تغيرت معالم المدن الشعبية بشكل كبير، وربما ضاعت هويتها بعد أن زحفت العشوائيات الفكرية والاهمال عليها، ولا يمكن الآن التفرقة بين المنطقة الشعبية الاصيلة والمنطقة العشوائية، فجميعهم مع زحف التوك توك عليهم سواء. مصر منذ مئات السنين اشتهرت بأحيائها الشعبية، ووقت ان كانت هذه الاحياء لم تكن هناك تجمعات عمرانية جديدة، فكانت الذاكرة المصرية موجودة على أرض هذه الأحياء بقوة، لا يمكن لأحد محاربتها ولا القضاء عليها، كانت قوية ورصينة ومتجذرة فى الاذهان والقلوب. ومهما حدث من تطور او توسع، فلا يمكن أن تكون هناك مصر بدون شبرا ولا الظاهر ولا حدائق القبة ولا المسلة ولا الزيتون ولا مصر الجديدة، ولا حى الزمالك والمهندسين وجاردن سيتى ولا السيدة زينب والحسين والجمالية وحي الازهر وباب الشعرية وجامع عمرو، عشرات المدن الشعبية مثلت الهوية القومية للمصريين، لم يكن احد يعرف فيها ابن الوزير من ابن الخفير، خرج من رحم هذه الاماكن فنانيين ومثقفين وكتاب وادباء واطباء ومهندسين وضباط وقضاة وعلماء، خرج منها الحداد والنجار والسباك، خرج منها العامل البسيط والثرى الذى يملك كل شيء ولا يبرحها مهما اتسعت المدن والعمران. لسنوات عشت فى حى شبرا مصر، هذا الحى الراقى الثرى بمثقفيها وطوائف شعبه، كانت المدارس تقتصر على القومية والتوفيقية ومدارس الراهبات والليسيه، التركيبة المجتمعية هناك مختلفة طبقاً والشخصية التى تسكن هذا المكان، شبرا لها ما يميزها، مثلها مثل مدن شعبية كثيرة، تختلط فيها الاديان وتتعدد الثقافات، يتعايش الناس فيها مثل باريس، من ترتدى القصير ومن ترتدى الطويل، الكنائس تعانق المساجد، الشيخ مع القسيس، الدولة العميقة فى ازهى صورها موجودة فى شبرا، البناية يقطنها هذا وذاك، لم يعرف احد فى هذا الحى فقير من غنى، ولا مسلم من مسيحي، يتجمع الناس على المقاهى ليلاً، الكل سواء، وفى ممر الراعى الصالح تختلط الكيانات والاجناس، رائحة المصريين واحدة. عشرون سنة من عمر هذا الزمان غيرت ملامح كل شيء، وتواكب وجود مركبة "التوك توك" مع تطبيق "التيك توك"، الاخير افسد الذوق العام، ودفع الثانى الصنايعية واصحاب الحرف لاقتناءه، كلاً يريد الثراء السريع، وايجاد فرصة عمل سهلة بدون مشقة، فلا هذا افاد ولا ذاك استفاد، اضمحلت الثقافة بفعل التيك توك، واختفت المهن والاعمال الحرفية بفعل التوك توك. منذ فترة كنت هناك، رأيت كيف اضحى شارع شبرا، "وهو معلم من معالم المحروسة"، عشوائياً، حركة المرور فيه شبه متوقفة، التكاتك تزاحم المترجلين، وربما اصبحت اكثر، مثلها تماماً مثل تطبيق "التيك توك"، الذى يزاحم التلاميذ فى المدارس، قضى على الوعى والفهم والكتاب، بل قضى على الذاكرة الوطنية، واضحت السيدات والبنات والشباب وصغار السن، يظهرون على هذا التطبيق اللعين بكل فجاجة وفظاعة، واختفى الحياء وبات نجوم التيك توك هم المثل والقدوة والمعلم لكل الاجيال، لا فرق. ورغم ان مصر بلد عمرها تخطى السبعة آلاف عام، ولديها ذاكرة ممتدة لآلاف السنين، الا ان هويتها قد ضاعت بسهولة، ساهم فى ذلك ظهور فكرة "الكمبوند"، وهى ظاهرة لم تقتصر فقط على مكان السكن، لكنها امتدت لكل شيء، فافسدت كل شيء. مثلاً، كان التعليم مقتصراً على المدارس والجامعات الحكومية، الجميع يدرسون فيها، وهذا ما شكل الهوية الموحدة بين طوائف الشعب وطبقاته، الكل مندمج فى كيان واحد، الكل يتحدث لغة واحدة، الكل يعتنق ثقافة واحدة، لا فرق بين هذا وذاك، العيب يطال الجميع، الاخلاق والعادات والتقاليد واحدة وموحدة. اما المسكن، فكان الجميع بمختلف مستوياتهم يقطنون البناية الواحدة، اذكر اننى كنت اسكن ومعى السباك وبائع الكبدة والمقاول واللواء والقاضى والطبيب واستاذ الجامعة، لم تكن هناك تفرقة ابداً. حتى اماكن التسوق كانت واحدة، للغنى والفقير، وسط البلد وميدان الجامع وروكسى ووكالة البلح والشواربى، كانت المتاجر الخاصة قليلة جداً، لدرجة ان احد لم يكن يعرفها سوى طبقة من الناس، هذه الطبقة لا يعرفها الناس اصلاً. ثم جاءت ثقافة العزل "الكمبوند"، فاختارت كل مجموعة مجتمع خاص بها، وفصلوا لانفسهم مدارس وجامعات واماكن للسكنى ومستشفيات ومولات وكافيهات، من هنا بدأت الحكاية، حكاية شعب اصبح شعبين، وحكاية بلد اصبحت بلدين، وحكاية ثقافة اضحت ثقافتين، ولغة اصبحت لغتين، حدوتة دمرت كل شيء، حدوتة اعتمدت ركائزها على التيك توك والتوك توك.