فى ستينيات القرن الماضي، كانت مصر تحلم بثقافة تسكن كل قرية، وتطرق أبواب كل نجع، حلمٌ حمله على عاتقه وزير الثقافة الراحل ثروت عكاشة، حين وضع حجر أساس «الثقافة الجماهيرية»، التى تحولت بعد ذلك إلى «الهيئة العامة لقصور الثقافة»، فى كتابه مذكراتى فى السياسة والثقافة، خطّ عكاشة رؤيته الطموحة لنقل الثقافة من مركزية العاصمة إلى هامش الوطن، مستلهمًا نماذج العدالة الثقافية فى أوروبا الاشتراكية، لإيمانه بأن العدالة الاجتماعية لا تكتمل دون عدالة فى توزيع المعرفة والفنون. . اقرأ أيضًا| غدا بمطروح.. قصور الثقافة تنظم مؤتمر آفاق جديدة لذوي القدرات الخاصة مرت السنوات، وتعاظم الحلم... فاليوم، بعد أكثر من ستة عقود، تضم الهيئة أكثر من 600 موقع ثقافى بين قصور وبيوت ومكتبات ومراكز منتشرة على امتداد الخريطة المصرية، لتعد ذراعًا قوية لوزارة الثقافة، فهى قادرة نظريًا على الوصول إلى قلب المجتمع، لكن، هل لا تزال هذه الذراع بنفس القوة؟ وهل ما زال الحلم حيًّا كما أراده صاحبه الأول؟ خاصة مع القرارات الأخيرة بإغلاق عدد من المقار المؤجرة، وهى قرارات أثارت كثيرًا من الجدل خلال الأيام السابقة، مما دعا مجلس النواب إلى مناقشتها، بعد أسابيع من نقاشات سابقة حول آليات تفعيل قصور الثقافة. اقرأ أيضًا| أتوبيس الفن يقدم جولة ثقافية للأطفال بمحمية قبة الحسنة بأبو رواش تفتح «الأخبار» هذا الملف باستعراض آراء عدد من نواب البرلمان، الذين أكدوا أهمية الهيئة فى معركة ترسيخ الوعي، بالإضافة إلى مناقشة المسئول الأول عن «قصور الثقافة»، وسوف تفتح الباب أمام المثقفين بعد ذلك ليوضحوا وجهات نظرهم ورؤاهم، كما نقدم «إنفوجرافًا» لعدد من المقرات التى تقرر إغلاقها، يتضمن مبررات الإغلاق، ليس انحيازًا لوجهة نظر، بل لإتاحة فرصة الرد المنطقي، فهدفنا الوحيد هو البحث عن إجابة شافية لسؤال العدالة الثقافية. مطالب برلمانية بإحياء دورها للحفاظ على الهوية نواب: استغلال الموارد مفتاح النجاح.. والشراكات مع القطاع الخاص ضرورة فى ظل التحديات الإقليمية المتسارعة، والتهديدات الفكرية التى تتربص بالمجتمع والمنطقة، عادت قصور الثقافة لتتصدر المشهد كحصون دفاعية فى معركة الوعى الوطنى، أكثر من 600 قصر ثقافى ينتشر فى ربوع مصر، إدراكًا لأهمية دورها الحيوى فى ترسيخ الهوية الوطنية والتصدى للمؤامرات التى تستهدف العقول، لاسيما عقول الشباب. منذ فجر الحضارة، كانت مصر مهدًا للفنون والآداب، ونبعًا متدفقًا للإبداع الإنسانى فى شتى صوره، لم تكن الثقافة يومًا هامشًا فى مسيرة هذه الأمة، بل كانت القلب النابض لهويتها، وقبل أن تنشأ وزارة معنية بالشأن الثقافى عام 1958، كانت الثقافة متجذرة فى الوجدان المصرى عبر الجمعيات الأهلية، المعاهد العلمية، الصحف والمجلات، والجامعات التى ساهمت فى صياغة الوعى الجمعى. هذا الزخم أفرز أجيالًا متتابعة من المفكرين والمبدعين: من رفاعة الطهطاوى، محمد عبده، والمنفلوطى، إلى أحمد شوقى، حافظ إبراهيم، فاطمة رشدى، وعزيزة أمير. وتواصلت القافلة مع نجيب محفوظ، طه حسين، العقاد، سيد درويش، أم كلثوم، عبد الوهاب، الريحانى، يوسف وهبى، وغيرهم ممن سطروا أسماءهم فى ذاكرة الأمة الثقافية. قبل ثورة يوليو 1952، كان الوجود المؤسسى للثقافة محصورًا فى مجالين: «دار الكتب المصرية» التى تأسست عام 1870، و«مصلحة الآثار» التى أنشئت فى القرن التاسع عشر، وبعد الثورة، بدأت اللبنات الأولى لإنشاء جهاز ثقافى متكامل، من خلال «الإدارة العامة للثقافة» التى أنشأتها وزارة المعارف عام 1936، حتى تأسست الثقافة الجماهيرية. ورغم هذا الانتشار، تعالت الأصوات تحت قبة البرلمان مؤخرًا للمطالبة بإحياء الدور الحقيقى لتلك القصور، وتفعيل رسالتها فى الوقت الراهن، باعتبارها أحد المفاتيح الأساسية لمواجهة الحرب الناعمة التى تستهدف الهوية والوعى. تؤكد مداخلات عدد من أعضاء مجلسى النواب والشيوخ، أن قصور الثقافة يجب أن تتحول إلى مراكز إشعاع فكرى وجمالى فى مواجهة التطرف والتشويه والجهل، كما شددوا على ضرورة دعم الهيئة وتطوير بنيتها التحتية والبرامجية، بما يتواكب مع التطور التكنولوجى والتغيرات الاجتماعية، مع إشراك الشباب فى صناعة المحتوى الثقافى وتفعيله على الأرض والاهتمام بالثقافة بشكل عام كسلاح استراتيجى. عينة عشوائية لقصور الثقافة التى سيتم إغلاقها 118 إجمالى المقرات المؤجرة منها 75 من جهات حكومية 40 متر ا وبه87 موظفا 86 مترا وبه 43 موظفا 100 متر وبه 26 موظفا مكتبة سنهود الشرقية 65 مترا وبه 21 موظفا مكتبة النزهة 40 متر ا وبه 9 موظفين بيت ثقافة إيتاى البارود 54 مترا وبه 28 موظفا مكتبة نكلا العنب 9 أمتار وبه 8 موظفين أمتار وبه 8 موظفين 65 مترا وبه 20 موظفا بيت ثقافة نادى المرج 45 متر ا وبه 25 موظفا بيت ثقافة فرشوط 90 مترا وبه 20 موظفا 1200 موظف على قوة جميع المقرات المستهدف إغلاقها د. نادر مصطفى: ترسانة فعالة لترسيخ الوعى أكد د. نادر مصطفى، وكيل لجنة الثقافة والإعلام والآثار بمجلس النواب عن تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، أن البيئة الثقافية الثرية تمثل حجر الزاوية فى تنشئة أجيال تعرف قيمة الوطن وتعتز بتاريخها وحضارتها وهويتها، مشددًا على أن قصور الثقافة تؤدى دورًا محوريًا فى تحقيق هذا الهدف من خلال ما تقدمه من عروض مسرحية ولوحات فنية وأغانٍ وأفلام تربط المواطن بجذوره وتُعيد إليه فخر الانتماء. وأوضح مصطفى أن الثقافة ليست مجرد سلعة قابلة للتداول، بل هى وسيلة لترسيخ الوعى الوطنى، مشيرًا إلى أهمية استمرار النشاط الثقافى فى إطار اقتصادى يُمكّنه من البقاء دون أن يتحول إلى نشاط تجارى بحت يفقد رسالته، ولفت إلى أن بعض القصور تتحمل تكاليف أعمالها الإنشائية البسيطة ذاتيًا لضمان استمرارية مشروعاتها، مثل تجهيزات المسارح وغيرها، بما يعكس روح الاعتماد على الذات. وأشار إلى أن التحدى الأكبر الذى يواجه العمل الثقافى هو القدرة على استكمال المشروعات وتحقيق أفضل استغلال للمال العام، مؤكدًا أن الاستمرارية والقدرة على التحدى والمواجهة تمثل مفتاح النجاح الحقيقى فى هذه المعركة، وشدد على أن قصور الثقافة يجب أن تكون نابضة بالحياة، تحتضن المعارض الفنية والموسيقى اليومية، وتتحول إلى منارات للوعى والتنوير بدلًا من أن تبقى مبانى مهجورة بلا روح. وفى هذا السياق، أكد أهمية التعاون مع وزارة السياحة لتعريف السائحين بالثقافة المصرية، وعادات كل محافظة، وأكلاتها الشعبية، ما يعكس صورة حضارية شاملة لمصر، كما أشار إلى أن الوزارات ذات الصلة مثل التربية والتعليم، التعليم العالى، والشباب والرياضة، تلعب دورًا كبيرًا فى دعم الوعى الثقافى، داعيًا إلى جعل القصور فضاءات جاذبة للأطفال والمواهب فى شتى مجالات الإبداع من كتابة وتمثيل ورسم وإخراج. ووصف د. نادر مصطفى قصور الثقافة بأنها «ماكينة عملاقة لترسيخ الوعى»، قائلًا إنه إذا ما دارت هذه الماكينة بكفاءة، فإن الأوضاع فى مصر ستتغير كليًا، واستحضر تاريخ وزارة الثقافة التى بدأت باسم «وزارة الإرشاد القومى» عقب ثورة يوليو 1952، وكانت آنذاك معنية بالدعوة لمبادئ الثورة واتجاهاتها الاجتماعية والسياسية، إلى أن تطور دورها الثقافى والفنى، وتحولت فى فبراير 1958 إلى «وزارة الثقافة والإرشاد القومى»، ثم إلى «وزارة الثقافة» المستقلة فى عام 1965 بعد نمو أنشطتها وتعدد هيئاتها، لتصبح مؤسسة قائمة بذاتها ترعاها الدولة وتدعم بها النشاط الثقافى الأهلى. وسلط الضوء على الإرث الثقافى العريق لمصر، مشيرًا إلى أن المصريين عرفوا التصوير الفوتوغرافى منذ ظهوره فى القرن التاسع عشر، واحتضنت القاهرة أول عرض سينمائى عام 1896، بعد عام واحد فقط من أول عرض سينمائى فى باريس. كما عرفت مصر دور الكتب والآثار والوثائق، وأسست أول مكتبة وطنية وأرشيف قومى فى العالم العربى، فضلًا عن دار الأوبرا الخديوية التى أُنشئت عام 1869 لتقدم فنون الأوبرا الرفيعة، فى عصر يعتبره المؤرخون مرحلة من التحديث والانفتاح الثقافى. د. مسلم: زيادة التمويل وتعزيز القدرات التكنولوجية .. القط: دعم الشراكة مع المجتمع المدنى قال د. محمود مسلم، رئيس لجنة الثقافة والإعلام والسياحة والآثار بمجلس الشيوخ، أن دعم قصور الثقافة وزيادة تمويلها بات أمرًا حتميًا لتعزيز الهوية الوطنية ومواجهة التحديات الفكرية التى تحيط بالمجتمع، مشددًا على ضرورة توجيه ميزانية أكبر لتلك القصور بما يضمن تنوع أنشطتها وانتشارها على نطاق واسع، خصوصًا فى القرى والمراكز النائية. وأشار د. مسلم إلى أن وزارة الثقافة ينبغى أن تُحاسب -حال توافر الإمكانيات -على نتائجها الفعلية، من حيث عدد المبدعين الذين تخرجهم مراكز وقصور الثقافة على مستوى الجمهورية، لافتًا إلى أن هذه المؤسسات الثقافية يجب أن تصبح مصنعًا حقيقيًا للمواهب فى مختلف المجالات الإبداعية. كما شدد على أهمية مواكبة التطور التكنولوجى فى أنشطة قصور الثقافة، خصوصًا ما يتعلق بجذب الشباب والتواصل معهم عبر الوسائط الحديثة، بحيث يتم تقديم محتوى ثقافى يتماشى مع اهتماماتهم ويتحدث بلغتهم، ويكون جاذبًا بما يكفى ليعيد إليهم العلاقة مع الثقافة والهوية. وفيما يخص مكافحة الفكر المتطرف، أوضح رئيس لجنة الثقافة والإعلام والسياحة والآثار أن مجرد وجود نشاط ثقافى داخل قصور الثقافة، سواء كان فنونًا تشكيلية أو عروضًا مسرحية أو ندوات فكرية، يمثل خط دفاع مهما ضد التشدد والتطرف، مضيفًا أن انخراط الشباب فى هذه الأنشطة يعزز مناعتهم الفكرية ويجعلهم أكثر وعيًا وانفتاحًا، وهو ما يعد أحد أهم أدوات المواجهة الناعمة للتطرف. وتابع د. مسلم قائلاً إن البنية التحتية للعديد من قصور الثقافة تعانى من التهالك، ما يتطلب توفير مخصصات مالية كبيرة لتطوير هذه المنشآت وتأهيلها للعمل بكفاءة، مشيرًا إلى أن هذه القصور كانت فى السابق منارات لإنتاج المبدعين والموهوبين، ويجب أن تستعيد هذا الدور الحيوى من جديد. وأكد ضرورة تقديم برامج تعليمية وتدريبية داخل قصور الثقافة فى مجالات متعددة، تسهم فى تمكين الأفراد من مهارات جديدة وتحسين فرصهم فى سوق العمل. كما أشار إلى أن الهيئة تتعاون بالفعل مع منظمات المجتمع المدنى والقطاع الخاص لتنفيذ مشروعات ثقافية وتنموية تهدف إلى خدمة المجتمع. كما دعا إلى تحويل قصور الثقافة إلى بيئات حاضنة للأطفال والشباب من أصحاب المواهب فى مجالات الكتابة، والرسم، والمسرح، والإخراج، مع توفير مناخ ملهم وداعم يحفز الإبداع والتعلم. وتناول د. مسلم جانبًا مهمًا يتمثل فى تعزيز الوعى البيئى عبر تنظيم فعاليات داخل قصور الثقافة، تتناول أهمية الحفاظ على البيئة من خلال ورش عمل، ومحاضرات، ومعارض تثقيفية تهتم بالقضايا البيئية وتعمل على رفع وعى الجمهور بها. واختتم د. محمود مسلم تصريحاته قائلاً: «قصور الثقافة هى ماكينة عملاقة لبناء الوعى، وإذا دارت هذه الماكينة بكفاءة وحُسن إدارة، فإن الوضع الثقافى والفكرى فى مصر سيتغير تمامًا، ومن هنا فإن دعم هذه المؤسسات وتوفير الموارد اللازمة لها لم يعد ترفًا بل ضرورة ملحة لخدمة الوطن وأبنائه». شراكة فعالة شدد النائب محمود القط، أمين سر لجنة الثقافة والسياحة والآثار والإعلام بمجلس الشيوخ على أهمية وضع خطة متكاملة لإحياء دور قصور الثقافة، خاصة فى ظل التحديات الإقليمية الراهنة. مؤكدا أن تلك القصور تحتاج إلى تفعيل دورها بشكل أكبر فى توعية الشباب، مشيدًا بما تم إنجازه من جهود إيجابية خلال الفترة الأخيرة، لكنه لفت إلى ضرورة الاستمرار فى التطوير والتحسين. وأوضح النائب أن هذا التطوير لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن شراكة فعالة بين الدولة من جهة، والقطاع الخاص والمجتمع المدنى من جهة أخرى، لافتًا إلى أن الحكومة يمكنها الاستفادة من هذه الشراكة عبر إطلاق مبادرات ثقافية تستهدف تعزيز دور قصور الثقافة فى مختلف المحافظات. وأشار إلى أن للقطاع الخاص دورًا مجتمعيًا يجب تعزيزه، كما أن للمجتمع المدنى إسهامًا تثقيفيًا وتوعويًا بالغ الأهمية، لا سيما فى المناطق النائية والأقل حظًا فى الخدمات الثقافية. وأضاف النائب محمود القط أن قصور وبيوت الثقافة، سواء الموجودة فى المدن الكبرى أو القرى الصغيرة، تلعب دورًا محوريًا فى مواجهة الفكر المتطرف والمتشدد، موضحًا أن تفعيل أنشطة متنوعة داخل هذه المؤسسات الثقافية من شأنه أن يجذب فئات عمرية واجتماعية متعددة، ويحول طاقات الشباب إلى مسارات إيجابية، مشيرًا إلى أن غياب هذه الأنشطة يفتح الباب أمام التحول إلى التطرف بسبب الفراغ الروحى والثقافى. تسويق الأنشطة كما نبه إلى ضرورة التركيز على تسويق أنشطة قصور الثقافة، موضحًا أن وزارة الثقافة تبذل جهودًا مشكورة فى هذا الجانب، خاصة فى الفترة الأخيرة، من خلال التفاعل المستمر مع وسائل التواصل الاجتماعى والمنصات الرقمية. وأكد ضرورة تعزيز هذا التفاعل وتوسيعه، مطالبًا بأن يكون للمحافظين دور أكبر فى دعم هذه الجهود، من خلال تخصيص جزء من صفحاتهم الرسمية على وسائل التواصل للترويج لأنشطة قصور الثقافة، وتعزيز التعاون بينها وبين وحدات الإدارة المحلية فى كل محافظة. واختتم النائب محمود القط تصريحاته بالتأكيد على أن نشر الوعى بأهمية قصور الثقافة بين المواطنين، خاصة فى القرى والمناطق النائية، يمثل ضرورة قصوى لضمان استفادة المجتمع من هذه المؤسسات الحيوية، بما يسهم فى بناء الإنسان المصرى وتنمية وعيه الثقافى والفكرى.