«إننا نشبه ركاب طائرة مخطوفة، لا أحد يعرف أين نهبط؟ ولا متى نصل؟ ولا كيف تنتهي المأساة؟». اعترف أننى من الذين لم ترق لهم أغنية «قارئة الفنجان» للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، فقد بدت لى كلماتها تصفُ حبًا مستحيلًا.. ظننتها مجرد قصيدة غزلية عن العشق الممنوع من شاعر المرأة العملاق نزار قباني.. حتى الجماهير التى عشقت صوت العندليب قام بعضهم بإطلاق صافرات الاستهجان لأول مرة خلال حفل إطلاق الأغنية بنادى الترسانة عام 1977.. لم يعتادوا تلك الكلمات والألحان من نجمهم الأول، وظن حليم أن هناك مخططا من خصومه لإفساد الحفل وخرج ثائرا ورحل بعدها عن عالمنا. وجهة نظرى حول «قارئة الفنجان» تغيَّرت اليوم تمامًا.. قرأت أن «نزار» قد أفصح لصديق مقرب له -قبل رحيله بسنوات- أن القصيدة كُتِبَت فى الحقيقة عن فلسطين، وأنه آثر كتمان هذا السر آنذاك حتى لا يُتَّهم بأنه ينظر للقضية الفلسطينية بتشاؤم. عندها أعدت الاستماعَ إلى الأغنية بتأمل جديد، متخيلًا فلسطين هى المُخاطَبة فى كل كلمة، فاكتشفت أن القصيدة لم تكن سوى نبوءة شعرية مؤثرة، وكأن نزار قبانى قد رأى بعين القلب والمثقف المستبصر ما ستمر به القضية بعد أكثر من نصف قرن.. يقول فى بداية القصيدة: «جلست والخوفُ بعينيها تتأمَّلُ فنجانى المقلوب» .. ليست مجرد امرأةٍ تقرأ الفنجان، بل هى الأمم تسأل وتتأمل مصير الشعب الفلسطيني.. «قالت: يا ولدي.. لا تحزنْ.. فالحبُّ عليك هو المكتوب».. ليست كلمات موجهة لعاشقٍ حزين، بل هى رسالة لكل فلسطينى وعربى كتب عليه أن يحب تلك الأرض.. «قد مات شهيدًا من مات على دين المحبوب».. فمن يموتُ دفاعًا عن فلسطين هو شهيدٌ؛ لأنها ليست ترابا فحسب، بل عقيدة وانتماء. «فنجانك دنيا مرعبةٌ وحياتك أسفارٌ وحروب».. هى حكاية الشتات الفلسطيني، فمصيرُهم مليء بالنكبات والقتال والترحال كلاجئين.. «ستحبُّ كثيرًا يا ولدي.. وتموتُ كثيرًا يا ولدي.. وستعشقُ كلَّ نساءِ الأرض.. وتَرجِعُ كالملكِ المغلوب».. هى قصةُ كلِّ أهل فلسطين الذين يحبون أرضهم ويموتون عليها كل يومٍ بالمئات، ورغم المقاومة البطولية، إلا أن القوة الغاشمة للمحتل تمنع اكتمال نصرهم.. «بحياتك يا ولدى امرأةٌ.. عيناها، سبحانَ المعبود.. فمُها مرسومٌ كالعنقود.. ضحكتُها موسيقى وورود».. فى حياتك يا أيها الفلسطيني، أرضُك الجميلةُ الخلابة، أرضُ الإسراء والمعراج، أرضُ المقدس، ومدخل فلسطين الذى يشبه عنقود العنب.. «لكن سماءك ممطرةٌ.. وطريقُك مسدودٌ.. مسدود».. هى غزة تحت القصف، حيث السماءُ تمطر نارًا، والحصارُ يسدُّ كل سبل الحياة.. «فحبيبةُ قلبك.. يا ولدي.. نائمةٌ فى قصرٍ مرصود.. والقصرُ كبيرٌ يا ولدي.. وكلابٌ تحرسُهُ وجنود».. هى فلسطينالمحتلة، المسجونة خلف الجدران المحاطة بأقوى قوات على الأرض.. «وأميرةُ قلبك نائمةٌ.. مَن يدخل حجرتَها.. مَن يطلب يدَها.. مَن يدنو من سور حديقتِها.. مَن حاولَ فكَّ ضفائرِها.. مَفقودٌ.. مَفقود.. مفقود».. هم المقاومون الذين يختفون فى سجون الاحتلال أو الشهداء تحت الأنقاض، وكل مَن يحاول الاقتراب لمساعدتها وفك حصارها مفقود.. ويقول نزار: «بصَّرْتُ ونجَّمتُ كثيرًا.. لكنى لم أقرأ أبدًا.. فنجانًا يشبهُ فنجانك».. رؤيةٌ ثاقبةٌ بأن مأساة الفلسطينى لا مثيلَ لها فى التاريخ.. «لم أعرفْ أبدًا يا ولدي.. أحزانًا تشبه أحزانك».. لأن ألمَ الشعب الفلسطينى فريدٌ فى قسوته.. «مقدورك أن تمضى أبدًا.. فى بحر الحبِّ بغير قلوع».. لأن الفلسطينى وكل عربى أصيل سيظلُّ عاشقًا لأرض فلسطين رغم كل المحن وحتى وإن لم تتحرك القضية فى الاتجاه الصحيح. اليوم، بعد أن سمعتُ القصيدة بنظرةٍ أخرى، لم تعدْ «قارئة الفنجان» مجرد أغنية، بل هى صرخةُ نزار قبانى التى تنبأ فيها بما يحدث فى فلسطين، وكأنه رأى بعين الشعر المآسى التى يعيشها أهل غزة اليوم.. حصار وتجويع وإبادة بل ومطالبة سيناتور أمريكى أمس بأن تقصف غزة بالقنابل النووية حتى تستسلم مثل اليابان!! تلك القصيدة العبقرية تجعلك تتساءل من يقرأ فنجان العالم المقلوب اليوم؟.. إلى أين نحن ذاهبون؟ لا أعتقد أن هناك من يستطيع أن يحدد من أين؟ أو إلى أين؟.. كل الدراسات المستقبلية تقدم سيناريوهات محتملة والكثير منها مجرد توقعات متشائمة أو متفائلة.. لكن يبدو أننا أبناء العالم العربى فى وضع أشبه بالوضع الذى وصفه المفكر الكبير الراحل الأستاذ احمد بهاء الدين عندما وصف الحال «بأننا نشبه ركاب طائرة مخطوفة، لا أحد يعرف أين نهبط؟ ولا متى نصل؟ ولا كيف تنتهى المأساة؟ فنحن مربوطون فى مقاعدنا والمسدسات فوق رءوسنا من كل حدب وصوب وليس أمامنا إلا الصبر والصمت والانتظار».