تضرب مصر موعدا جديدا مع العظمة والخلود بالافتتاح الرسمى للمتحف المصرى الكبير، الموعد الذى يترقبه كل محبى الحضارة المصرية القديمة وهم كُثر حول العالم، ولعلى لا أبالغ عندما أقول إنه الأهم بين متاحف لها أسماء رنانة فى عواصم كبيرة لما يمتلكه من مقتنيات متنوعة أهمها قسم الآثار المصرية. زُرت بعضها فى رحلات خارجية، وتجولت بداخلها لساعات وساعات، ولم أنبهر فى الحقيقة سوى بما صاغته أيدى أجدادنا المصريين الأوائل، فهم أصحاب السبق فى تحويل اللحظة الزمنية بكل مكوناتها الإنسانية من مشاعر وأحاسيس وظروف سياسية واجتماعية ودينية إلى كتلة صلبة، يمكنها عبور الأزمنة والعصور، تنطلق من الماضى لتصل إلى عقل الحاضر والمستقبل، وتميز المصريين عن باقى أقرانهم من أصحاب حضارات العالم. اقرأ أيضًا| محمود بسيونى يكتب: تفويض ضد التهجير وكانت زيارتى الأولى إلى المتحف بدعوة كريمة من شريف فتحى، وزير السياحة والآثار، خلال لقاء موسع مع وسائل الإعلام المصرية القومية والخاصة، وكانت ملاحظتى الأولى هى حسن اختيار المكان للحديث مع الإعلام عن السياحة والآثار المصرية والتطور الكبير الذى يشهده ذلك القطاع الحيوى، والنشاط الذى يدب فى نواحيه، وأنا شخصيا شاهد عليه وعلى التخطيط الجارى لاستغلال إمكانيات مصر السياحية الكبيرة، سواء سياحة الشواطئ أو السياحة الروحانية للأماكن المقدسة أو السياحة الثقافية للمعابد القديمة والمتاحف المصرية. والربط مطلوب بين جهود الوزارة وجهود الحكومة ككل، فالاستثمار فى شبكات الطرق وبناء المطارات الجديدة، وغيرها من مشروعات البنية الأساسية، ساهمت بشكل فعال فى تهيئة المناخ المناسب لزيادة أعداد السائحين القادمين لمصر على مدار العام، بالتأكيد مازالت التحديات موجودة، ولكن العمل الجارى والإصرار على تحقيق زيادات فى معدلات السائحين يؤكد أن السياحة فى مصر تسير فى الاتجاه الصحيح، وذلك بفضل الاهتمام الكبير من جانب الرئيس عبد الفتاح السيسى بهذا القطاع الحيوى من قطاعات الدخل القومى. اقرأ أيضًا| محمود بسيونى يكتب: سلام الشجعان كان الوزير محددا فى دعوته للإعلام، لزيادة الاهتمام بإبراز الهوية المصرية وقيمها الثقافية، والتعريف بالتنوع الذى تذخر به والذى لا يُضاهى فى العالم، لأن المطلوب أكبر من فكرة التعريف بالمقاصد السياحية، حيث إن الأمر فيه كثير من بناء مكانة مصر والتعريف بهويتها، خاصة أن هناك أصواتا تتعالى، تبحث عن سرقة المجد المصرى ونسبه لشعوب أخرى، وهى مسألة مقصودة وتقف خلفها نوايا خبيثة وأخطر ما فيها - من وجهة نظرى - هو التقليل من منجز المصريين وإضعاف روحهم المعنوية. المتبحر فى التاريخ المصرى القديم يستطيع بسهولة تمييز ذلك الجسر الرابط بين مجد الماضى وتحديات الحاضر، وعبر استذكار ذلك الماضى العظيم وتدبر دروسه تستنهض مصر نفسها فى لحظات ضعفها وشدتها باستذكار ذلك الإنجاز الحضارى لأقدم دولة عرفها التاريخ، وتلك معضلة تقف فى وجه أى متآمر أو معتدٍ يسكن الداخل أو قادم من الخارج. الهوية المصرية لدولة تمتلك مخزونا حضاريا وثقافيا وتنوعا لا يُضاهى فى الأنماط والمنتجات السياحية هو الشعار الذى اختارته الوزارة كى يكون استراتجيتها للنهوض بالقطاع السياحي، والذى يعكس التوازن فى العمل والاهتمام بكل أشكال السياحة القادمة إلى مصر. ومن حسن الطالع حديث تبنى الوزارة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى كواحدة من أدوات الترويج السياحى والاعتماد بصورة أكبر على التسويق الإلكتروني، وذلك عبر منصات التواصل الاجتماعى المختلفة. اقرأ أيضًا| محمود بسيونى يكتب: اختبار حماس.. وفشل إسرائيل الأرقام تشير إلى تحقيق مصر لنتائج قياسية خلال عام 2024 باستقبال 15.8 مليون سائح، بزيادة قدرها 6% مقارنة بعام 2023، وهو ما يتجاوز مستويات ما قبل جائحة كورونا بنسبة نمو تجاوزت 21%، ما يعكس نجاح عملية تسويق السياحة المصرية بكل مكوناتها، وفى الربع الأول من عام 2025 حققت السياحة مؤشرات إيجابية جديدة، حيث ارتفعت أعداد السائحين بنسبة 25% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، وهى إشارة دالة على الثقة الدولية فى المقاصد السياحية المصرية، رغم ما تشهده المنطقة من تحديات جيوسياسية. لم تعد سياحة الشواطئ هى مصدر الجذب السياحى الوحيد، لقد وضعت مصر لنفسها مكاناً مميزاً على خريطة السياحة الثقافية مع افتتاح متحف الحضارة وموكب المومياوات الملكية الذى تحول إلى حدث عالمى، ثم افتتاح طريق الكباش ثم الإعلان عن افتتاح المتحف المصرى الكبير وصولا إلى زيارة المؤثرين الدوليين إلى منطقة الأهرامات مثل مستر بيست وتحقيقها لنسب مشاهدات عالية حول العالم، مما فتح الباب أمام حديث أكبر حول الأهرامات وأسرارها، وهو ما ألهب خيال كثير من محبى هذا النوع من السياحة الثقافية حول العالم، وأذكر أننى فى زيارة قريبة لمعبد دندره البديع فى محافظة قنا تقابلت مع مجموعة قادمة من فرنسا لمشاهدة إحدى رسومات المعبد، والتى أثارت جدلا كبيرا حول العالم، بعدما نشرها رجل الأعمال الأمريكى إيلون ماسك على حسابه على موقع x وقال إنها لمصباح كهربائى وغيرها من الصور التى يتخيل ماسك أنها إشارات لمخترعات سبق المصريون القدماء العالم إليها، وعلى الرغم من عدم دقة ما يذهب إليه تاريخيا وعلميا، إلا أن هذه الإشارات من شخص مشهور عالميا كانت أداة مهمة من أدوات تسويق معبد دندره وغيره من معابد مصر القديمة. الترقب العالمى لافتتاح المتحف المصرى الكبير يقول: إن حالة الولع بالحضارة المصرية فى أعلى صورها، وهى فرصة للتعريف بمصر ومكانتها، وفرصة أهم فى تأصيل معانى الانتماء لدى الأجيال الجديدة، التى تتوفر لها فرصة زيارة المتحف والتعرف عن قرب بتاريخ ملوك وملكات مصر، والاقتراب من شكل الحضارة المصرية القديمة وطقوس وعادات الحياة الاجتماعية للمصريين والتشابه بينها وبين تحديات الحاضر، وكيف كانت مصر تنهض من عثراتها وتعود بقوة لتتبوأ مكانتها القيادية فى كل العصور، وذلك هو توثيق التاريخ وحكم الجغرافيا. شعور ساحر بالعظمة والفخر صاحبنى وأنا أطالع بانبهار شديد القطع الأثرية المختارة بعناية لتحكى قصص ملوك مصر العظماء بداية من لقاء مهيب مع تمثال الملك رمسيس الثانى فى بهو المتحف ثم الدرج العظيم وعليه ثماثيل ملوك الأسرات المختلفة، وصولا إلى تماثيل الملكة حتشبسوت فى هيئة رجل والملك تحتمس الثالث مؤسس الإمبراطورية المصرية الممتدة من بلاد الشمال وحتى منابع النيل. ويستخدم المتحف أحدث تقنيات العرض، ومنها أدوات الذكاء الاصطناعى فى عرض الرحلة الشهيرة التى قامت بها الملكة حتشبسوت إلى بلاد بونت، ودونتها على جدران معبدها الشهير بالدير البحرى بمدينة الأقصر. كما يحتوى المتحف على جناح خاص بكنوز الملك توت عنخ آمون، وهى المرة الأولى التى يتم فيها عرض محتويات مقبرته بشكل كامل، بالإضافة إلى جناح آخر يحكى قصة بناء الأهرامات ويعرض مراكب الشمس التى شاركت فى بنائها. ولا أبالغ فى القول: إن المتحف يحتاج فى زيارته إلى وقت يزيد على ساعات اليوم الواحد وربما أكثر، ويمتاز بوجود أماكن للطعام والجلوس وإقامة المعارض وغيرها من الأنشطة المصاحبة للمتاحف حول العالم، وذلك مع وجود مرشدين من الشباب المصرى الرائع والدارس لتاريخ مصر القديمة والملم بتفاصيل القطع الموجودة فى المتحف. الافتتاح الرسمى مقرر له الثالث من يوليو المقبل، وهو اختيار له دلالة عند كل المصريين باعتباره يوم الخلاص من حكم جماعة إرهابية وبداية عصر الجمهورية الجديدة، وهو يوم سيكون له شأن عالمي، لأنه سيحمل رمزية افتتاح المتحف الكبير. وقد نوه الوزير شريف فتحى خلال اللقاء إلى أن العالم سيكون على موعد مع حدث فريد، يتم الإعداد له بأعلى درجات الاحترافية والتنظيم، وسيتابع عبر الشاشات حجم الجهود التى بُذلت منذ انطلاق المشروع وحتى اقتراب افتتاحه، وهو ما يعكس إرادة الجمهورية الجديدة وإيمانها بقيمة تراثها الحضاري. وأشار إلى أن المتحف سيشكل مركزاً دولياً للأبحاث والدراسات فى علم المصريات، بما يعزز مكانة مصر الأكاديمية والعلمية فى هذا المجال، ومن خلاله يمكن أن تعود مصر وجهة رئيسية لدارسى علم المصريات من مختلف دول العالم. هو متحف ليس كمثله متحف، بقعة نور جديدة وإضافية تشع من مصر إلى أنحاء العالم ببصمة وراثية لدولة وشعب يقدس البناء، وتزهو روحه بقوة وعظمة حضارته.