قبل أكثر من ثمانية عقود، وُلِد على أرض مصر فنانٌ استثنائي، حمل على كتفيه هموم الشارع المصرى وضحكات الملايين العربية، مزج بين السخرية والجدّ ببراعة قلّ نظيرها. إنه عادل إمام، النجم الذى حوّل خشبة المسرح والشاشة الفضية والتليفزيون إلى منابر للفن الجذاب دائمًا، الهادف غالبًا. ذلك الزعيم الذى لم يحتج إلى تاجٍ ليتوّج ملكًا للكوميديا والدراما معًا. وبمناسبة ذكرى ميلاده، نستعير عدسة الذاكرة لاستعراض محطاتٍ من مشواره الفنى الحافل، الذى جسّد فيه تناقضات المجتمع وانتصر للبسطاء، وأضحكنا حتى البكاء، ثم أبكانا بحكمةٍ لا تخلو من ابتسامة. اقر أ أيضًا | «الزعيم» :عشرات السنوات على عرش المسرح من دور صغير إلى «زعيم» الفن لم يكن طريق الشهرة مفروشًا بالورود لذلك الفنان النحيل الذى وقف ذات يوم على خشبة مسرح «أنا وهو وهى» عام 1964 فى دورٍ صغير، أسنده له عمالقة الكوميديا آنذاك: فؤاد المهندس وعبدالمنعم مدبولى. وقد علّق عادل إمام على تلك البداية بقوله: «عندما دخلت لأؤدى دور دسوقى أفندى، لم يصفق لى أحد.. لكن عند الخروج، سمعت التصفيق». كانت تلك الشرارة الأولى التى أشعلت مشوارًا فنياً حافلاً. التحوّل الكبير.. مدرسة المشاغبين فى عام 1971، تحوّل عادل إمام من وجهٍ جديد إلى ظاهرة جماهيرية عبر مسرحية «مدرسة المشاغبين»، حيث جسّد شخصية «بهجت الأباصيرى» ببراعة فريدة. لم تكن المسرحية مجرد عمل كوميدى عابر، بل كانت إعلانًا عن ميلاد «زعيم» جديد فى الفن العربى، إلى جانب كوكبة من النجوم مثل سعيد صالح وأحمد زكى وهادى الجيار ويونس شلبى. ومنذ تلك اللحظة الفارقة، التصق لقب «الزعيم» به، ليتحوّل إلى علامة فنية لا تحتاج إلى تعريف، أو بتعبير أدق: علامة تجارية فريدة فى سوق الفن، وتاجر السعادة الذى لا تعرف تجارته بوارا.. لقد أدرك عادل إمام مبكرًا أن الضحك يمكن أن يكون سلاحًا فتاكًا وأداة نقدية فعّالة. لم يبحث أبدًا عن الضحك السهل، بل جعله جسرًا يعبر من خلاله إلى مناقشة القضايا الكبرى بذكاء ولباقة. شراكات استثنائية شكّل تعاون عادل إمام مع الثنائى المبدع: الكاتب وحيد حامد والمخرج شريف عرفة، نقطة تحول فى السينما المصرية، أنتج عنها سلسلة أفلام أصبحت أيقونات فى تاريخ الفن المصرى: - «اللعب مع الكبار».. الذى كشف تناقضات السلطة والسلوكيات الاجتماعية - «الإرهاب والكباب».. جمع بين السخرية من البيروقراطية ومواجهة الإرهاب - «طيور الظلام».. الذى فضح الفساد بأسلوب ساحر يجمع بين العمق والكوميديا هذه الأعمال لم تكن مجرد أفلام ترفيهية، بل تحوّلت إلى وثائق اجتماعية تعكس هموم المواطن المصرى، جمعت بين القيمة الفنية والنجاح الجماهيرى والإيرادات الخيالية. ظاهرة تتجاوز النجومية ما السر وراء بقاء عادل إمام فى الوجدان العربى لأكثر من ستة عقود؟ إنه مزيج فريد من التجديد المستمر والجرأة فى خوض المجهول. لم يكتفِ أبدًا بإنجاز ما حققه، بل ظل يبحث دائمًا عن آفاق جديدة، يعتمد فى ذلك على ذكائه الفنى المميز فى اختيار توقيت ظهوره وأماكن تواجده الفنى.. فبعد سلسلة أفلام الشارع المصرى الناجحة، انتقل ببراعة إلى الدراما التلفزيونية ليقدم أعمالاً خالدة مثل: «أحلام الفتى الطائر»، «دموع فى عيون وقحة»، «فرقة ناجى عطا الله»، «العراف»، «صاحب السعادة»، «مأمون وشركاه».. وغيرها من المحطات الفنية التى توقف عندها قطار الإبداع بكل فخر واعتزاز. إرث خالد ما زال الجمهور يردد العديد من «الأفيهات» التى أصبحت جزءًا من التراث المصرى، مثل: - «بلد بتاعة شهادات.. صحيح!» - «بلدى طنطا.. وأحب أعيش أونطه!» - تشرب شاى بالياسمين - طيبين قوى يا خال - «أنا كمان أعرف عنك كتير!» - «مش أنا عيد ميلادى النهاردة؟» هذا غيض من فيض ما تركه الزعيم فى ذاكرة جمهوره. والحقيقة أن أكثر ما يميز عادل إمام أن الحديث عنه لا يحتاج إلى مراجع أو مصادر، فكل ما يقال عنه يستمد من الذاكرة الجمعية للأمة وهو ما فعلته عند كتابة هذه السطور. فعادل إمام لم يكن مجرد ممثل، بل كان صوتًا للشارع وضميرًا فنيًا وعلامة فارقة فى تاريخ الفن العربى. فى ذكرى ميلاده، نقول له: «دمت زعيمًا يا أسطورة».. ستظل أعمالك مرآة صادقة للمجتمع، وستبقى ضحكاتنا التى تخفى دموع الحكمة شاهدة على عبقريتك الفذة. لقد نجحت فى صناعة المعجزة، جعلتنا نضحك ونبكى فى آن واحد.