للمرأة التى قاومتها بطلة الرواية على مدار حياتها، فنالت بسببها إهانات متلاحقة. البطل الحقيقى يبدو الأب والابنة علياء كأنهما أبطال الرواية، لكنهما يتراجعان أحيانًا كراويين شفهيين، ويتقدم البسطاء المروى عنهم، المعجونون بالتاريخ وسير الحروب والفقر ليصبحوا أبطال الرواية. يروى الأب حكاياته الشفاهية عن لملوم وأحفاد المماليك وأم الصبيان التى منحت العهد للنبى سليمان، فى «بلدنا الصغيرة دى، حاربت الفرنساويين أيام أبونارته». يتشابك فى رواية الأب التاريخ الشخصى بالتاريخ الوطنى، وتصبح القرية نموذجًا ومثالًا لحياة قرية مصرية عبر الزمن. يضاف إليها رواية الأم لقصص الفلكلور الشعبى، عن الأفراح والمآتم وأغانيهم، والسير المجهولة التى نساها التاريخ وبقت أسماء أصحابها دلالة على الفقر أو قلة الحيلة والخيبة. وكلما قالت الأم كلمة «شتومة»، أو «آهر» وغيرها من الكلمات شديدة المحلية مهدت لغتها المنطوقة للولوج إلى عالم القرى المجهول. الخط الرئيس للعمل هو ما يرويه الأب والأم، وتتقاطع معهما بضعة مشاهد تعكس العلاقات العائلية بين البطلة علياء وأبيها وأمها، ثم تنتقل فى النصف الثانى لذكريات البطلة الخاصة عن المهمشين فى المجمع السكنى بالإسكندرية، ليتحولوا من مجرد فقراء إلى كائنات مدهشة، يشربون الكونياك، ويدبرون آلاف الجنيهات بعمل الجمعيات، ويصرحون برغباتهم الجنسية. يشترك المبنى فى حمام واحد، الخراء يحيط بالوعته، ويسافر بعض سكانه إلى ليبيا والعراق، ويبيع بعضهم القماش، وتفوح رائحة الفطير الذى تخبزه النساء أمام أبواب الغرف. اعتمد العمل على النهاية الدائرية، فيعود بنا إلى المشهد الأول الذى انهد فيه البيت. وتعد المؤلفة فى الختام بجزء ثان للعمل عنوانه: «إيواء مؤقت». اللغة الشفاهية غلبة الرواية الشفاهية جعلت اللغة العامية تطغى على أغلب النص. فالأب راوٍ رئيسى يروى بالفطرة، والابنة علياء راوٍ وسيط، تدوّن خلفه ما يقوله، فتقع فى مأزق تحويل النص الشفاهى إلى نص مكتوب، بسبب تحديات اللغة وحركات الجسد والوقفات وطريقة الاستئناف والانفعالات المصاحبة للحكى، وهو ما يعكس عجز المكتوب عن مواكبة الشفاهى، كما يفسر سر الحياة المتدفقة الطازجة عبر الحكى الشفاهى، والتى تنتقل من جيل إلى آخر بمذاقها الأصلى، تقول البطلة: «لهجته الصعيدى طوفان لا أستطيع اللحاق به، بعضه أحوله إلى معان يمكن كتابتها بسرعة. أصبحت فى ورطة: كيف أسجل كل تعبيرات وجهه، انفعالاته، لغة جسده العصية على الوصف!» تقاطعت الحكايات الشفاهية مع بعض التعقيبات للابنة وهى تروى عن حياتها الخاصة وأبيها، فامتدت اللغة الفصحى فى هذا الشق الآخر. لعبت اللغة دورًا محوريًا للحكاية مع وجود مفردات هى ابنة اللغة الشعبية، ومفاهيم وتراكيب شعبية منحوتة، مثل: «جالوص الطين»، و«العمود» الذى يعنى المقابر، كما توثق الرواية مفردات الموروث الاجتماعى الشعبى، «قوالح القيضى الذرة للمعسل» نموذجًا. بالإضافة إلى الأمثال الشعبية مثل: «هربت من الغلب بالقطر، سبقنى بالطيارة»، «أمى تغطينى بشعر الراس.. وتخاف عليا من حديت الناس». كما تعمل الرواية على تفسير الأمثال والرموز الشعبية التى تستعمل كرمز لحكاية تختزلها الأجيال فى اسم بعينه، فتفسر لنا من هى «هنه» و«بنات شوشة»، فهنه هى امرأة أعارت ما تملك من سمن وقمح حتى صارت شحاذة، أما بنات شوشة فهن بنات غجر يتشاجرن بصوت عال. ينال هذا التوثيق أهميته لأن الأجيال تتناسى الحكاية ويبقى الاسم بدلالة مجهولة الأصل. تضم الرواية أغانى، مثل: أغانى الزفاف: «دم العروسة أحمر كما الرمان.. من فرحته فطفط على القفطان». استعمل النص الهوامش، ففسر بعض المفردات التى لا يتضح معناها، وفى بعض الأحيان بدت الهوامش زائدة عن الحاجة. قهر المرأة يقسو الأب على ابنته علياء، حتى إذا لمح خصلة منها على جبينها يستخدم المطواة لقصها، و«يذبح أظافرى بالموس إذا طالت»، يحمى الأب بذلك ميراثه المتجذر، الذى يجعل المرأة واجهة الشرف، ومظهرها هو معيار قيمى للعائلة. تصف البطلة أباها بأن ملامحه «منحوتة من صبر وقهر»، فتزيح عن الأب تهمة الأب القاسى، ويصبح حلقة فى سلسلة طويلة من القهر، فهو يعانى الظروف السياسية والاقتصادية، وأخوه يقهره ويستولى على ميراثه، فيلجأ الأب ليقهر الأم ويضربها بعنف شديد، وبدورهما الأم والأب يقهران الابنة الأنثى، فيتسلط القهر على الأضعف، فى سلسلة لا تنتهى، حيث المرأة/ الابنة هى تلك الحلقة الأضعف. تعالج البطلة بالحكاية سلسلة القسوة وتمحو تاريخًا مؤلمًا وتستعيد أباها عبر الحكاية: «احك، امح عنى وعنك كل هذه الغربة التى أضلتنا طويلًا». قد يبدو قهر الأب/ الذكر لابنته منطقيًا بسبب المفاهيم المتوارثة الخاطئة، لكن انحياز الأم وقهرها لابنتها (الأنثى للأنثى)، هو الأقسى، فتصفع ابنتها لأنها سعيدة بنجاحها، بينما «صبيان البلد ساقطين». يعود خط القهر ليرتد من الاتجاه الآخر (الأنثى الابنة إلى الأنثى الأم)، فالابنة لا تتعاطف مع الأم، وتقول: «مالى أظلمها؟! حاولت التعاطف معها». يتذبذب موقف المجتمع الصعيدى تجاه المرأة، فمن ناحية هى المرأة ذات المشورة، فتضيف بحكمتها، مثل: «حكمة وشخصية الحاجة سعاد»، و«الحاجة آمنة كانت ع تحكم بيت بحالة، برجالته ونسوانه، الزرع والغلة والخزين، توزع النوايب بالعدل، عمرها ما ظلمت حد». ومع ذلك يتبنى المجتمع أقوالًا تقلل من قيمة المرأة، مثل: «جنس الحريم فقرى، اللى يعززها يموت بدري». يبقى التحرش بالمرأة ضمن المسكوت عنه، سواء داخل الأسرة أو خارجها، ويتم لومها، وضربها، والتعامل بالإنكار باعتبارها واهمة أو مصدر للغواية. حكاية المنسيين فى تصميم الغلاف يوظف الفنان يوسف الشريف مفردات سياسية قومية، مثل: «فلسطين»، «الشعب يقول لا»، «قواتنا تتوغل داخل إسرائيل»، وهى عناصر بصرية تخدم أجواء الرواية التى سردت لوقائع الحروب، مثل الفالوجا، وحرب 56. تدور الرواية فى فلك ثلاثة أزمنة، الأول هو الزمن التاريخى المروى عنه، مثل أيام المماليك، ثم زمن الفلاش باك حيث تسترجع البطلة ذكريات أسرتها من عنف وسفر ورحلة حياة، والزمن الثالث هو الزمن المعاصر الذى يجلس الأب أو الأم إلى ابنتهما علياء لرواية ما جرى وتسجل خلفهما، كأنه زمن صفرى تنطلق الرواية منه موغلة فيما سبق. «حكاية» هو الأكثر ملائمة من «رواية»، لأن العمل يستنطق الحكايات المسكوت عنها فى ذاكرة الأب والأم ويحولها من حكايات شفهية قابلة للضياع إلى حكايات مسجلة. لذلك غاب الخط الواحد الذى يضم العمل، وانقسم بين حكايات متفرقة يستحضرها الأب والأم من التاريخ البعيد أو القريب أو مخزون الموروث الشعبى لديهم، بالإضافة إلى ذكريات البطلة علياء نفسها عن سكان حوش آدم بالإسكندرية. ترصد البطلة علياء حكايات المحيطين، وتسميها «حكايات منسية» بينما هى المنسية الحقيقية وسط الجميع، لكنها تتحدى النسيان بمواصلة تعليمها وتحدى التقاليد وكسر العار الذى يتحرك معها لمجرد كونها امرأة، فغادر الجميع مدارسهم، وصمدت هى لتغادر عالم الجهل. تبحث علياء عن نفسها، ف«الصعايدة... يتحملون الألم فى جلد وصمت»، لكنها تختار أن تكسر الصمت، وفى كسره تمرد على ميراث طويل عانته من القهر.