-(1)- فى عام 1996، ذات ليلة صيفية حارة، وفى جولتى المسائية المعتادة التى أمر فيها على «فرشة» الجرائد بنصر الدين فى الهرم، وجدتُ أمامى المجموعة القصصية «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» لجمال الغيطانى، وهى أول ما نشر، طبعة جديدة بغلاف جميل بريشة الفنان جمال قطب، ها هى المجموعة أمامى التى طالما قرأت وسمعت عنها الكثير، اشتريتها فورا، وسهرتُ عليها حتى الفجر. كنت حاولت قبلها قراءة «الزينى بركات» (طبعة الهيئة العامة للكتاب)، لكنى لم أكملها وتوقفت بعد عدة صفحات لأنى شعرت بأنها رواية «صعبة»، ليست مألوفة ولا سلسة كالروايات التى قرأتها سابقا، صحيح أننى قرأتُ أغلب أعمال نجيب محفوظ وقتها، وقرأت أيضا بعض الأعمال السابقة عليه لطه حسين والعقاد ويحيى حقى ومحمود تيمور وآخرين، لكنى فى كل ما سبق لم أشعر بصعوبة من أى نوع، القراءة سلسة وميسورة والحدوتة سهلة والحكاية لا تعقيد فيها ولا الغاز، ولم أكن مشغولا بأى كلام عن الشكل والتكنيك وجماليات النص الروائى وتقنيات السرد، أبدا، أما «الزينى بركات».. لا، إنها شىء آخر، ليست مثل كل ما قرأت سابقا، إنها رواية «صعبة». هكذا تركتها وقررت العودة إليها حينما يئين الأوان. لكنى، وبعد أن قرأت «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، أحسستُ بأننى أقرأ شيئا فخيما، منحوتا، نصا بذل فيه كاتبه مجهودا جبارا ليصوغ عالمه وفكرته بهذه اللغة الجديدة، لغة تستقى فرادتها من موروثنا القصصى القديم، هذا من جانب، ومن جانب آخر ما شعرت به من حرص صاحبها على طموح كبير فى استخلاص لغة (تراثية/ معاصرة)، (قديمة/ حداثية)، وكان له ما أراد فى كل ما كتب. -(2)- من هنا، شرعتُ فى قراءة الغيطانى كمشروع متكامل؛ رواياته وقصصه، مقالاته وكتبه، دراساته وتحقيقاته واهتماماته التراثية، كل ذلك فى إطار واحد لا ينفصل، وإن بدا أن المنجز الروائى والقصصى قد شق مجراه فى أدبنا المعاصر بصورة فريدة وغير مسبوقة خاصة بعد ما حققته «الزينى بركات» من نجاح وذيوع، ثم ما أعقب ترجمتها إلى العديد من اللغات الأخري؛ منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها. أعدت قراءة «الزينى» مرة واثنتين وثلاثا، وتفتحت لى أسرارها وما بين السطور، رواية تشبه بطلها وصاحبها إلى حد كبير، لا يمكن أن تسلمك نفسها دون مكابدة، وبذل المجهود، ووقعت فى فتنة «الزينى»، لأجد نفسى متورطا فى قراءة كل حرف كتب عن الرواية البديعة، أحاول أن أحيط بكل جوانب الرواية الماكرة، بدءا من اللحظة الحاسمة التى قرر فيها الغيطانى كتابتها تحت وطأة الظرف التاريخى للهزيمة فى 67، حتى تفاصيل تشييد العالم وبناء الرواية، ولغتها، وسردها، وإحالاتها، وتناصها مع نصوص تاريخية قديمة.. إلخ. قرأت «الزويل» و»الرفاعى» (كانت طبعة الأعمال الكاملة من روايات وقصص الغيطانى متاحة فى هيئة الكتاب بسعر معقول)، وقرأت أيضا «وقائع حارة الزعفرانى»، «خطط الغيطانى» «شطح المدينة» «هاتف المغيب» «رسالة فى الصبابة والوجد»، «رسالة البصائر فى المصائر»، و»أسفار المشتاق»، و»أسفار الأسفار».. قرأت كثيرا للغيطانى، ونشأت ألفة خاصة حميمة بأسلوبه وطريقته فى الكتابة، اعتدت على تراكيبه وصوره، وألفاظه التى ينحتها من قراءاته الواسعة فى التراث الأدبى والصوفى والتاريخى والشعبى، بتُ واثقا أنه يشيد معمارا راسخا ومكينا ويؤسس لمنجز سردى ليس كغيره من الإنجازات، الطموح كبير والجهد ضخم، والسعى لا يكلّ، والإنتاج غزير. -(3)- فتننى الغيطانى بعشقه المجنون للقاهرة القديمة، كنت أتابع بشغف كتاباته واستطلاعاته المصورة عن قاهرة المعز، والقاهرة المملوكية، والعثمانية، التى كان ينشر بعضا منها فى مجلة العربى الكويتية، هذا الرجل لديه قدرة باهرة فى جَذْبك (بالمعنى الصوفي) لمنطقة تشبه «مثلث برمودا» لن تستطيع أن تقاومها أو تخرج منها أبدا، يكتب الغيطانى بوجد، بهيام، يذوب ذوبا، انظر إليه وهو يتحدث أو يكتب عن مسجد السلطان حسن وبيت القاضى ومجموعة قلاوون وشارع المعز ببابيه الشماليين الفتوح والنصر، وباب زويلة فى الجنوب. يهامس الغيطانى الحجر وينصت له، وكأنه اكتشف الشفرة الخاصة لفك طلاسم اللغة السرية التى تتحدث بها أحجار المساجد والجوامع والخنقاوات والتكايا والأسبلة، والمآذن والقباب والمحاريب والأضرحة، يا ربى ما كل هذا الجمال والعشق، هذا رجل يذوب حبا فى ما بقى من تاريخنا وتراثنا القديم.. كلما تذكرت كتابه الصغير «قاهريات مملوكية» الذى كان سببا فى اقتنائى كل ما وقع تحت يدى عن تاريخ مصر الإسلامية وتاريخ الخطط والمساجد الأثرية، أدركتُ قيمة الدور الذى تؤديه «الكتابة العاشقة»، «المخلصة»، «المحرضة»، ولم أفوت له كتابًا فى هذه الدائرة: «ملامح القاهرة فى ألف سنة»، «استعادة المسافر خانة.. محاولة للبناء من الذاكرة»، وكتب أخرى. كان الغيطانى أحد أساتذتى الكبار الذين أخذوا بيدى لاستكشاف آفاق ودروب فى تاريخنا الإسلامى، وتراثنا العربى، وفنوننا المعمارية القديمة. -(4)- وبسبب كتابه البديع اللافت، المهم، القيم، الغائب عن عيون وآذان السادة الأفاضل فى التربية والتعليم، «منتهى الطلب فى تراث العرب»، اقتنيتُ أيضا كلّ كتاب تراثى عقد عنه فصلا فى هذا الكتاب، بسببه تعرفت على «التوحيدى»، وقرأته، ووقعت فى غوايته، وسمعتُ للمرة الأولى عن الأمير أسامة بن منقذ وكتابيه «الاعتبار» و»المنازل والديار»، ومنه أدمنتُ قراءة مؤرخى مصر الإسلامية (المقريزى وابن تغرى بردى والسيوطى والسخاوى وابن إياس) وسعيت لجمع وقراءة كتب الحوليات والتراجم. فى «منتهى الطلب» أيضا أثار فضولى لقراءة موسوعة «تاريخ التراث العربى» لفؤاد سزكين، وكانت مغامرة كبرى من مغامراتى (ربما أرويها فى يوم ما) للحصول على هذا الكتاب، ولم أنجح فى مطالعته وقراءة أجزاء منه إلا وأنا فى الجامعة. بفضل الغيطانى، اكتشفت أن كتب التراث شكلت نواة مكتبتى التى تضخمت وتخطت الآلاف العشرة (وربما ضعف هذا الرقم!)، سنوات طويلة وأنا أقتنى كتب التراث وأقرأ ما عنّ لى فى الأدب والتصوف والتاريخ والفقه وأصوله، فى التفسير والقراءات، فى البلاغة القديمة وعلوم اللغة (النحو والصرف والمعاجم والمفردات)، أرى مقدمة ابن خلدون وتاريخه الضخم جنبًا إلى جنب مع كتب ابن المقفع، والجاحظ والتوحيدى وابن عبد ربه، وابن رشد، والقزوينى، والغزالى، ومحيى الدين ابن عربى، والطبرى وابن الأثير والأصفهانى وابن قتيبة.. وسيبويه، وثعلب، وابن جنى، والمتنبى، وأبو تمام، وأبو العلاء المعرى، ومهيار الديلمى، وابن شهيد الأندلسى.. وابن عبد الحكم، والكندى، وابن زولاق المصرى، وابن حجر، والسخاوى، وابن تغرى بردى، والمقريزى، والسيوطى، وابن إياس، وغيرهم. أتذكر متعة التقليب فى كتب حوليات مصر القديمة، والساعات الطوال التى أمضيتها بصحبة ابن إياس فى كتابه «بدائع الزهور» (رحم الله الغيطانى هو الذى جذبنى إلى هذا الكتاب؛ بعدما قرأت روايته «الزينى بركات». الكتاب كان عنصرا تكوينيا بارزا فى بناء رواية الغيطانى التأسيسية. لكن الأهم هو حصولى على النسخة الكاملة من هذا الكتاب الفريد فى 13 مجلدا بفضل الغيطانى الذى أعاد نشر المخطوطة التى قام بتحقيقها المرحوم محمد مصطفى زيادة فى خمسة مجلدات ضخمة، وألحق بها مجلدات الفهارس التى لم تنشر ولم تر النور إلا فى هذه الطبعة من الذخائر التى كان يرأس تحريرها جمال الغيطانى.. لله درك يا غيطاني!) -(5)- لم يكن الغيطانى، رحمه الله، روائيا ممتازا من الطبقة الذهبية الأولى فى أدبنا المعاصر فقط، أو كاتبا وصحفيا من طراز خاص، بل كان مؤسسة بأكملها، مؤسسة لها تاريخ، ذاكرة حية، ومنجز باق وخالد.. ما بقيت الإنسانية والحضارة والأدب والفن.