لعب المؤرخون على مدار الحقب التاريخية المختلفة دورًا مهمًا فى رصد أحوال المصريين وتحولات البلاد، فكانوا العين التى ننظر من خلالها على ما جرى، والقلم الذى سجل دفتر أحوال المصريين على مدار قرون، واللافت أنهم كتبوا كتبهم في العصور الخالية بنفس أدبي، وعبروا عن ذواتهم بشكل يثير الإعجاب والتأمل فى تلك الأزمة البعيدة. ◄ المقريزي وابن إياس والجبرتي الأشهر.. وابن عبدالحكم المؤسس والسيوطي الأغزر إنتاجا بفضل المؤرخين أصبح من الممكن السير فى ركاب الخلفاء الفاطميين، والتجول بين أركان قلعة السلاطين، ومصاحبة الحرافيش فى أزقة القاهرة، فما قدموه من مادة تاريخية أثار الانتباه ليس فقط على مستوى الكتابة التاريخية التي تركز على المادة التى يقدمها المؤرخ من تاريخ عصره، بل كذلك على ذات المؤرخ باعتباره حالة إنسانية تتفاعل مع ظروف عصرها، الأمر الذى جعل الكتابة عن المؤرخين المصريين في عصور مختلفة من الأمور التى تلقى صدى ورواجًا، وهو ما يكشفه صدور كتاب «أبو المحاسن بن تغرى بردي: مؤرخ مصر المملوكية»، للمؤرخ الدكتور هانى حمزة. الكتاب صدر قبل أيام عن دار العين للنشر، ويقول عنه المؤلف هانى حمزة: «يتناول الكتاب سيرة جمال الدين أبو المحاسن بن تغرى بردي، المؤرخ الأهم لمصر فى الحقبة المملوكية (1250- 1517م)، وبالأخص خلال القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، حيث كان من أبرز أعلام المدرسة التاريخية المملوكية. ورغم مكانته العلمية الكبيرة، فإن ابن تغرى بردى لا يحظى بالحضور نفسه فى الوعى المصرى العام، كما هو الحال مع مؤرخين مثل: المقريزي، الذى خُلد اسمه فى الشوارع والمدارس واقترن بخطط القاهرة قديمًا وحديثًا، أو ابن إياس، الذى وثق لحظات سقوط الدولة المملوكية، أو الجبرتي، الذى صار اسمه مرادفًا لكلمة مؤرخ فى الذاكرة الشعبية. أما ابن تغرى بردي، فقد اقتصر حضوره خارج الأوساط الأكاديمية على شارع وميدان يحملان اسمه بصيغة مجهلة؛ جمال الدين أبو المحاسن، دون ذكر اسمه العلم أو اللقب، فلا يدرك كثيرون من هو هذا الرجل». وتابع: «الكتاب يسعى إلى تقديم صورة شاملة ومبسطة للقارئ غير المتخصص عن هذا المؤرخ الكبير، فى واحدة من أزهى فترات التاريخ الإسلامى المصري، لا يقتصر العرض على أعماله التاريخية ومنهجه ورؤيته للواقع من حوله، بل يشمل كذلك تفاصيل حياته الشخصية. ◄ اقرأ أيضًا | فى الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية :توثيق أعنف الصراعات المسلحة فى التاريخ وأضاف: «جاء هذا العمل بدافع شغف شخصى طويل بهذا المؤرخ؛ ورغبة فى إعادة الاعتبار إلى شخصية ظلمها التهميش، رغم دورها المحورى فى تسجيل تاريخ حقبة شديدة الحيوية، وهو دعوة مفتوحة إلى إعادة قراءة التاريخ لا من خلال الوقائع فقط، بل عبر أصحابه أيضًا». ويعد ابن تغرى بردى (توفى سنة 874ه/ 1470م)، أحد أبرز المؤرخين لمصر فى العصور الإسلامية، فهو ينتمى إلى طبقة أبناء المماليك، إذ كان والده تغرى بردى من كبار المماليك ووصل إلى منصب نائب السلطنة المملوكية، لذا كان لابنه اطلاع واسع بطبقة المماليك التى تتحدث التركية عادة، الأمر الذى أضاف ميزة لكتاباته التاريخية التى ترك لنا منها العديد من العناوين المهمة فى تاريخ مصر عامة وتاريخها فى الحقبة المملوكية خاصة. وينتمى ابن تغرى بردى إلى سلسلة طويلة من المؤرخين المصريين فى العصور الإسلامية، بداية من ابن عبدالحكم (توفى سنة 257ه/ 871م)، أول مؤرخ مصرى والذى كتب كتابه الشهير (فتوح مصر وأخبارها)، مرورًا بابن زولاق والكندى والمسبحى والقضاعى وابن عبدالظاهر والنويرى وابن أيبك وابن فضل الله العمرى والقلقشندى وابن الفرات والمقريزى وابن حجر والعينى والسيوطى وابن إياس والجبرتي، الذى عاصر الغزو الفرنسى لمصر ثم بدايات حكم محمد على باشا، لذا يعد الأشهر مع المقريزى مؤرخ مصر الكبير وابن إياس الذى عاصر الغزو العثمانى لمصر. المؤرخون المصريون دخلوا مرحلة الإبداع الروائي، إذ رأى الكثير من الروائيين فى هذه الأصوات التى حفظت تاريخ البلاد والعباد، مادة إنسانية ضخمة وكنز يمكن النهل منه بلا نهاية فى أعمال أدبية يعاد توظيف المادة التاريخية فيه فى قوالب أدبية، الأمر الذى نجده بوضوح عند الأديب الراحل خيرى شلبي، الذى قدم رواية تنتمى إلى العالم الفانتازيا التاريخية بعنوان (رحلات الطرشجى الحلوجي) التى لم يكتف فيها برحلة فى عمق التاريخ بل جعل المؤرخ المملوكى المقريزى أحد أبرز شخصيات العمل الروائي، ثم قدم المقريزى ومجموعة من المؤرخين المصريين فى كتاب (مؤرخو مصر الإسلامية)، استخدم فيه تقنية كتابة البورتريهات والتى برع فيها. تكرر استلهام المؤرخين فى الأعمال الأدبية على يد الأديب الراحل جمال الغيطاني، الذى قدم أشهر رواياته (الزينى بركات)، التى اعتمد فيها على تاريخ المؤرخ المملوكى ابن إياس (بدائع الزهور فى وقائع الدهور)، عبر استخدام شخصية المحتسب الزينى بركات، ثم كتب رواية (خطط الغيطاني) التى استخدم فيها تقنية كتابة المقريزى لكتابه الشهير (المواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار)، والمعروف اختصارًا باسم (خطط المقريزي).