منى عبدالكريم كنا نستعد للرحيل من البيطاش فى العجمى والشمس على وشك المغيب.. ألتفت لألقى نظرة أخيرة على فيلا داوستاشي، هذا الفنان العملاق الذى كان يخشى أكثر ما يخشى أن يطوى النسيان سنوات عمره التى أفناها فى حب الفن منذ أن كان فى العاشرة من عمره مبدعًا مئات الأعمال الفنية بمختلف الخامات فى الرسم والنحت والتصوير والأعمال المركبة والكولاج. كانت زيارة لا تنسى مضى عليها ما يقرب من تسع سنوات، رحلة طويلة قطعتها من القاهرة للإسكندرية لاستكمال ملف كنت أقوم بالإعداد له آنذاك حول أهم كتب الفن التشكيلى التى صدرت فى 2016، والذى تطرقت من خلاله لإشكاليات النشر فيما يتعلق بكتب الفن التشكيلى وأهم ما تضمه المكتبة العربية، والجهات المسئولة عن إصدار كتب الفنون فى مصر سواء داخل وزارة الثقافة أو خارجها. ملف حاولت من خلاله الإجابة عن أسئلة كثيرة كانت تقفز أمامى على مدار ما يقرب من شهرين. كانت محطتى الأخيرة فى رحلة البحث عن منابع كتب الفن التشكيلى فى مصر، هو ذلك اليوم الذى قضيته برفقة الفنان عصمت داوستاشى فى متحفه ومرسمه بالإسكندرية مع زميلى طارق الطاهر وإسراء النمر. رحلة عدت منها محملة بمجموعة كبيرة من كتب داوستاشى قدمها خلال مشواره الفني، وكذلك عشرات الصور والمعلومات التى ساعدتنى كثيرا فيما فشلت فيه جهات عديدة آنذاك، لتبدأ الحكاية بمطالعة صورة قديمة صغيرة بالأبيض والأسود أمسك بها الفنان بحنين غريب لمنطقة راقية هادئة تقع فى البيطاش بالعجمى حين اختار عصمت داوستاشى أن يشترى قطعة أرض فى السبعينيات تصلح لأن تحتضن جموحه الإبداعى ويبتعد بها عن ضوضاء المدينة، يجاور فيها عمالقة الفن التشكيلى من أمثال النحات الراحل محمود موسى. كانت الصورة قديمة وجميلة.. تغاير المشهد الملون الفج الذى اصطدمت به عينى فى الواقع حيث تحول الحى الراقى إلى منطقة شبه عشوائية، حارة ضيقة تصطف فيها بنايات ضخمة انتشرت بسرعة النار فى الهشيم بعد ثورة يناير.. ليجد الفنان نفسه غريبا فى تلك المنطقة التى عاش فيها سنوات عمره الفنية غير قادر على مغادرتها والبدء من جديد، وغير سعيد بالاستمرار فى عشوائية تضغط على روحه بقوة. إجابة السؤال الذى سافرت من أجله إلى الإسكندرية حول أهم الإصدارات التى قدمها عصمت داوستاشى لمكتبة الفن التشكيلى سواء بالتعاون مع وزارة الثقافة، أو منفردا من خلال مبادرته فى إصدار سلسلة منذ السبعينيات تحمل عنوان «كتالوج 77» على نفقته الخاصة، تحولت لجولة فنية ثرية بين أعمال داوستاشى التى ابتاع لها فيلا وحولها لمتحف يضم كافة الأعمال التى تؤرخ لمشواره الفنى بما فى ذلك التصوير الفوتوغرافى الذى خصص له ركنا منفردا بمتحفه، وهو الجانب الذى ربما لا يعرف عنه الكثيرون شيئا، مرورا بأعماله المركبة التى كانت طفرة حين قدمها، وعشرات اللوحات التى توثق لمراحل فنية هامة منها مرحلة الكف، ومرحلة السهم، والأعمال المركبة. وقف داوستاشى فى شقة تقع فى البناية المواجهة للمتحف، كان قد اشتراها خوفا من اجتياح الفوضى أثناء فترة ثورة يناير 2011، حمل أشيائه التى يخاف عليها ليحميها بشقته الجديدة، وأمام تمثال نصف مهشم قال بصوته فيه مرارة العاشق الذى فقد حبيبته: «هذا التمثال انتزعته من تحت معاول الهدد التى كان المقاول يقوم بها فى فيلا محمود موسى بعد أن باع ورثته الفيلا، هذا التاريخ الفنى الذى لحقت منه ما لحقت، وضاع منه ما ضاع». ليتحول ما تبقى من محمود موسى إلى كتاب هو الأول الذى يتناول تاريخ هذا الفنان العبقرى الذى لولا وجود داوستاشى لربما طواه النسيان. وضع داوستاشى تلك القطعة الفنية بجوار عشرات الأعمال الفنية التى اقتناها عبر مشواره الفنى ليؤسس متحفا ثانيا لزواره. تسجل مجموعته تاريخ 150 عاما من الفنون الجميلة، وليس هذا فحسب بل تتحول الشقة الصغيرة لمركز توثيق ضخم يضم الأعداد الكاملة للمجلات والجرائد الفنية والثقافية حتى أننا وقفنا مدهوشين نتأمل الأعداد الأولى لجريدة أخبار الأدب التى احتفظ بها مسلسلة فى نظام مدهش، إضافة إلى كافة كتالوجات المعارض الفنية حتى أنه يذكر تلك الواقعة التى وجد فيها كتالوج معرض الفنان مصطفى الرزاز الأول بينما هو شخصيا لم يكن لديه نسخة منه، وقد حصل عليه من أرشيف سعد الخادم، وهذا بخلاف عشرات الوثائق الهامة. كنت كلما سألت داوستاشى عن معلومة قال لي: انتظرينى ثم يلتفت لركن ما يبحث فيه عن وثيقة يجيب بها عن سؤالى بلا مبالغات وبلا تخمينات. عشرات الأرفف والأدراج التى تحمل كتبا وملفات ومسودات وكتالوجات توثق لتاريخ الفن التشكيلى المصري، وصناديق تحمل كل مقتنيات وأوراق سعد الخادم وعفت ناجى التى يحتفظ بها بحكم صلته الوثيقة بهما، وبحكم الوصية التى أوصتها إليه عفت ناجى بأن يكمل المسيرة وكان خير مؤتمن على ذلك الميراث الفني. داوستاشى قام بدور مؤسسات عدة ومنحنى إجابات فشلت فى الحصول عليها من العديد من الجهات التى لجأت إليها وقتها، قام بالتصنيف الدقيق للفنانين التشكيلين أبجديا.. ففى مجموعة أدراج معدنية تتراص الأظرف المرتبة أبجديا بأسماء الفنانين وبداخل كل ظرف جمع عصمت كل ما يخص هذا الفنان من معلومات وكتالوجات معارض، وربما لذلك لم يكن عصمت ناقدا وموثقا مهما للحركة التشكيلية فحسب، ولكنه أيضا خير عون للباحثين والنقاد فإليه يرجع الفضل فى ذلك الكتاب الذى أصدره الناقد شوقى عزت عن عفت ناجي، ومجموعة الكتب التى أصدرها السفير يسرى القويضى عن محمد ناجى وسعد الخادم.. وغير ذلك. يقول داوستاشى فى مذكراته التى أطلق عليها «كناسة المرسم»: كانت الكتب بمثابة مدرستى الثالثة فى تعلم الفن، وهى مصدر ثقافتى العامة التى حرصت على تنميتها دائماً. ومن الكتب أحببت جمع المعلومات والوثائق والاحتفاظ بالأشياء، وأرشفتها وتوفير المراجع تحت يدى وهو الأمر الذى أنتهى بى إلى ما أنا عليه الآن من ورطة كبيرة فى حجم ما أحتفظ به من محفوظات خاصة الورقية: كتب ومجلات ودرويات، ووثائق، وطوابع البريد، وكروت تذكارية وعملات وتذاكر المواصلات والبوسترات المختلفة، وكل ما هو ورقى يمكن حفظه من كتالوجات المعارض والصور الفوتوغرافية.. وكذلك الأفلام التى صورتها عن الفنانين سواء بكاميرا (8 مم سوبر) أو بعد ذلك بالفيديو، ثم ظهور الكمبيوتر وكأنه اختراع خصيصا لى ولتلبية هواياتى هذه وأصبح ما أحفظه وأرشفه إلكترونيا من الكثرة بحيث أنى أشترى أجهزة خاصة لحفظ مئات من الملفات والإسطوانات الإلكترونية لوضع المواد الفنية وكتاباتى عليها حتى لا تضيع، ودخلت فى متاهات كبيرة تجعلنى فى لحظة أقف أمام هذا الكم من المواد التوثيقية مشلولا لا أدرى ماذا أفعل بها أو ما هو مصيرها. وجدت لدى داوستاشى قائمة بأهم كتب ومجلات الفن التشكيلى التى صدرت فى مائة عام.. بداية من عام 1893حتى عام 2008، تلك القائمة تضمنتها «موسوعة الفنون التشكيلية المصرية .. مائة عام من الإبداع» والتى صدرت على هامش المؤتمر الأول لفنانى مصر التشكيليين فى الأقاليم الذى نظمته الهيئة العامة لقصور الثقافة فى 2008، وكان داوستاشى حرر لذات المؤتمر كتاب «ذاكرة الفنون التشكيلية المصرية فى مائة عام» وظل داوستاشى بعدها يحدث كل البيانات والمعلومات وينقحها لتصبح هى أكثر ما وقعت عليه تنظيما وتصنيفا عن الفن التشكيلى فى مصر وقتها، وتتضمن المعلومات كذلك أهم المعارض التى أقيمت كل عام ومكان إقامتها. وربما يعد هذا الكتاب واحد من عشرات المشروعات الفنية الفكرية التى تحمل بصمة داوستاشي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر كتاب «محمود سعيد» الصادر عن صندوق التنمية الثقافية عام 1999 .. إذ كان وقتها يعد واحداً من أهم الكتب عن هذا الفنان العظيم .. وقتها تمنى داوستاشى أن تتبنى وزارة الثقافة مشروع لإصدار 20 مجلد يتناول كل منها فنان من الرواد، مع عمل فيلم توثيقى ومستنسخات من لوحاتهم. ومن بين الكتب الأخرى التى أصدرها داوستاشى بالتعاون مع مختلف هيئات وجهات وزارة الثقافة «محمد ناجي» بالتعاون مع عز الدين نجيب ونبيل فرج الصادر عن متحف ناجى بوزارة الثقافة، وعالم المتاحف (سلسلة تراثنا المتحفي) الصادر عن هيئة قصور الثقافة، و«محمد ناجى فى الحبشة .. من يوميات الفنان عام 1932» بالتعاون مع يسرى القويضى والصادر عن صندوق التنمية الثقافية، وكذلك «مرجريت نخلة - راهبة الفن» والصادر عن هيئة الكتاب فى 2014. وذلك بخلاف العديد من المشروعات التى أنجزها داوستاشى والتى لم تخرج للنور فى حياته. ولعل الروتين الحكومى فيما يتعلق بالنشر والمشاريع المؤجلة وغير المنجزة هو ما دفع عصمت داوستاشى منذ فترة طويلة لأن يكون لديه سلسلة «كتالوج 77» ، نشر من خلالها العديد من العناوين المهمة ومنها «الدليل الموجز لتزييف وتزوير اللوحات الفنية»، و«الفنان وديع شنودة (دراسة)» عام 2003، ومجلد شامل عن عفت ناجى تحت عنوان «سحر الأشكال» فى 2005، و«محمد ناجى كما لم يعرف من قبل» والذى كتبه بالتعاون مع يسرى القويضى فى 2009، وكذلك كتاب تذكارى عن عبد المنعم مطاوع يتضمن دراسات ووثائق فى 2009وغيرها. وللفنان عصمت داوستاشى علاقة وطيدة بالفنانة عفت ناجى إذ عرفها عن قرب منذ عام 1973 وحتى رحيلها عام 1994، وقال عنها: «كانت صديقة أكثر من أستاذة تعلمت منها سلوك وأخلاق وعطاء الفنان العظيم واستلهمت منها روح التوهج الإبداعى وعظمة التراث المصرى والفنون الشعبية. وعفت ناجى من أهم فنانى الطليعة العرب وأستاذة فنانات مصر وهى وشقيقها رائد التصوير المصرى الحديث محمد ناجى (1888- 1956) وزوجها رائد دراسات الفنون الشعبية سعد الخادم ( 1913- 1987) وهم يمثلون المثلث الذهبى للفن المصرى الذى وجدت نفسى منذ شبابى المبكر فى قلب هذا المثلث أتعلم الفن وسط أصالة وجدية وقيم وتراث رواد عظماء رحمهم الله». ولا شك أن المتابع لتجربة داوستاشى يرى بوضوح انغماس الفنان عبر رحلته فى التراث المصرى وعشقه له ولمفرداته رغم عصرية منتجه الإبداعى حيث أشار هو لذلك بقوله: «انحصرت رؤيتى فى تراث بلدى الحضارى والشعبى واستلهمت الفنون التشكيلية بكل أبعادها بصرية وحركية وسمعية وصوتية وأصبح العمل الفنى عندى عملاً شاملاً بخامات مختلفة وأفكار محورها الإنسان المصرى فى زمننا الحاضر معبراً عن معاناته وأحلامه وطموحاته بتقنيات حديثة». سلسلة إصدارات «كتالوج 77» لم تتوقف عند كتب الفنون التشكيلية حيث تضمنت السلسلة العديد من إبداعات داوستاشى الأدبية كذلك ومنها «ديوان خيالات فنجان القهوة - كراسات داوستاشي»، و«حلاوة الروح» (الأعمال النثريه الكاملة)، إلى جانب عدد كبير من الكتب التى تناولت إبداعاته. وكان لابد أن ينول داوستاشى من الحب جانب حسب التعبير الشعبى، فعشقه للتوثيق دفعه - كذلك - لتوثيق تجربته الإبداعية فى أكثر من مؤلف ومن بينها نجد كتاب «الرملة البيضاء» وهو عمل مكتوب بلغة أدبية يستعرض ذكرياته عن مدينة الإسكندرية، حيث ينسج عملًا يجمع بين سيرته الذاتية وسيرة المكان والناس، وكذلك كتابه التذكارى «عالم داوستاشي» الذى أصدره مع بلوغه الخمسين استعرض فيه رحلته الفنية الطويلة، وكذلك «كناسة المرسم»، والكتالوج الذى يضم أعماله الكاملة والذى صدر بالتزامن مع معرضه بجاليرى ضى بالقاهرة فى 2018، وهناك الكتب التى تناولت مسيرته الإبداعية ومن بينها «داوستاشي.. عبر أعماله الفنية» بقلم الناقد الفنان السفير يسرى القويضى والصادر فى 2021، ذلك بخلاف «وجوه داوستاشى» الذى أعده الفنان، وهو مجلد ضخم عن فن البورتريه الصادر عن جاليرى ضى والذى جمع فيه داوستاشى البورتريهات التى رسمها له الفنانون والأصدقاء وأفراد أسرته إضافة إلى الوجوه التى أبدعتها ريشة داوستاشى. والحقيقة أنه لم يكن من السهل أبدا توثيق كل ما أنجزه عصمت حتى عليه هو شخصيا، فلديه أكثر من 3000 عمل، عبر رحلة ابداعية امتدت لسبعين عاما بدأها وهو فى العاشرة من عمره، وثق منها ما يقرب من 75% بينما غاب عن التوثيق 25% حسب ما ذكره من قبل مشيرا إلى أن ما لديه 50 % فعليا فقط أما الباقى فقد ذهب بين الاهداء والاقتناء. يقول: «لقد كنت أعمل كل عام.. كل شهر.. كل يوم.. منذ أن بدأت ولم أتوقف أبدا.. ولم يكن يهمنى هل ما أقوم به فن أو لا فن.. كانت أعمالى دائما تجد كل التقدير من كبار نقاد الفن وكان هذا يرضينى.. ولكن حتى لو كان رأيهم غير ذلك لما توقفت أبدا عن الرسم والتلوين والنحت واللعب بالخامات المختلفة.. كان ما أنجزه هو حياتى.. متعتى فى هذه الدنيا.. لم أكن أنتظر من أعمالى أى شىء.. وحتى عام 1975 كنت أرفض أن أبيعها.. ولكن حسنا أنى تراجعت عن موقفى هذا». من ورشة الوحش إلى صورة شخصية جداً لك يمكن تقسيم أعمال داوستاشى حسب ما ذكره من قبل إلى مرحلتين أساسيتين الأولى من عام 1953 إلى عام 1972 قرابة عشرين عاما من سن العاشرة الى سن الثلاثين، من بداية خروجه من رسوم الطفولة إلى رسومه كفنان شاب هاوٍ يعلم نفسه الفن ثم يدرسه هنا وهناك، حيث بدأ رحلته مع الفن من دكان الوحش الرسام والخطاط الموجود أسفل منزله بشارع وكالة الليمون بحى بحري، والذى أصبح كما قال عنه داوستاشى «هو ودكانه مدرستى الأولى الحقيقية فى حياتى الفنية المبكرة» وحتى التحاقه بكلية الفنون وتخرجه منها وسفره للعمل بالخارج ليتزوج وتنجب له زوجته ابنتيه التوأم سحر وساميه وهو مازال يرسم فى اتجاهات كثيرة حتى يرسم لوحته المهمة «صورة شخصية جدا لك» تلك اللوحة التى كتب عنها الناقد مختار العطار قائلا رأينا داوستاشى يقوم بطقوس معينة قبل وبعد وأثناء كل معارضه من بين هذه الطقوس أنه منذ عام 1972 يتعمد وضع صورة معينة فى الصدارة. لوحة زيتية بعنوان «صورة شخصية جدا لك» وهى لوحة نصفية لإنسان غريب الشكل، الرأس أقرب إلى الجمجمة.. عيون واسعة محملقة فى ذهول. يد مبهمة تتسلل من الظلام عن يمينه ترفع السبابة كأنما تصدر التعليمات. تخرج من باقى الأصابع أنابيب لينة كالخراطيم متصلة بجانبى الوجه المرسوم. إنها يد الأقدار التى تتحكم فى مصير الناس كما يتحكم لاعب «الماريونيت» فى عرائسه بالخيوط. وتعتبر هذه اللوحة بداية المرحلة الثانية والتى بدأ بعدها فى منتصف عام 1972 بمجموعة رسومه «الكف» واعتبرها عصمت بمثابة الأبجدية التشكيلية له حيث قال «منحتنى مجموعة الكف هويتى الفنية التى عرفت بها بتفرد.. كانت نتيجة ثقافة بصرية تعلمتها من فنون الحضارات الإنسانية، مع قراءة فى كل نواحى المعارف والآداب الإنسانية، جاءت رسوم الكف لوحدها لم أستدعها أو أبتكرها أو أنقلها من هنا أو هناك، وجاء معها اسمى الذى اشتهرت به بعد ذلك «داوستاشى». وقد كتب كل هذا فى سيرته الفنية الذاتية «كناسة المرسم» والتى نشر منها الفصل الأول فى جريدة «أخبار الأدب» العدد 939 الصادر فى 24يوليو 2011. وكان عصمت يرى أن الكف يحمل دلالات رمزية متعددة، مثل الحماية، القوة، والموروث الشعبي، وقد وظّفه فى لوحاته بأساليب مختلفة، حيث أضاف إليه رموزًا أخرى مثل الأسهم والعناصر التراثية. إن زيارة الإسكندرية كانت المحطة الأهم فى علاقتى بالفنان عصمت داوستاشي، كانت رحلة فى روح الفنان وعقل المثقف وقلب الإنسان، انتقلنا من المتحف إلى المرسم حيث المقتنيات والأرشيف، ثم إلى منزله حيث الدفء والمحبة وكرم الضيافة الذى عرفه كل من زاره فى بيته، ولكن علاقتى بالفنان عصمت داوستاشى ممتدة، فقد التقيت به وحاورته فى الكثير من معارضه. ولكننى أستعيد فى وداعه حوارنا فى معرض «أتون» الذى استضافه جالى أرت كورنر فى 2019، ففى شهر مارس من كل عام وتحديدا يوم 14 مارس يحرص جاليرى أرت كورنر على أن يخصص القاعة للفنان عصمت داوستاشى بمناسبة عيد ميلاده، وفى كل عام كان الفنان الكبير يحرص على اختيار واحد من شباب الفنانين أو أكثر لمشاركته العرض إيمانا بدوره فى دعم المواهب الشابة، وقد اختار داوستاشى الأب فى هذا المعرض أن يهدى مساحة العرض إلى ابنه الفنان الشاب عبد الله داوستاشى الذى اشتهر بأعماله الفوتوغرافية والحائز على جائزة الدولة التشجيعية فى مجال التصوير، إلا أن الابن أصر أن يكون المعرض مشتركا مع والده معلمه الأول وصديقه المقرب. وقد اعتبر هذا المعرض حالة حوار من طراز فريد إذ أنها لم تجمع فقط بين الأب والابن فى نفس قاعة العرض وإنما اختارا لغة مشتركة هى التصوير الفوتوغرافى الذى عشقه الفنان عصمت داوستاشى منذ شبابه وشارك بأعماله فى العديد من المعارض وحصل على جوائز دولية، كما أنه أحيا نادى الكاميرا فى أتيليه الأسكندرية. وفى المعرض المشترك تجاورت فوتوغرافيا الأب التى التقطت فى الثمانينات من القرن الماضى لأفراد أسرته وأصدقائه من الفنانين بكاميرا 6*6، مع فوتوغرافيا الابن التى التقطها بكاميرات ديجتال أو حتى بكاميرا الموبايل وغلب عليها الطابع التجريدي. وقد عكس المعرض فكرة تواصل الأجيال التى كانت تشغل بال الفنان عصمت داوستاشي، إذ أنه اهتم بفكرة التواصل مع الأجيال الأصغر دعما لهم ومع الأجيال الأكبر وفاءً لأساتذته ولاسيما للفنانة الرائدة عفت ناجى (1905- 1994)، حيث كان قد أقام معرضاً تحت عنوان «أرسم ما أحبه» الذى جمع بين مختارت من أعماله وأعمال أستاذته الفنانة عفت ناجى واستضافه جاليرى ضى فى 2019، وكان قد سبق تلك التجربة معرض «داوستاشى وعفت ناجى» عام 2013 الذى أقيم بقاعة أبعاد داخل متحف الفن المصرى الحديث، ويعد داوستاشى كما يقول عنه د . أحمد نوار من الفنانين المجددين والمحفزين للتفكير فى الفن، وقد احتضن الكثيرين من الفنانين الشباب الذين تعلموا معنى الفن الأصيل بمرسمه . إن رحيل الفنان عصمت داوستاشى لهو خسارة كبيرة لكل من عرفه، كنت أتمنى أن يحصل داوستاشى على واحدة من جوائز الدولة التى تم ترشيحه لها أكثر من مرة دون أن يحصل على أى منها وهو ما تركه فى حالة من الحزن.. ومع رحيله أتمنى أن يتم تكريمه بما يليق بمنجزه الإبداعي، فقد سعدت أن يتم تكريم اسمه ضمن المكرمين الراحلين بالمعرض العام، وأتمنى أن يظل اسمه حاضرا بأعماله الفنية وبمتحفه وبكل تلك المؤلفات التى تركها لينتصر داوستاشى أو المستنير دادا على النسيان الذى أفنى عمره فى مقاومته.