تقول «شمسة» لصديقتها «مروة»، وهما يتحدثان عن التاريخ: «هناك تاريخ، لكن كتابته تختلف وتأتلف، ومن الاختلاف والائتلاف تستطيعين استخلاص بعض الملامح منه، فلا أثر للماضى سوى بما نحاول تأكيد وجودنا فيه». والتاريخ الذى تقصد إليه «شمسة» فى هذه الرواية على نحو ضمنى هو تاريخ المرأة الخليجية التى لا تزال تعانى من القمع الذكورى. ومن اللافت للانتباه أن القمع فى رواية «شمسة» يتحول إلى قتل واضح لمرآتها الرمزية «آمنة» التى ينتهى مصيرها المعلن– على الأقل- بالقتل على يدى «يوسف» الذى ظل يعاملها معاملة الأَمة، ولكن «آمنة» تتحول بعد مقتلها المادى الذى نراه للمرة الأولى إلى شبح مثل بقية الأبطال الذين يتحولون إلى أشباح أو توهمات، كما هو الحال مع «مرهون» وغيره من الأبطال الذين يخلقهم خيال «شمسة»، فى فعل التعويض النفسى أو فى فعل الموازاة الرمزية للواقع الذى لا يخلو من العنف، بل الذى يبدو العنف علامة عليه، وهو الأمر نفسه الذى يجعلنا نرى «مرهون» أكثر من مرة بعد موته فى الحكاية الأولى التى تحكيها «شمسة». ولكن من المؤكد أن للحضور النسائى فى الرواية ثقله ووزنه؛ فأغلب الشخصيات فى الرواية شخصيات نسائية، وهى غالبا ضحية للشخصيات الذكورية التى تبدو قامعة على مستوى الغياب والحضور فى آن، ولذلك يمكن أن نلمح تضادًا ثنائيا بين الذكورة والأنوثة فى الرواية؛ فالذكورة قامعة فى كل الأحوال والأنوثة مقموعة، والواقع تستبد به الذكورة التى تمتلك مصائر الأنوثة وتتصرف به كما تشاء. وعندما تريد الأنثى أن تخلق لنفسها عالما خياليا تتحرر فيه وتمارس حضورها الوجودى الخلاق فإنها توأدُ على الفور، ويُقمع هذا الحضور إما بالقتل أو السجن أو الإهمال بكل المعانى الحقيقية والرمزية لهذه المفردات. ولهذا لا تملك الأنثى إلا الحضور الخيالى على مستوى الخيال أو فى عالم التوهمات أو المتاهات بلا فارق. وعندما تنتقل «شمسة» من متاهة إلى متاهة فى حرية الفعل الخلاق للخيال، فإن الفعل الخيالى، حتى على مستوى خلق المتاهات، يبدو فعلا مقموعا فى حال، وهاربا من القمع فى حال أخرى. ولكنه فى كل الأحوال يبدو فعلا تعويضيا، فما الذى تملكه المرأة، أو «شمسة» فى هذا العالم الذى نراه؟ إنها تستنسخ دور جدتها وتكون مثلها صانعة للحكايات كأنها باندورا التى تفتح الصندوق السحرى للحكايات فتنطلق منه الحكايات منفلتة بلا نسق أو رابط سوى مجرى التداعيات الحرة، للبحث دائما عن مجال متوهم لنطق كل ما هو مسكوت عنه، وللتمرد على العنف الواقع بين ثنائية القامع والمقموع فى كل مستوياتها. وعندما تمارس «شمسة» دور جدتها من حيث هى صناعة متاهات أو حكايات، فإنها تمارس فعل حريتها لكن على مستوى التوهم الذى هو الوجه الآخر للمتاهة. وكما لا تتوقف حكايات الجدة التى تخوض حفيدتها «شمسة» من سرداب إلى سرداب إلى سرداب بلا نهاية، فإن متاهات «شمسة» أو حكاياتها الخيالية لا تتوقف ولا تبدو لها نهاية، وحتى عندما تنتهى الرواية فعليا، فإننا نشعر كقراء لها أنها لا تنتهى وأن حضور «مرهون» و»آمنة» الخيالى يظل مستمرا معنا كما لو كان يقوم بدورة جديدة من دورات الحضور الخيالى فى العالم السحرى الذى تقودنا إليه الرواية. فنحن نغلق الصفحات الأخيرة حقا، ولكننا نظل متوقعين تجليا آخر من تجليات حضور «مرهون» و»آمنة» فى المنطق الدائرى الذى يتقلب به الحضور الخيالى لكل من هاتين الشخصيتين وأشباههما على امتداد السرد، ولذلك يظل خيال القارئ معلقا بالحضور الخيالى ل «مرهون» على سبيل المثال متوقعا له ظهورا آخر لا يتوقف تماما مثل كائنات باندورا التى انطلقت من صندوقها التى فتحته فى غفلة من الآلهة؛ إرضاءً لفضولها. ولكن صندوق «شمسة»، كصندوق جدتها لا تخرج منه الشرور، وإنما تخرج منه الحكايات، حاملة معها ما تبقى فعليا فى صندوق باندورا، وهو الأمل الذى يظل واعدا بإمكان الخلاص. وعندما تفتح أم «شمسة» صندوق أمها– أو جدة شمسة- فإنها تفتح– فى فعل رمزى- خزانة الخيال المقموع ل «نوعها»، فتنطلق الحكايات الشفاهية بلا عائق، وفى عالم أشبه بعوالم الأساطير والحكايات الشعبية، حيث تنداح حدود الزمان والمكان وننتقل من متاهة إلى متاهات. ولكن علينا ملاحظة أن المتاهات فى هذا السياق تؤدى دور التعمية أحيانا، فتساعد على وجود المجازات والرموز التى تومئ ولا تصرح، تشير ولا تنطق، فتناور بحضور المسكوت عنه كى يكون منطوقا. وصندوق الباندورا فى رواية ميسون، هو الحضور الأنثوى الذى لا يطلق إلا الحكايات المتمردة على القمع، ولذلك فهى حكايات شفاهية بالمعنى الذى قصد إليه الروائى «طارق إمام» عندما تحدث عن ثنائية الشفاهية والكتابية فى رواية ميسون، فلفت نظرى إلى الثنائية بين مكتبة الوالد المكتوبة أو التى تمثل– بمعنى ما- التاريخ الرسمى فى موازاة حكايات الجدة التى تمثل التاريخ الشفوى الذى ينطوى على معنى أنثوى متمرد، كما لو كان يستعيد بمعنى من المعانى ثنائية جاك دريدا بين المكتوب والشفاهى أو الكتابة والنطق؛ فالكتابة ثابتة ومثبّتة بينما الصوت متحرر منطلق، وهذا هو الحضور الشفاهى أو الأنثوى فى القص، ولذلك لا تأخذ المرأة حريتها المطلقة إلا على مستوى الحكايات، كما لا تمارس «آمنة» حريتها الكاملة إلا على مستوى التوهمات كأنها الصورة البدائية ل «شمسة» التى تحلم– على مستوى السرد- بحضور عادل أو منصف للمرأة فى مجتمع أكثر عنفا فى التعامل معها. ومن الطريف، والأمر كذلك، ملاحظة أن «شمسة» لم يكن لها أصدقاء فى الرواية، فكل أصدقائها من بنات نوعها، وكل صديقاتها اللائى نراهن فى القص من بنات جنسها وحتى قبل رحيلها مع صديقتها «مروة» لا نرى معها فى المنزل إلا الأم والجدة، فالأب كان دائما مرتحلا بحكم عمله سفيرا لبلده. وهذا نوع من رد الفعل على القمع الذكورى فى الرواية ولكن على مستوى اللا وعى النصى. ولهذا تؤكد «شمسة» أنها تريد رؤية العالم حقا كى ترى غيرها، ولكن بما يعنى أن حرية حركتها تبدأ من ذاتها ولا تبدأ من اعتراف أحد بها، ولذلك تتخيل نفسها أحيانا– على مستوى التوهم- سمكة تنطلق حرة فى البحر تبحث عن شاطئ يوتوبيا من اختراعها، غير عابئة لأى جدار. وهى تعرف أنها لا تقف على أرض صلبة، وأن خلاصها هو خلاص بنات جنسها على مستوى عالم الخيال والحضور الشفاهى للحكايات. ولكن هنا تبدو الحكاية الخيالية كالصدق العريان وتنطق كل مسكوت عنه ولو على سبيل الإشارة. ولذلك فعلى قارئ رواية «شمسة» أن ينتقل من الظاهر إلى الباطن، كما ينتقل صائد اللؤلؤ من السطح إلى أعماق البحر. حتى البحر نفسه يتحول فى الرواية إلى موازٍ من موازيات اللا وعى النصى الذى يرسل لنا إشاراته التى تومض كأنها لآلئ محبوسة فى المحارات، فالنطق يرتبط بحضور لؤلؤة فى الفم (راجع ص 439)، والصمت أيضا يرتبط بحضور لؤلؤة تحتجز الكلام فى الفم. والخليج نفسه يبدو واهبا للؤلؤ وواهبا للردى أو الموت كأنه صورة أخرى من اللا وعى النصى الذى يصنع متاهات عن الردى ومتاهات عن الحياة. وقبل أن تموت «آمنة» مرآة «شمسة» تخبرنا بأنها ظلت معلقة فى المابين، وأنها وضعت قدمها على أول طريق موتها عندما قررت أن ترى ما خلف عالمها المحدود والمحاصر والمحتجز والذى يتكرر فيه القمع كأنه أمواج لا تتوقف عن التتابع. وعندما تصف «شمسة»– على مستوى الوعى- مأساة «آمنة» بأنها ظنت نفسها فى البراح: «تذهب وتجىء، تسكن أينما حلت، لكنهم اجتمعوا ضدها كلهم وقرروا وضع حد لما تقوم به وإلا فعل مثلها الكثيرون». وهذه هى مأساة «آمنة» التى هى تمثيل لنوعها ، على مستوى التوهم وعلى مستوى الواقع على السواء. وإذا استرجعنا ما قلته من أن «آمنة» هى مرآة «شمسة»، وأن كلتيهما من مرايا الكاتبة الخليجية التى لا تنسى خليجيتها، يمكن أن ندرك المغزى النهائى لطبيعة التمثيلات الرمزية داخل كتابة التوهمات أو المتاهات بلا فارق. فهى فى الظاهر: «كتابة لا تسير على منهج أو واقع». ولكنها فى الباطن كتابة كنائية ورمزية تلفت انتباهنا إلى أن نتوقف ونتأنى إلى ما تقوله الإشارات والرموز، بل المتاهات والتوهمات؛ فالرواية من صفحة الغلاف تنطق غير ما تبطن، ولذلك لن ينخدع القارئ النبيه إذا لاحظ صورة مارلين مونرو بوجهها الفاتن وعقد اللؤلؤ الذى يزين رقبتها الساحرة، فما فوق وجه مارلين مونرو لابد وأن يلفت انتباهه، فخريطة الخليج تبدو ظاهرة كأنها تبين ولا تبين، من داخل مساحة الشعر الناعم إلى أعلى الفم كأنها تقول لنا لا تغرينكم فتنة وجه مارلين مونرو عن واقع الحضور الأنثوى فى الخليج، فهو واقع يستحق الكلام، ولكن الكلام محتجز ولا سبيل إلى القول فيه إلا عبر المتاهات والتوهمات؛ فالعقد الذى نراه كالعقود التى لا نراها، تجسيد لتاريخ من الغبن والقهر الذى قد يكون مستمرا إلى اليوم. لمزيد من مقالات جابر عصفور