د. شحاتة الحو تمثل رواية «كتاب التجليات، الأسفار الثلاثة» مغامرة إبداعية لجمال الغيطانى، إذ يمزج فيها التاريخى باليومى، والواقعى بالمتخيل، والميراث الصوفى بالبنية الروائية، إضافة إلى تعدد المستويات اللغوية، ما بين لغة خاصة مستمدة من معجم التجارب الروحية الصوفية، وثانية مستوحاة من عمق التاريخ الإسلامى، وثالثة مستمدة من رحم العربية المعاصرة واليومية الجارية على الألسن مشكلةً نوعا من الحوارية التى تتضافر فيها هذه المستويات فى صوت سردى يبدو متسقًا رغم معالجة النص مراحل زمانية متباعدة، وشخصيات لا يجمعها رابط واقعى أو منطقى آنى. وتمثل شخصية عبد الناصر إحدى الثوابت السردية فى هذا النص إلى جانب ثلاث شخصيات أخرى تتقاسم معها بؤرة الحكى وترتبط بها ارتباطًا وثيقًا، الأولى: شخصية الحسين بن على- رضى الله عنه- وتتماثل تشخيصًّا مع شخصية عبد الناصر كما سنبين، والثانية: شخصية السارد نفسه، وهو يجسد دور بطل محورى قرر أن ينقل ما رآه وشاهده فى رحلة مجهولة قام بها، وتكون هذه الشخصية محور الحكاية ومركز الأحداث بداية من النصف الثانى من الرواية. أما الشخصية الثالثة: فهى والد السارد وتشغل مساحة كبيرة من الوحدات السردية، وقد بُنيت حكايتها عن طريق ما يُسمى ب«النسق الزمنى الهابط» وفيه يعرض السارد حكاية الشخصية- ولكن بشكل متقطع- تبدأ من نقطة النهاية، حيث تبدأ بمشهد الاحتضار ثم تعود إلى لحظة الميلاد وما قبل الميلاد، ثم تنقلنا إلى معاناة هذا الأب لنعلم أنه فلاح عاش فى أقصى الصعيد، ثم نزح إلى القاهرة بعد وفاة أبيه هربًا من عمه الذى يسعى لقتله؛ لتؤول إليه الأرض وما عليها من نخل. وقبل أن نشرع فى استقراء صورة الزعيم جمال عبد الناصر فى هذا النص السردى المشكل يتحتم علينا أولا أن نبدأ ببيان خصوصيّة هذا النص: جماليات البنية الصوفيّة تتميز هذه الرواية بنسيج سرديّ انصهرت بداخله جملة من النصوص والأشكال والأساليب القديمة والمعاصرة على السواء، حيث أفاد جمال الغيطانى من الميراث الصوفى الذى تجلى بوضوح فى عدة مظاهر، أبرزها: 1− حضور تجربة بعض الصوفيين داخل الفضاء السردى، حيث اشتمل السرد على سبيل المثال على نصوص ل«محيى الدين بن عربى» (ت: 640ه) وتشرَّب ملفوظاته التى تلاشت غربتها بإدغامها فى لغة السرد ووضْعها فى علاقات دلالية جديدة مغايرة لما كانت عليه فى سياقها الأصلى، فأصبحت عنصرًا مشتركًا فى تنمية الوحدات الحكائية، وقد زخرت الرواية بمثل هذا النوع من التداخل النصى إلى درجة تجعل القارئ يشعر وكأنه أمام صوت نصيّ واحد غير متعدد، ولا يوجد ما يشى بتعدد النصوص وتمازجها، واندساسها داخل اللغة السردية الأصلية، وهو ما قد يوحى بمدى فاعلية هذا التناص وإمكانية تعايش النصوص المستجلبة مع النص الراهن وتشكيلها لوحدة عضوية فنية مؤطرة غير مشتتة. وقد ظهر تأثر الكاتب بمؤلفات ابن عربى بداية من العتبة الأولى للنص (العنوان) الذى يرتكز على عنصرى «التجلي» و«السفر» وهو ما يتناص مع مؤلفين لابن عربى هما كتاب «التجليات» وكتاب «الإسفار عن نتائج الأسفار»، ليس هذا فحسب بل إن بنية الحكاية تأثرت برحلة ابن عربى المعراجية، وإن كان السارد قد غَيَّرَ من اتجاه الرحلة فلم يجعلها صعودا من سماء إلى سماء كما فى المعراج الصوفى، وإنما جعلها رحلة أرضية ينتقل فيها السارد من فضاء إلى فضاء بغية الإيهام بتحقق المعرفة الإشراقية والوصول إلى حقيقة القضايا والأحداث التى يطرحها النص. يقول السارد: «سريت فى النور الأخضر فى زمن الزهور المرجوّ، فرأيت نفسى أخرج من مدينة الرباط الجميل عند شاطئ المحيط، أرحل وأعبر المحيط بلا رادٍّ أو مانع». (الرواية، طبعة دار الشروق، القاهرة، 1990م، ص14). ويقول فى موضع آخر عن إحدى مراحل هذه الرحلة: «رأيت يد الشيخ الغريب تشير إلى بداية قوس قزح التى تكاد تلامس الأرض، فسلمت سلام المقبل على رحيل طويل لا يدرى من أمره شيئًا، ثم لامست بقدمى بداية ألوان الطيف، وبسرعة بدأت أرتقى، وقبل أن يرتد طرفى كنت أمضى صاعدًا فى الفراغ».(ص379) 2− انخراط السرد فى عالم روحى عجائبى مغلف بالمجهول من خلال رحلة متخيلة فى إطار رؤية منامية يكشف عنها السارد ابتداءً من خطاب المقدمة، ذلك الخطاب الذى يظهر تردد البطل (السارد بضمير المتكلم) فى تدوين هذه الرحلة وتخوفه من مدى التدقيق والتحقيق فى إثبات وقائعها، مما دفعه إلى الإقدام على تمزيق ما دوّن ومن ثم يلعب هذا الخطاب (خطاب المقدمة) وظيفة إثارة الحيرة والدهشة لدى المتلقى، ويلفت نظره إلى أهمية هذه الرحلة وطابعها الدينى. يقول: «فعكفت ودونت، لعلى آتى مما رأيت بقبس، أحيانا وضحت وأحيانا فصلت، وأحيانا رمزت ولوجت، سترت وما أفصحت، لكننى بعد أن امتلكت بيانى وكدت أنتهى من الكتابة خطر لى خاطر أن أفرغ يدى من هذا الأمر الجلل خوفًا من قلة التحقيق وعدم قدرتى على التدقيق فعزمت، ومزقت كل ما دونت شتته وذريته، وصار نسيًا منسيًّا صار أثرًا مندثرًا بعد أن كان سطورًا». (ص6). ومن ثم فالمتلقى أمام نصين رصدا وقائع هذه الرحلة، الأول منهما النص الذى كتبه السارد بالفعل ثم مزقه، ولأنه نصٌّ خضع لفعل الكتابة فمن البديهى أن يكون منسَّقًا أو شبه منسقٍ على الأقل من حيث تنظيم الوقائع وسيرورة الأحداث، ولكنه اندثر ولم يُكتب له البقاء الذى يجعله خاضعًا لفعل القراءة. أما النص الثانى فهو متن الرواية نفسه المسمى ب«كتاب التجليات» وهو بحسب إخبار السارد لم يكن فى الاصل نصًّا مدوَّنًا ولم يتعرض لفعل الكتابة وإنما هو سرد شفهى منهمر من ذاكرة السالك (بطل المغامرة المتخيلة)، وهو ما يعطى إيحاء مبدئيًّا بأن المتلقى مقبل على حكاية يتخللها فوضى الحكى الشفهى. 3− اكتساب السارد طبيعة فوق بشرية كالمشى على الماء والتحليق فى الهواء وعدم النوم، وهو ما أتاح له التحرر من قيود الزمان والمكان الطبيعيين ليبحر فى آفاق زمن صوفى مطلق ليس خاضعًا لقانون الثوانى والدقائق كما يخضع الزمن الأرضيّ، مما مكَّن السارد من التنقل بيسر بين الأزمنة والأمكنة المتباعدة والجمع بين شخصيات تنتمى إلى مراحل تاريخية مختلفة، وعندئذ يمكن أن يتداخل اليومى مع التاريخى، والمعلوم مع الغيبى، والواقعى مع المتخيل والعجائبيّ، وهو ما جعل السرد يفتقد ظاهريًّا التسلسل والترتيب المنطقى. 4− تطعيم لغة السرد بمصطلحات ومفردات من المعجم الصوفى مثل (الديوان، التجلى، الموقف، الإبدال، المنازل، الوجود، النشأة، الوصل، الحال، المقام، الحلول، الحب، الرؤيا، البسط، القلب، القبض، الخطوة، البوح، الحس، الأجل، القدر، الزمزمة، الحجب، الهاتف، القرب، البعد، الدهر، الأزل، الجهات، الظاهر، الهوى، المدد، المناجاة، المأوى، اليقين، الأسرار، الفيض، الوجد) وهو ما يؤكد الطابع الصوفى للسرد، لكنه لا ينفى فى الوقت نفسه تجلى لغة الكاتب الخاصة داخل النسيج السردى، حيث تكشف شهادة الكاتب حول الجوانب الصوفية فى أعماله الروائية عن أنه استوعب الآداب الصوفية ثم وظَّف لغتها بعد مرحلة الاستيعاب عبر أسلوبه الخاص. يقول الغيطانى عن هذه التجربة: «لم أكتفِ بقراءة الفتوحات المكية» لابن عربى، أو «الإنسان الكامل» لعبد الكريم الجيلانى، أو بقراءة «الإشارات الإلهية» للتوحيدى، وإنما كنت أنقل صفحات كاملة من هذه المؤلفات على مهل وبأناة، لا لشيء إلا لمحاولة تشربى سرَّ الأسلوب، ونفاذه إليَّ... وعندما بدأت أكتب «التجليات» طرحتُ هذا كله جانبًا لكى أصل إلى لغتى الخاصة. (جمال الغيطاني: جدلية التناص، مجلة ألف، العدد الرابع ، القاهرة، ربيع 1984م، ص78،79) ولعل هذا الجهد الإبداعى فى تطويع لغة المعجم الصوفى لتعبِّرَ سرديًّا عن قضايا سياسية/ اجتماعية معاصرة هو ما جعل الكاتب يرى هذه اللغة بطلًا من أبطال الرواية. على أن حضور البنية الصوفية لا يقتصر على قضية اللغة فحسب، وإنما يمتد إلى تأثيرات صوفيّة أخرى أفاد منها المؤلف فى بناء صور الشخصيات والرؤى والأحلام والمكان والزمان، وفى تشكيل موضوع السفر والرحلة. وليس من شك فى أن إفادة المؤلف من بنية الرحلة الصوفيّة جعلته يتبنى شكلا روائيًّا مرنًا يُمَكِّنُ − من خلال استثمار أبعاده العجائبية أوغير المعقولة− من استحضار شخصيات تنتمى إلى التاريخ المعاصر − مثل شخصية جمال عبد الناصر− بجانب شخصيات أخرى تنتمى إلى المراحل الأولى من التاريخ الإسلامى − مثل شخصية الحسين بن علي− داخل الوحدة الحكائية الواحدة، بل المزج بينهما أحيانًا حتى تحل أحدهما فى الأخرى، وجعلهما فى مواضع أخرى يتبادلان الحوار حول بعض القضايا المعاصرة ويشتركان فى صنع حدث واحد، فنجد على سبيل المثال وقوف عبد الناصر متسلحا بأسلحة العصر يقاتل ضمن أصحاب الحسين ضد جيش بنى أمية. شخصية جمال عبدالناصر تتصدر شخصية عبد الناصر الفضاء السردى بداية من الوحدة السردية الثانية وقد قُدِّمت عن طريق الأسلوب التصويرى، فلم تُقَدَّم مصحوبة ببطاقة تعريفية تتضمن أحوالها، وأفكارها، وعواطفها أو ملامحها العامة، وإنما قُدِّمت إلى المتلقى من خلال حركتها وسط الجماهير المحتشدة، حيث يستغل السارد الفرصة لتقديم صورة لجمال عبد الناصر من منظور الحس الشعبى عبر صيغة سردية تتناص مع بنية الحكاية الشعبية، وفيها يتجلى جمال عبد الناصر فى شكل بطل شعبى يعود بعد غيبة طويلة؛ ليعيد القيم القومية والوطنية التى نادى بها، فظهور عبد الناصر فى التجلى الأول أشبه بظهور الأبطال الشعبيين فى سيرهم وملاحمهم الكائنة فى ذاكرة المتلقى. رأيت جمال عبدالناصر، المكان محدد، والزمان معين، رأيته فى ميدان الدقى، أول الثمانينات.. أقف فوق الرصيف مر أمامى بدا قريبًا جدًّا منى خُيل إليّ أنه رمقنى من خلف زجاج سيارته ومن قبل رأيته فى يومى العيد الكبير والصغير لم يكن العيدان يكتملان إلا عندما نشب على أطراف أصابعنا نرقب الدراجات النارية، وسيارة الحرس، ثم عربة المصورين، ثم يهل على المحتشدين، بفوديه مشيب تحيطه لمعة فلا ترى إلا هو. (الرواية، 12) ومما يؤكد هذه الفكرة ارتباط ظهور عبد الناصر فى الوعى الشعبى (الذى يجسده شخصيات من الفلاحين والعمال داخل السرد) بالخلاص من سوء الأوضاع، فيصبح عبد الناصر من هذه الوجهة أشبه بالمهدى المنتظر الذى سيخرج فى مرحلة ما من الزمن، وفقًا لبعض التصورات السائدة فى الثقافة الإسلامية− لينشر العدل المفقود. يقول السارد: رأيت ما أحدثه عبد الناصر فى هذا الزمن الغريب، الناس يتحدثون عن ظهوره يؤكد الذين شاهدوا الواقعة فى ميدان الدقى أنه هو. الملامح ملامحه والقسمات نفس القسمات التى تحملها الصور القديمة.. يقول فلاح فى البراري: القضية أن عبد الناصر جاء ملبيًا نداء الذين لا حول لهم ولا سند، وأنه جاء لأن هذا البلد محميّ بآل البيت.(الرواية، 137) وفى التجلى الثانى يتكرر ظهور شخصية جمال عبد الناصر لا بوصفها شخصية مرجعية مشبعة بالدلالات يتوقف دورها على مجرد الشهادة على الأحداث، وإنما تتجاوز هذا الدور لتصبح فاعلة فى صناعة الأحداث وتحديد مصائر الشخصيات الأخرى، وذلك انطلاقًا من الطبيعة العجائبية للسرد وما ينطوى عليه من إعادة إنتاج الخبر التاريخى (المعاصر) بتضفيره مع أخبار أخرى من التاريخ الإسلامى، وخصوصا فترة الصراع بين آل البيت وبنى أمية. وتتخذ حكاية عبد الناصر شكل القصة المقلوبة المتقطعة الأحداث، فتبدأ من لحظة النهاية ثم ترتد مرة أخرى إلى أحداث وقعت فى بداية ظهوره فى زمن غير زمنه (زمن حكم الرئيس السادات)، ويمكن ترتيب الوظائف السردية لهذا التجلى على النحو الآتي: 1− إصابة عبدالناصر بالحسرة والحزن بعد تجوّله فى أرجاء القاهرة ومشاهدته تطبيع العلاقات مع إسرائيل ورفع علمها فى ميادين عدة. 2− تَصَدُّر عبد الناصر لتغيير الأوضاع، فطاف بالميادين «وأمر بتنكيس أعلام الأعداء وإزالتها من فضاء القاهرة، أمر بإلقاء القبض على جميع أفراد العدو المتواجدين فى الديار المصرية من سفير وأعضاء سفارة، ومندوبين وممثلى هيئات، وجواسيس، ورسم باعتبارهم أسرى حرب، أمر وأمر، لم يمتلك قلمًا ولا شعارًا يوقع به». (الرواية، ص 15، 16) 3− ارتباك الأعداء وإعلانهم الحرب بعد ظهور عبد الناصر المفاجئ وتَعَلُّق الناس به. 4− القبض على عبد الناصر والزَّج به داخل السجن والتحقيق معه «تدافع الجنود اقتادوه فتفرق الخلق نزل صمت بغيض ثقيل، فأينعت الهموم إنها البلوى». 5− هروب عبد الناصر من السجن بعد تَعَرُّضِه لتعذيب قاس على يد النظام السياسى الموالى للغرب «يؤكد صحفى شاب أن عبد الناصر هرب من سجنه وأنه خرج مضمد الجبين به عرج خفيف، وأنه شوهد فى عربة أجرة بصحبة ثلاثة لا يعرفهم، وأن تهريبه تم بعد تدبير عظيم». (الرواية، ص137) 6− مطاردة عبد الناصر ولجوؤه إلى الأب» الشخصية الممثلة للحس الشعبيّ− الذى يقوم بدور المساعد، فيؤويه ويسكِّنه فى بيته المكون من غرفة واحدة، وهو ما يشير إلى تعلق الوجدان الشعبى بعبد الناصر. يقول السارد: «بان لى عبد الناصر وعرفت أنه هجاج مروع، وأنه يقاسى محنًا جمة، وأنه مطلوب، وأنهم جادون فى أثره، وأنه يسعى إلى الاختفاء وما من معين. إنه مهجور من صحبه، من العصر الذى صال فيه وجال، وقف وشمخ، أقام وشيد، حدقت فرأيته يمشى فى الشارع المؤدى إلى الفرن حيث يعمل أبى». (الرواية، ص201) هيمنة الجانب الأيديولوجي ويلاحظ من خلال هذه الوظائف السردية المتشابكة أن السارد ألغى من حسابه الالتزام بحرفية المرجع الواقعى للأحداث، وغلَّب المادة الحكائية المتخيلة التى شُيِّدت استنادًا إلى خطاب أيديولوجى يدين المرحلة الساداتية بوصفها مرحلة طمست معالم الناصرية وغالت فى الاتجاه المضاد لها− ومن ثم فصورة عبد الناصر التى ستبدو مع توالى الوحدات الحكائية ستتضمن دلالات قد لا تشتمل عليها صورته التاريخية، وسوف تُضخَّم جوانب أخرى يفتقدها حاكم المرحلة التى ظهر فيها عبد الناصر (بداية الثمانينيات) التى يمكن إجمالها وفقًا للوظائف السردية السابقة فى عنصرين هما: الانحياز إلى الفقراء، ومعاداة الهيمنة الغربية والوجود الإسرائيلى فى المنطقة العربية. وعلى هذا نجد توقف السرد أكثر من مرة أمام مشهد اعتقال عبد الناصر الذى يتحول فى بعض المواضع السردية إلى ما يشبه المحاكمة، حيث يجلس عبد الناصر فى مقعد المتهم دون أن يُسْمَح له بإبداء رأى أو دفاع عن نفسه أوتبرير لفعله، لكن الاتهامات الموجهة إليه لا تشوه صورته بقدر ما تًجَمِّلُها لتتحول وفقًا للأطروحة الأيديولوجية للنص إلى إدانة صريحة للنظام الذى يحاكمه، فيتبدَّى هذا النظام تابعًا للغرب حتى بلغت درجة تبعيته اتهام عبد الناصر بمعاداة إسرائيل وبناء السد والانحياز إلى الفقراء. «أنت متهم بمعاداة أصحاب النهى والأمر.. فى العالم. أنت بنيت السد. عاديت الأسياد فى البيت الأبيض والبنتاجون والسينيت. انحزت إلى الفقير وعاديت الغنى. تطلعت إلى المستقبل». (الرواية، ص132) «لماذا هاجمت أصحابنا؟! لماذا حرضت على تنكيس أعلامهم».(الرواية، ص122) «لماذا تجمع الناس حولك؟ لماذا أحاطوا بك؟ من أخبرهم بظهورك؟». (الرواية، ص121) وتكتمل صورة عبد الناصر فى التجلى الثالث بوصفه بطلًا شعبيًّا عاد بعد غيبة؛ ليخلص الناس مما أصابهم، فيسلك أسلوب العمل السريِّ ويجمع الأنصار استعدادًا لخوض معركة حاسمة تعيد الأمر إلى طبيعته، فيلتف حوله جَمْعٌ من الشعب «لا يتجاوز عدده سبعين (لاحظ الدلالة الدينية للرقم)» يضم شخصيات عسكرية وتاريخيّة اشتهرت بالوطنية (مثل أحمد عرابى وعبد المنعم رياض) وكثيرًا من أبناء الطبقات الفقيرة (ماسح أحذية قُتِلَ أثناء قصف مدينة بورسعيد العشوائى، وجنودا مجهولى الاسم، والد السارد، وغيرهم)، على حين يقف على رأس الجيش الآخر مَنْ خَلَفَ عبد الناصر فى الحكم ومعه شخصيات انتهازية صعدت مع موجة الانفتاح الاقتصادى، ومعهم قتلة الحسين تؤازرهم شخصيات إسرائيلية وغربية لها رصيد من الكراهية فى ذاكرة المتلقى العربى (منهم فوستر دالاس، وهنرى كيسنجر، وجيمى كارتر، وموشى ديان، وأرييل شارون). ولا يخفى السارد انحيازه إلى جيش عبد الناصر فى هذا الصراع من خلال الوصف التمجيدى له ولجيشه، وإصداره تعليقات وأحكاما قطعية تشوه صور الشخصيات المعادية. ويلاحظ أن التشخيص المتخيل لهذه الحرب من حيث انعدام التكافؤ والتوازن بين الجيشين، حيث أسفر عن هزيمة عبد الناصر وقتله فى النهاية على يد خليفته- على خلاف ما تقول به الأخبار التاريخية الإسلامية عن الفئة القليلة التى غلبت الفئة الكثيرة-؛ يجسد جانبًا من الأطروحة الأيديولوجية للرواية، حيث يطمح الغيطانى من خلالها إلى التعبير عن وجهة نظر خاصة ردًّا على موجة الانتقاد التى تعرضت/ تتعرض لها الناصرية كمذهب أو تيار سياسى، وهذا ما يشكل أول ملمح فى المنظومة الأطروحية التى تغلف كتاب التجليات. مظاهر الخطاب التمجيديّ فى التشخيص ونعنى بالخطاب التمجيدى اشتمال السرد على طرق تشخيصية توجِّه مسار الأحداث لتأتى حكاية عبد الناصر بدايةً من لحظة ظهوره على مسرح الأحداث حتى لحظة موته مفعمة بالقيم المثالية، كما تعدُّ الأحكام − الصريحة أو الضمنية «التى تركز على الجانب البطولى من سيرة عبد الناصر إحدى مظاهر الخطاب التمجيدى، إلى جانب الأوصاف الإيجابية التى تظهر إيمانه بقضايا الفقراء وتقرنه بشخصيات تاريخية اشْتُهِرت بالبطولة والوفاء، فضلًا عن التعليقات السردية» الصادرة عن الراوى أو الشخصيات− التى تنفى عنه مظاهر الاستبداد أو الضعف. ويمكن رصد مظاهر الخطاب التمجيدى فى تشخيص عبد الناصر داخل هذه الرواية عبر: التماثل التشخيصيّ بين شخصيتى الحسين وعبد الناصر ويعنى التماثل التشخيصى تشابه الوظائف السردية للشخصيتين من خلال قيامهما بأفعال متماثلة فى جوهرها، وتعرضهما لمؤثرات حياتية واحدة رغم تباعدهما الزمنى، حيث دخلت كلتا الشخصيتين فى صراع غير متكافئ مع خصومهما (الحسين بن على فى صراعه مع يزيد وأعوانه، وعبد الناصر فى صراعه مع القوى الغربية ومن يؤازرها)، كما تعرضتا فى مراحل تجليهما المتقطعة خارج نطاق الزمن الأرضى للخيانة والهزيمة، فهُزِم الحسين فى مواجهة بنى أمية فى كربلاء وهُزِم عبد الناصر فى يونيو (1967م). كما يتحقق التماثل أيضًا فى تشابه الجوانب الإنسانية والأخلاقية للشخصيتين؛ مما جعل لاستدعاء شخصية الحسين واستحضار حكايتها وظيفةً تقابلية تمثل الوجه التاريخى لحكاية عبد الناصر وعصره؛ ولذا نجد تجلى الحسين فى كثير من الوحدات السردية نابعًا من عملية التداعى السببى، حيث تذكر مواقف من حياة عبد الناصر أولا ثم تتبعها مواقف مماثلة من حياة الحسين لتعضد من وجودها وتسبغ عليها الطابع التمجيدى، ومن جهة أخرى فقد تذكر حكاية الحسين فى بعض المواضع لتكتمل بحكاية عبد الناصر كأنها منبثقة عنها أو جزء منها. فمن المواضع التى يبدأ فيها السارد بذكر موقف من حياة عبد الناصر ثم يستحضر بعده موقفًا مماثلًا من حياة الحسين : «وفى هذه الليلة بدأ حصار عبد الناصر فى الفالوجة، وضيق العدو خناقه عليهم، ونزفت دماء فى مواقع أخرى، وفى كربلاء اشتد الرمى على مضارب الحسين». (الرواية، 155) ومن المواضع التى يبدأ فيها بالحديث عن الحسين ثم ينتقل عن طريق التداعى السببى للحديث عن عبد الناصر : «يخرج الحسين إلى كربلاء، رأيته، واستعاد الديوان معى اللحظات الجسام، رأيته، ورأيت بعده خروج الندى والطل، رأيت خروج الزهر من الأكمام.. رأيت ما أحدثه خروج عبد الناصر فى ذلك الزمن الغريب، الناس يتحدثون عن ظهوره». (الرواية، 137) كما يمزج السارد أحياناً بين زمنيهما فيجعل الشخصيات التى خانت الحسين هى نفسها الشخصيات التى خانت عبد الناصر بعد ظهوره، فالضابط الذى قبض على عبد الناصر فى التجلى الأول كان قبل ذلك فى الزمن الماضى على رأس ثلاثة من رجال الشرطة السرية الذين دخلوا الكوفة لتخويف الناس من تأييد الحسين. بل إن السارد يلوم نفسه؛ لأنه خالف عبد الناصر ولم يسانده فى عصره الواقعى، ثم يقرن موقفه هذا بموقف من تخلى عن الحسين ولم يخرج لنصرته. يقول: «لمت نفسى لأنى ضقت به فى زمنه، وهذا قدر الإنسان لا يعرف جوهره إلا بعد انقضائه ولا يدرك كماله إلا بعد أفوله فكان ندمى على أحبابى فى مقدار ندم الذين تخلوا عن الحسين ولم ينصروه، ولم يخرجوا لنجدته حيًّا وأنفاسه مترددة وقلبه خافق». (الرواية،ص 251) كما يلفت النظر إلى وحدة الهدف الذى يجمع الشخصيتين فقد خرج الحسين «ليواجه بعمره من يريدون شد حياة الخلق إلى الوراء، إلى عصور الجاهلية الأولى إلى ما يثقل الوجود الإنسانى المحدود بالشقاء» (الرواية،ص136) وهو ما نشده عبد الناصر عندما خرج معلنًا الثورة فى تجلِّيه الأول فى مرحلة الثمانينيات. (باحث أول بمجمع اللغة العربية)