يرى د.محمود البسيوني في كتابه "الفن في القرن العشرين" أن الفنان بول سيزان يعد أبًا للفن الحديث، وميزته أنه كان ناقدًا للحركة التأثيرية في عمومها. وأنه يعد أبًا للتكعيبية، ولعله المصدر الأول لفكرتها، وقد قال في ملاحظة مهمة: "إن كل جسم في الطبيعة يمكن تلخيصه إلى معادله الهندسي: إلى المكعب والمنشور ومتوازي المستطيلات". وقد نمت تلك الحركة بعد ذلك على يد بابلو بيكاسو وجورج براك وجوان جري وغيرهم. ويرى البسيوني أن عصرنا يختلف كثيرًا عما قبله من عصور، وهذا الاختلاف من شأنه أن يؤثر على كل شيء في الحياة وبخاصة على الفن التشكيلي بفروعه المختلفة: التصويرية والتطبيقية، فهو عصر علمي، انخفض فيه التعصب سواء في العلم أو الفن (ولكنه ارتفع في الدين في السنوات الأخيرة) واشتعلت فيه الحروب، لكنه اتسم بالتغيير المستمر، وتطورت فيه السلع، وتيسرت فيه الترجمة، وتأثر بالتكنولوجيا ونظرية النسبية، ولعبت وسائل الإعلام فيه دورًا كبيرًا، وازدهرت السياحة والمعرفة والنقد ودور المتاحف والمعارض الدولية. وتوقف البسيوني عند نهاية الفن كتقليد وبدايته كإبداع، وتحدث عن الحقيقة الفنية (ذاتية وموضوعية) وأثر المغالاة في اتجاه الموضوع أو الذات، والتحول من الطبيعة إلى الفن، والتأثيرية كتمهيد للمدارس الحديثة وأوضح أن ألوان الطيف الشمسي حينما تندمح بعضها مع بعض تتحول إلى ضوء، وتناول أعمال بعض التأثيريين من أمثال كلود مونيه، وجورج سوراه، وبول جوجان، وفان جوخ، وبول سيزان محللًا لوحته "مستحمة تجلس على صخرة" التي أنتجها عام 1892، وهنري دي تولوز لوتريك، وإدجار ديحا. مؤكدًا أن الحركة التأثيرية امتدت آثارها إلى بلاد مختلفة من العالم؛ حيث حققت الاهتمام بالمدخل العلمي في البحث التشكيلي أكثر مما سبق، والإفادة من نظريات الضوء التي كشفها إسحق نيوتن، ومن خلال تلك الحركة تفوق الفن التشكيلي على موضوعاته التقليدية التي كانت تخدم الكنيسة ورسالتها، فاهتم بموضوعات مستمدة من الحياة وأنشطتها اليومية، وخرج الإنتاج الفني من الاستديوهات إلى الخلاء والمزارع، ومن الضوء الصناعي أو الضوء الخافت الذي يتسلل من النوافذ إلى ضوء الشمس. وتحررت باليتة الألوان من الألوان الأكاديمية المحفوظة إلى الألوان بنصاعتها الأصلية، وإلى إيجاد مداخل للبحث اللوني لم تكن واضحة من قبل، وتأكدت الحرية الفردية في التعبير، وبرزت الطرز الفردية وازداد تذوقها وتفتحت العقول لتقبل المزيد منها. ويرى البسيوني أن اللون الأسود لم يكن مستحبًا ضمن ألوان اللوحة قبل ظهور المدرسة الوحشية التي اهتمت بهذا اللون ومجدته في أعمال فنانيها، وعلى رأسهم هنري ماتيس حيث نفاجأ باستخدامه اللون الأسود بكثافة غير معهودة كما حدث مع روووه وغيره. لقد استطاع هنري ماتيس أن ينطلق باللون إلى آفاق أرحب مما وصل إليه التأثيريون، ويحرر اللون حتى من ارتباطه الشرطي بالشكل، وجعله أداة للبناء. ويكشف لغة توافقية في اللون تنسب إلى شخصه، بعد هضمه للتراث الشرقي والفارسي في الفن، وأن يعطي مغزى جديدًا ذكيًا للتكوين في التصوير مما جعله لغة أقرب للفهم بالنسبة للأجيال الناشئة من الفنانين، وينطلق بسجية في تحريفاته ليخدم قوة التعبير غير عابئ بالمدخل الفوتوغرافي الساذج للحقيقة البصرية. وإلى جانب هنري ماتيس يحدثنا البسيوني عن جورج روووه الذي لعب بعجينة التصوير – دسامتها وسمكها – ليشكل صوره بفيض من القوة التعبيرية، لم يعرفه فن التصوير من قبل، وتمكن من أن يستخدم اللون الأسود الذي كان محرّما من قبل، وباستخدام هذا اللون حرر أداة من أدوات التعبير، بل وقوة مثيرة من مقوماته الرئيسية، وأفاد في ذلك من تلمذته على الزجاج المعشّق بالرصاص. ومن رواد المدرسة الوحشية التي تناولهم البسيوني بالحديث راؤول دوفي، وأندريا ديران، وموريس دي فلامنك. وتأتي التكعيبية فصل تالٍ للوحشية في "الفن في القرن العشرين" ليتوقف البسيوني طويلًا عند بابلو بيكاسو الذي أقام أول معرض له وهو في السادسة عشرة من عمره. وفي عام 1907 أتم لوحته المشهورة "نساء أفينيون" التي اتخذت الحركة التكعيبية طريقها من خلالها. غير أن أهم عمل معترف به على مستوى عالمي لوحته المشهورة "جورنيكا" التي أنجزها عام 1936، وهي تمثل كابوسًا أو حلمًا مزعجًا ترجمه بيكاسو إلى لوحة حائطية تمثل الحرب الأهلية ومصائبها في إسبانيا، وقد ألفت عن تلك اللوحة الكتب الكثيرة. لقد ثار بيكاسو على التأثيرية بعد أن كان أحد مرتاديها؛ وذلك بسبب أن التأثيرية - على قدر ثورتها على الماضي الأكاديمي الميت- إلا أنها لم تخرج عن محاكاة الطبيعة الخارجية، بألوان أكثر صفاء وفاعلية. وإلى جانب تكعيبية بيكاسو رأينا تكعيبية جورج براك، وجوان جري، وفرنان ليجيه، لننتقل بعدها إلى الدادية والسيريالية، حيث انطلق الداديون يزلزلون كيان البرجوازية التي كانوا يعتقدون أنها سبب الحرب العالمية الأولى ويصورون بخيالهم صورًا للقاذورات والفضلات والمستهلكات ويشكلون منها أعمالهم الفنية، فنرى دوشامب يضع شاربًا للموناليزا، ويصور بيكابيا صور الآلات بطريقة تهكمية على العلم ونتائجه، وأصبحت كلمة "الدادا" تعني بالنسبة لأصحابها القضاء على القوانين الجمالية المنتشرة، لتمهد بذلك إلى حركة أكثر ثباتًا وتنوعًا هي الحركة السيريالية التي نراها في الأدب الشعبي وفي خيال الأطفال، وفي أعمال الجريكو وأرشيمبولدو ووليام بليك وغيرهم. ويأتي أندريا بريتون ليصدر مانفستو هذه الحركة ويتابع أصداءها في الشعر والأدب، وأصداء تحولات الدادا في باريس إلى السيريالية، ومن أهم رواد تلك الحركة مارك شجال، وسلفادور دالي، وجيورجيو دي شيريكو، وبول دلفو، وجوان ميرو وغيرهم. وعلى الرغم من أن السيريالية تأكدت في القرن العشرين بمدرستها الواضحة في التصوير وفي الشعر وفي مسرح اللامعقول، فإن جذورها متوافرة في التاريخ، بالخيال الذي نجح الفنانون في توظيفه لاختلاق أشكال للآلهة، وهي رموز لعدة معاني، وصفوها في تلك الرموز لخصائصها المستمدة منها، وإذا اختفى العنصر الخيالي السحري من الصور ظهرت خاوية بلا طموحات أو أبعاد فوق مقاساتها وأشكالها الطبيعية. وبعد السيريالية نطالع المستقبلية وهي موجة شديدة موازية في روما تفيد من التكعيبية أصدرت المانفستو الخاص بها عام 1910 والذي يبدأ بإعلان الحاجة الملحة النامية إلى الحقيقة، ولا يمكن أن تعرف بنوع الممارسات السابقة التي عرفت في الماضي عن الشكل واللون، فكل الأشياء تتحرك وتجري وتتغير بسرعة، وهذه الديناميكية العالمية هي التي يجب على الفنان أن يحاول تمثيلها، فالفراغ لم يعد إلا جوًا تتحرك من خلاله الأجسام، وتتحرك إلى الداخل، والكون نفسه متحرك متلألئ والظلال مضيئة مشتعلة، وعلى ذلك أعلن مؤسسو المستقبلية امبرتوبو بوكشيوني، وجينو سفريني، وكارا، وجياكومو بالا، ورسلو؛ أن كل أشكال التقليد يجب أن تقابل بازدراء، أما الأشكال ذات الأصالة فيجب الاهتمام بها، وأنه يجب علينا أن نثور ضد عبارات: التوافق والذوق الحسن فهذه المصطلحات المطاطة غير المحدودة يكون من السهل أن تنتهي بهدم أعمال رمبرانت وجويا ورودان، وأن الديناميكية العالمية يجب أن تظهر في التصوير باعتبارها إحساسات دينمية، وأن الحركة والضوء تتحطم معهما مادية الأجسام. ويرى البسيوني أنه على الرغم من أن المستقبلية لم تعش طويلًا فإن مساهمتها بالنسبة للحركة الحديثة في الفن كانت كبيرة جدًا وحاسمة. وإذا كانت التأثيرية انطباعًا لأثر الضوء ووهجه على الأعين، فإن التعبيرية بالنسبة لها تفجر الانفعال وبروزه في رموز أو قوالب يستطاع إدراكه من خلالها. وعلى ذلك تعني التعبيرية الإفصاح بلغة الأشكال والألوان والأحجام والأضواء والظلال عن قيمة فنية يحس بها الفنان ويريد أن ينقل من خلالها مشاعره إلى الآخرين. والتعبيرية هي انتقال للشحنة الداخلية عند الفنان إلى الخارج كي يتأثر بها غيره. ويؤكد البسيوني أن هناك التعبيرية الساذجة، وهي الإفصاح عن مشاعر الفنان بلغة تلقائية فطرية ساذجة، لا تدخلها التعليمات المدرسية التي تلقن على أنها السبيل الوحيد لإيجاد التعبير، ويرى أن التعبيرية الساذجة امتداد تلقائي طبيعي لرسوم الأطفال، ولكن بمهارات أكثر دقة، وتنتمي لعالم الكبار أكثر من انتمائها إلى عالم الصغار، وهي أقرب ما يسمى بالفن الشعبي. ومن رواد التعبيرية هنري روسو وويصا واصف وأسكار كوكوشكا وموديلياني وموريس أوتريللو. أما التجريدية فيرى محمود البسيوني أنها نتجت عن التكعيبية، وقد كان بديهيًا أن تتطور التكعيبية شيئًا فشيئًا لتمهد إلى التجريدية، وهو يؤكد أن التراث الإسلامي يزخر بمقومات تجريدية متنوعة سبقت المدارس التجريدية الحديثة بأجيال كثيرة، بل وأثرت على فهمها، ويرى أن عمق التجربة هو الذي يوصل الفنان إلى البسيط الممتنع، أو إلى الجزء المحمل بالكل، وهناك التجريدية الحركية وقادها الكسندر كالدر، والتجريدية النقائية، والتجريدية الطبيعية ومنها محاولات بيكاسو لرسم الثور عدة مرات في لوحته "جورنيكا" وفي كل مرة يحذف التفاصيل غير الضرورية. وهناك التجريدية الهندسية، حيث التعامد يعد أحد خواص الوجود على الأرض، تدعمه الجاذبية الأرضية، أما امتداد الأرض فيشكل الخاصية الثانية والتي تسمى "الأفقية". ويمثلها أعمال بيت موندريان، وبول كلي. وهناك التجريدية التعبيرية حيث يبرز السؤال: لماذ لا تقوم الأعمال الفنية التشكيلية على أسس مضاهية للأسس التي تقوم عليها الموسيقى؟ يقول البسيوني: بدأت التجارب مع فنانين أمثال واسيلي كاندينسكي وحققت نجاحًا وأصبح هذا الاتجاه من مقومات الفن التشكيلي في القرن العشرين. ثم يستعرض المؤلف الواقعية الاجتماعية في الفن وخطوطها العريضة، ويتوقف عند دييجو رفييرا، وجوزي كليمنت أوروسكو، ودافيد ألفارو سيكيروس ولوحته "يوم الحرية"، وروفينو تمايو. ثم يتحدث عن فن العامة والخطوط العريضة لتلك الحركة وروادها من أمثال: أندي وارهول، وجاسبر جونز، وروي ليشتنستين. وكان لفن النحت نصيب وافر في كتاب البسيوني، فتحدث عن رواده في القرن العشرين من أمثال: هنري مور، ومارينو ماريني، وارستيد مايول، وكونستانتين برانكوسي، وأوسيب زادكن، وباربارا هيبورث (وهي الفنانة الوحيدة التي ذكرت من بين حوالي مائة اسم لفناني القرن العشرين) ليؤكد في نهاية فصل النحت أنه اتجه إلى مسالك متنوعة سار فيها أحيانًا موازيًا للمدارس الفنية التي ظهرت في فن التصوير كالتكعيبية والمستقبلية والرمزية والتجريدية والسيريالية والبنائية والإيجازية والواقعية، وأحيانًا أخرى كان يشق له طريقًا مختلفًا معتمدًا على ملاحظات نحتية خاصة به، مؤكدًا أن هناك أسماءً عديدة جمعت بين فني التصوير والنحت، فكان نحتهم عبارة عن تصويرهم مجسمًا. على أن أهم ما يعيب تلك الطبعة التي بين أيدينا من كتاب "الفن في القرن العشرين" التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن مهرجان القراءة للجميع عام 2002 هو طباعة اللوحات بالأبيض والأسود، فلم نستشف منها شيئًا من حديث الناقد البسيوني عنها في متن الكتاب، فضلًا عن عدم وجود لوحات كثيرة يعطيها المؤلف رقمًا، وفي ملحق الصور لا نجدها مطلقا. لذا أقترح إعادة طباعة هذا الكتاب القيم مرة أخرى بعد تنقيته من الأخطاء المطبعية الكثيرة، ونشر كل الصور (بالألوان) التي يتحدث عنها البسيوني في متن كتابه والتي بلغت 112 صورة.