في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، انقلب السيرياليون بشكل مفاجئ ضد أبيهم الروحي الفنان الميتافيزيقي جورجيو دى شيريكو، واتهموه بالرجعية والنكوص، لأنه غير أسلوبه الذي اعتبروه من قبل تمهيدا للسيريالية، ورسم بعض اللوحات بطريقة أقرب للتقليدية، فهاجموه، وطالبوه بالتوقف عن الرسم. وهى إحدى مفارقات تاريخ الفن إذ عرف عن التيارات الحداثية نضالها لتحرير الإبداع من كل وصاية، لكنهم مارسوا ما يعرف ب«الصوابية الفنية» فى عدد من المواقف التى تثير الأسئلة عن الخيط الرفيع بين تبني ذائقة فنية، والاعتقاد بأنها وحدها الصحيحة والجديرة بالبقاء. ◄ الأيديولوجيا آفة عاني منها الفن على مر العصور ◄ طردوا سلفادور دالي من جماعة السيرياليين لأسباب فنية ◄ السيرياليون طالبوا أباهم الروحي بالتوقف عن الرسم ◄ الأكاديمية الفرنسية أقصت الانطباعيين في القرن ال19 ■ أعمال الفنان ثيو فان دوسبرج أدت لانسحاب الفنان موندريان من حركة دي ستايل عرف تاريخ الفن منذ الحضارات القديمة التزاما بقواعد وموضوعات وأساليب ميزت كل حضارة. كما تعرض الفنانون المجددون فى ثقافات مختلفة للقمع، باسم عقائد وأيديولوجيات أو لصالح مؤسسات. لكن الفنانين لم يكونوا على الدوام ضحايا، ولا حتى دعاة مخلصين لحرية الإبداع؛ ففى كثير من الأحيان مارست الحركات الفنية التى دعت للحرية، وناضلت من أجل التجديد ما يندرج ضمن القمع والاستبعاد والتضييق ضد المخالفين لمبادئها، حتى من أعضائها، معتقدين أن أساليبهم وحدها الجديرة بالبقاء. وقد وقع الكثير من تلك الأحداث فى حقبة الحداثة. ■ الأعمال الانطباعية للفنان كلود مونيه عانت الاستبعاد من طرف الأكاديمية الفرنسية ◄ الكمال لم تكن حرية الفنان محل اعتبار طوال أغلب فترات التاريخ، ولكن الالتزام بإطار عام وقواعد صارمة تبنتها الحضارات المختلفة، واعتبرتها الأسلوب الأمثل. ومن أشهر الأمثلة على ذلك فنون الحضارة المصرية القديمة التى حافظت على طابع مثالي في النحت والرسم والموسيقى، ورأت في أي خروج على أساليبها تدنيسا، وخروجا على قواعد الكمال. والأمر نفسه ساد بأشكال مختلفة فى الحضارات القديمة من بلاد الرافدين إلى اليونان. وفي العصور الوسطى مارست الكنيسة الكاثوليكية رقابة صارمة على الفن، انطلاقا من صوابية فنية قامت على أسس دينية. وفى عصر النهضة ظهرت صوابية جديدة مستمدة هذه المرة من الفن الكلاسيكى. واعتبرت قواعد المنظور والتشريح والتكوين أساسية لإبداع فن صحيح. ■ الأكاديمية الفرنسية استبعدت أعمال رينوار التأثيرية وكان الوصول إلى الكمال على أيدى «دافينشى» ورفاقه مبررا للاعتقاد بأنه لا داعى للخروج على تلك الأساليب. لكن فى أواخر القرن السادس عشر ظهرت حركة «الأسلوبية» التى انتقدت مثالية عصر النهضة، وأولوا الأسلوب والتقنية أهمية على حساب الموضوع والمعنى، مما جعلهم يصورون الشخصيات فى أوضاع معقدة ومصطنعة وفقا ل«لويجى لانزى». وهو ما أنتج حركة مضادة لمكافحة هذا الأسلوب، سعت لاستعادة الطبيعية والجاذبية العاطفية. وفى النهاية انتصر التغيير المستمر دون توقف. وفى بريطانيا التى استمرت فى اعتبار أسلوب عصر النهضة هو الكمال الذى يجب ألا يتزعزع، ظهرت جماعة «ما قبل الرفائيلية» فى القرن التاسع عشر، داعية إلى إنقاذ فن بلادهم مما وصفوه بفقر أساليب عصر النهضة. ووفقا لدراسة بعنوان «ما قبل الرفائيلية: الجمالية وهوس التجديد» ل«إليزابيث بريتيجون» فقد تأسست الجماعة بقيادة «دانتي جابرييل روزيتى» و»جون إيفرت ميليه»، كتمرد على أكاديمية الفنون الملكية التى فرضت أسلوب رافائيل الكلاسيكى. ولكنهم سرعان ما أسسوا معاييرهم الخاصة مثل الالتزام بالتفاصيل الدقيقة، والمواضيع الأدبية أو الدينية، واستخدام ألوان زاهية. وعندما حاول الفنان «فورد مادوكس براون «الانضمام إليهم، رفضوه لأنه «لا يلتزم بالشروط الجمالية للجماعة»، رغم أن أعماله كانت تتماشى مع روحهم الثورية. ■ الفنان وليم كونينج أحد رواد التعبيرية التجريدية اتهمه رفاقه بالخيانة الجمالية ◄ المرفوضون في كتاب «المراقبة والمعاقبة» ل»ميشيل فوكو» تناول الصوابية كجزء من أنظمة الحقيقة التى تنتجها المؤسسات عبر خطابات الهيمنة. كما وصفها «هربرت ماركوز» فى كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» بأنها تمثل نوعا من التسامح القمعى الذى يسمح بالتنوع ظاهريا فقط. ووضعها «أنطونيو جرامشى» ضمن آليات الطبقة الحاكمة للهيمنة الثقافية. وقد طبقت أنظمة مثل الاتحاد السوفييتى الصوابية الفنية معتبرة الواقعية الاشتراكية هى الفن الوحيد الصحيح، وما عداه برجوازى منحط، وفق كتاب الفن والثورة ل»ليون تروتسكى». لكن الفنانين مارسوا أيضا الصوابية فى فترات عديدة. وضمن ذلك ما قامت به الأكاديمية الفرنسية فى القرن 19 عندما هيمنت على المشهد، مُكرسة النمط الكلاسيكى الجديد والرومانسي، وجعلت من «الصالون الرسمى» منصة العرض الوحيدة المعترف بها، ورفضت الأعمال التى لا تتوافق مع معاييرها، مثل لوحات «كلود مونيه» و»بيير-أوجست رينوار» الانطباعية، التي اعتُبرت غير مكتملة بسبب ضربات الفرشاة السريعة، والاهتمام بالضوء العابر. وهو ما رد عليه الانطباعيون بمعرضهم الخاص عام 1874 تحت اسم «صالون المرفوضين» الذى سخر منه النقاد. وسرعان ما أسس المتمردون معايير جديدة للحداثة استبعدت الكلاسيكية والرومانسية، وأخرجتها حتى من دائرة الإبداع. ■ الفيلسوف جاك دريدا ◄ أيديولوجيا الفن بطبيعته نشاط خارج المنطق المهيمن، ويجب ألا يكون قابلا للاستيعاب ضمن أى أيديولوجيا وفق «ثيودور أورنو» فى كتابه «المقاومة الأخيرة للعقل الأداتى». وقد حاول كثير من الحداثيين تفكيك فكرة الصوابية، وعلى رأسهم طليعيو القرن العشرين من دادئيين عمدوا إلى كسر التوقع بأعمال صادمة. وكذلك فعل ما بعد الحداثيين من أمثال «جان ميشيل باسكايت»، من خلال التعددية التى مزجت الثقافات والأساليب. ومع ذلك وقع الكثير من الفنانين فى فخ الصوابية، وهو ما يوافق تحذير «جاك دريدا» من أن كل حركة تحمل بداخلها بذرة الاستبداد. أما «رولان بارت» فرأى فى كتابه «موت المؤلف» عام 1976 أن الفن يتحرر فقط عندما يسلم للجمهور، حيث تفكك سلطة النص. ورغم أن هذا التسليم قد حدث بالفعل، لكنه أدى إلى تسليع للفن، وأنتج صوابية الاستهلاك. وبالعودة للسيرياليين، فالحركة التى اشتهرت بنضالها ضد قمع النازيين والفاشيين، لم تظهر أدنى تسامح مع المختلفين معهم، حتى أنهم طردوا من عضويتها كّتابا وفنانين على رأسهم «سلفادور دالى»، بذريعة انتهاكهم لمبادئهم، ووصفوه بالانغماس فى التجارية. وهو ما يخالف ما كتبه زعيمه «أندريه بريتون» فى البيان السيريالى الثانى من أن السيريالية ليست أسلوبا بل حالة روح. ■ أندريه بروتون مؤسس الحركة السيريالية ◄ سطحية الأمثلة على ممارسة الفنانين للنفى والاستبعاد باسم الصوابية عديدة، ومنها عندما روّج الناقد «كليمنت جرينبرج» للتعبيرية التجريدية كذروة الحداثة، ووصفها بأنها الفن «النقلا» الخالى من التأثيرات الشعبية، وهاجم فى المقابل حركة «البوب آرت» في مقاله «الطليعة والكيتش» 1939، معتبراً أعمال «آندى وارهول «سطحية، وأنها ليست فنا. كما رأى فنانون مثل «بارنيت نيومان» و»مارك روثكو» فى «البوب آرت» تهديداً لجدية الفن. ووفق كتاب «أزمة الحداثة» ل«آن أيدين» 2003 فقد واجه «وليم دى كوننج» أحد أعمدة التعبيرية التجريدية هجوما حادا من زملائه عندما قدم سلسلة لوحات تصويرية لنساء في الخمسينيات. واتهم بالارتداد للماضى والخيانة الجمالية، فقط لأنه رسم بطريقة مختلفة. ■ لوحة لجون إيفرت ميلاس ما قبل الرفائيلية وفي هولندا فرضت حركة «دى ستايل» بقيادة «بييت موندريان»، استخدام الخطوط الأفقية والعمودية والألوان الأساسية فقط. وعندما أدخل «ثيو فان دوسبرج» الخطوط المائلة فى عشرينيات القرن العشرين، انسحب موندريان من الحركة، مؤكداً أن «الفن يجب أن يتحرر من الطبيعة، لا أن يُحاكيها» وفقا لكتاب «الفن التجريدى» ل»ميكايل وايفر». كما تطرفت الحركة المستقبلية فى صوابيتها، وفقا لكتاب «المستقبلية: تاريخ جمالى» ل«كريستين بوجوليا» 2008. وقد قاد «فيليبو توماسو مارينيتى» الحركة التى نادت بتمجيد التكنولوجيا والعنف والسرعة. ■ لوحة للفنان فورد مادوكس براون الذي رفضته جماعة ما قبل الرفائيلية ودعوا إلى تدمير المتاحف والفن القديم. حتى أن بعض المستقبليين وقعوا ضحايا للحركة نفسها وطردوا منها مثل الفنان «أومبرتو بوتشيونى» بعد اتهامه بالعودة إلى «الكلاسيكية». كما هاجم «مارينيتي» الفنان «كارلو كارا» عندما دمج عناصر ميتافيزيقية فى لوحاته، واعتبر ذلك خيانة لروح المستقبل. ■ من أعمال دي شيريكو التي لم تعجب السيرياليين والأمر نفسه تكرر مع حركة «السوبر ماتيزم» هندسية الطابع، فى صراعها مع الحركة البنائية، والتى اتهمت بأنها لا تقدم فنا، لأنها خاضعة للوظيفة، وطرد مناصروها من معرض «بتروجراد» 1915. وتكرر أيضا مع مدرسة «باو هاوس» الألمانية التي شجعت التنوع بين التعبيرية والوظيفية فى البداية، ثم سرعان ما تحولت إلى صرامة عقلانية أجبرت بعض أعضائها المهمين على الاستقالة، أو التخلى عن أساليبهم. ووفقا لكتاب «الحداثة والنقد» ل«أليسون بيرلينج» 2014، فقد تعرض الفن «المنيمالى» أيضا لهجوم عنيف، وإقصاء من طرف نقاد من أمثال «مايكل فرايد» عام 1967 ووصف بأنه ليس فنا. وتكرر الأمر مع الفن الواقعى الفوتوغرافى فى السبعينيات ووصف بالانحطاط والابتذال واللافن. من أعمال فريدريك ساندي رسام ما قبل الرفائيلية ورفض فنانون من حركة «البوب آرت» فى الستينيات مثل «جوزيف كوسوث» الأعمال المادية باعتبارها تقليدية، لأنهم اعتبروا الفكرة جوهر العمل الفنى. وهو ما أدى لاستبعاد فنانين مزجوا بين المفاهيمية والمواد العضوية من معارضهم واتهموا بالانتماء لماض رومانسى. ورغم ما نادت به الحركات الطليعية فى القرن العشرين من تحرير للفن والتجريب بلا حدود، إلا أنهم مارسوا ألوانا من التشدد تجاه الفن التقليدى والتمثيلى واستبعدوا الفنانين المخالفين لرؤيتهم. وما يمكن قراءته من تاريخ الفن الحديث أن كل حركة فنية تبدأ ثورية، وتنتهى كمؤسسة تحرس حدودها.