اليوم.. مجلس النواب يناقش مشروع قانون الموازنة العامة للدولة للعام المالي الجديد    العمل تُعلن عن 225 وظيفة خالية بإحدى الأسواق التجارية بالقاهرة    أسعار الخضروات والأسماك والدواجن اليوم الأحد 15 يونيو    إسرائيل تكشف عدد الصواريخ التي اعترضتها خلال الهجوم الإيراني الأخير    كسر في الترقوة.. إمام عاشور يخضع لجراحة اليوم    دعاء امتحانات الثانوية العامة.. أشهر الأدعية المستحبة للطلاب قبل دخول اللجان    "زيزو الأعلى".. تعرف على تقييمات لاعبي الأهلي خلال الشوط الأول أمام إنتر ميامي    نقابة الموسيقيين تحذر مطربي المهرجانات والشعبي بسبب الراقصات    سعر الذهب في مصر اليوم الأحد 15-6-2025 مع بداية التعاملات    محافظ قنا يشارك في الاحتفالية الرسمية لاستقبال الأنبا إغناطيوس بالمطرانية    حارس إنتر ميامي الأفضل في افتتاح مونديال الأندية أمام الأهلي    حقيقة غضب وسام أبوعلى بعد تسديد تريزيجيه ضربة جزاء الأهلي    تحذير شديد بشأن حالة الطقس وانخفاض الرؤية: «ترقبوا الطرق»    جيش الاحتلال الإسرائيلي يستهدف مقر منظمة أبحاث دفاعية إيرانية    عودة القطاع الخاص تفتح خزائن الائتمان وتقود نمو محافظ الإقراض    إصابات واستهداف منشآت استراتيجية.. الصواريخ الإيرانية تصل حيفا    أنظمة عربية اختارت الوقوف في وجه شعوبها ؟    رقم تاريخي ل زيزو مع الأهلي ضد إنتر ميامي في كأس العالم للأندية    إعلام إسرائيلي: مصرع 5 وأكثر من 100 مصاب جراء القصف الإيراني على تل أبيب    اليوم.. طلاب الثانوية الأزهرية يؤدون امتحان مادة اللغة الإنجليزية    «زي النهارده».. وفاة وزير الداخلية الأسبق النبوي إسماعيل 15 يونيو 2009    السينما والأدب.. أبطال بين الرواية والشاشة لجذب الجمهور    ذكريات مؤثرة لهاني عادل: كنت بابكي وإحنا بنسيب البيت    موعد صرف معاشات شهر يوليو 2025 بالزيادة الجديدة    متى تبدأ السنة الهجرية؟ هذا موعد أول أيام شهر محرم 1447 هجريًا    الموعد المتوقع لإعلان نتيجة الدبلومات الفنية 2025؟.. رابط الاستعلام برقم الجلوس    سبب دمارًا كبيرًا.. شاهد لحظة سقوط صاروخ إيراني في تل أبيب (فيديو)    اليوم.. الأزهر الشريف يفتح باب التقديم "لمسابقة السنة النبوية"    "رفقة سواريز".. أول ظهور لميسي قبل مباراة الأهلي وإنتر ميامي (صورة)    أعراض السكتة القلبية، علامات صامتة لا يجب تجاهلها    سوريا تغلق مجالها الجوي أمام حركة الطيران    السفارة الأمريكية في البحرين تدعو موظفيها إلى توخي الحذر عقب الهجوم على إيران    "العسل المصري".. يارا السكري تبهر متابعيها في أحدث ظهور    الجلاد: الحكومة الحالية تفتقر للرؤية السياسية.. والتعديل الوزاري ضرورة    ضبط كوكتيل مخدرات وأسلحة آلية.. سقوط عصابة «الكيف» في قبضة مباحث دراو بأسوان    حدث منتصف الليل| السيسي يبحث مع أردوغان الأوضاع الإقليمية.. وسبب ظهور أجسام مضيئة بسماء مصر    بداية العام الهجري الجديد 1447.. عبارات مميزة لرسائل تهنئة وأجمل الأدعية    القانون يحظر رفع أو عرض العلم المصرى تالفا أو مستهلكا أو باهت الألوان    إصابة سيدتين وطفل في انقلاب ملاكي على طريق "أسيوط – الخارجة" بالوادي الجديد    رسميًا بعد الارتفاع.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 15 يونيو 2025    كهرباء قنا تفتتح مركزًا جديدًا لخدمة العملاء وشحن العدادات بمنطقة الثانوية بنات    بمشاركة 20 ألف.. مستقبل وطن يُطلق مؤتمر شباب الدلتا بالإسكندرية    شهادة أم وضابطين وتقارير طبية.. قائمة أدلة تُدين المتهم في واقعة مدرسة الوراق (خاص)    نتناولها يوميًا وترفع من نسبة الإصابة بأمراض الكلى.. أخطر طعام على الكلى    دون أدوية أو جراحة.. 5 طرق طبيعية لتفتيت وعلاج حصوات الكلى    ضمن مبادرة "100 مليون صحة".. صحة الفيوم تقدم خدمات المبادرات الرئاسية لأكثر من 18 ألف مواطن خلال عيد الأضحى    سر دموع عبد الفتاح الجرينى على الهواء فى "صندوق الذكريات" ب"آخر الأسبوع"    بدأت في القاهرة عام 2020| «سيرة» وانكتبت.. عن شوارع مدن مصر القديمة    جامعة بدر تفتح باب التقديم المبكر بكافة الكليات لطلاب الثانوية العامة والأزهري والشهادات المعادلة    أسرار صراع المحتوى «العربي - العبري» في الفضاء الاصطناعي    النيابة تدشن المرحلة الأولى من منصتها الإلكترونية "نبت" للتوعية الرقمية    هاني رمزي: خبرات لاعبي الأهلي كلمة السر أمام إنتر ميامي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 15-6-2025 في محافظة قنا    كأس العالم للأندية| «ريبيرو» يعقد محاضرة فنية للاعبي الأهلي استعدادًا لمواجهة إنتر ميامي    إصابة 10 أشخاص إثر حادث تصادم 3 سيارات في دمنهور (صور)    فرصة للراحة والانفصال.. حظ برج الدلو اليوم 15 يونيو    رئيس هيئة الرقابة النووية والإشعاعية السابق: لا تأثيرات لاستهداف المنشآت النووية الإيرانية على مصر    الهلال الأحمر المصرى: تنظيم حملات توعوية لحث المواطنين على التبرع بالدم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حينما تحدثت دموع المليجي
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 08 - 05 - 2025

الجو العام في مايو 1970 بمدينة "كان" الفرنسية مغمورٌ بالشمس المتوسطية التي تتسلل إلى أروقة أحد أعرق مهرجانات العالم، مهرجان "كان" السينمائي الدولي. كان شيء غير مرئي يحوم في فضاء المهرجان، شيء أعمق من العروض، وأبقى من العدسات التي تلتقط الصور المبهجة المضيئة لنجوم زمانها على السجادة الحمراء.
انتهى عرض فيلم "الأرض" ليوسف شاهين، الفيلم الذي لم يكن عملًا سينمائيًا، بل مرثية مبللة بدموع الفلاحين، وبكاء النيل. وقف محمود المليجي - بطل الفيلم - تصفق له أيادٍ ناعمة لا تعرف طعم الطين، ولا ألم فقدان أعز ما يملك، هتفوا له بلغة لا تفهم المأساة، نعم، تحب الأداء، لكنها تجهل الجرح.
حياهم المليجي ببساطته، وخرج من القاعة بخطوات رزينة، كأنها تعبر تراب مصر لا رخام الريفييرا. خرج وخلفه جروح مثقلة بندوب هزيمة 1967، وأحلام لم تكتمل.
"الأرض لو عطشانة نرويها بدمانا"، لم تكن مجرد كلمات أغنية أخيرة في الفيلم، بل كانت نبوءة تسري في شرايين المليجي ذاته، وهو يرمق الجمهور الذي يحييه بعينين دامعتين، فيهما تاريخ شعب يرفض الركوع، وجبين فلاّح لا يعرف سوى معنى الكرامة. كانت عينا المليجي، في تلك اللحظة، لا تنظران إلى جموع المحيين المنبهرين بأدائه، بل تخترقان الجدران والأسقف وتعبران البحر لتصلان إلى سيناء وفلسطين والجولان، إلى جندي مجهول يرقد في الرمال بصمت ينتظر لحظة النصر، إلى طفل في مخيم ينام على صخرة، ويحلم بعودته إلى بيته. كانت نظرته صامتة، لكنها تحمل ألف خطاب. نظرة تقول: نحن هنا، لكننا لسنا هنا.
في زوايا المهرجان، بدأت الوجوه الإسرائيلية والمناصرة للصهيونية تظهر، يلوّحون بترحيب مريب، بابتسامات مبطّنة بالسياسة أكثر من الفن، يحاولون مصافحة المليجي نفسه، وكذلك العلايلي ونجوى إبراهيم، يحاولون المصافحة وكأن قبضة اليد قادرة على محو جراح العدوان، ومحو حقيقة أن جزءًا من الوطن لا يزال محتلاً، وأن مجازر الحرب لم تُمحَ بعد من الذاكرة.
اقترب أحدهم من المليجي يصافحه، واقترب آخر يحمل كاميرا لالتقاط اللحظة الفارقة، ألقيا التحية بنبرة واثقة. المليجي لم يرد، فقط رمقهما بنظرة طويلة، فيها من الاحتقار ما يكفي لهدم عشرات الأسوار، وفيها من الألم ما لا تحتمله عدسات التصوير. تلك النظرة، كانت تعني الكثير، تعني أن الاحتلال لا يُصافح، حتى وإن ارتدى أفخر الثياب، وحضر أهم المهرجانات.
المليجي لم يكن يحتاج إلى كلمات، فالصمت كان صوته الأقوى. نظر حوله، فرأى الكاميرات تتربص بأي مشهد يجمع مصريًا بإسرائيلي، لالتقاط صورة تعيد تشكيل الحقيقة في صحف العالم، كأن الدماء قد جفّت، وكأن الهزيمة كانت مجرد مشهد في فيلم.
في قلب المليجي، كان يعرف أن هذه الأرض، أرض السينما، أرض الجوائز، لا تفهم معنى أن تكون فنانًا من وطنٍ جريح. لا تدرك أن أداءه لدور "محمد أبو سويلم" لم يكن تمثيلًا، بل إعادة خلق للذات، ذوبانًا في شخصية الفلاح، رجل الأرض، الذي يقاوم اقتلاع الجذور بأسنانه، وينهار في النهاية، جسدًا، لا روحًا، ولكنه متمسك بالزرع، أو بالأمل.
اقترب "وسيط" إسرائيلي آخر، عارضًا عليه فرصة التمثيل في فيلم عالمي، حدثه بكلمات من ذهب. ابتسم المليجي ساخراً مرة، تلك التي يُجيدها حين يحتقر الفكرة أكثر مما يحتقر قائلها. ثم التفت، وأدار ظهره، دون أن ينطق بكلمة.
الصمت كان كافيًا يا مليجي. صمت العيون هنا قنبلة، ورسالة، وصرخة. لقد عرفوا الجواب من عينيه، من جبينه المجعّد، من يديه اللتين ما زالتا تحملان رائحة القطن والتراب. لم يكن في حاجة إلى أن يصرخ "لا"، فكل ذرة في جسده كانت تصرخ، وكل نظرة من حينه كانت تقول لا.
في مكان قريب، وقف عزت العلايلي، وكان يبدو عليه التوتر ذاته. نجوى إبراهيم كانت تحاول أن تخفف من ثقل اللحظة بابتسامة باهتة، فيما ظل يوسف شاهين يراقب المشهد كأنه يقرأ سيناريو جديدًا، يعرف نهايته مسبقًا، بينما كبح عبدالرحمن الشرقاوي جماح لسانه.
كان مهرجان "كان" في تلك الليلة، مسرحًا لصراع خفي. ليس بين الأفلام، بل بين القيم. بين ذاكرة الجرح، ووقاحة النسيان. بين من يريد أن يلتقط صورة لسلام مزيف، وبين من يرفض أن يكون مجرد ديكور في لعبة تطبيع ناعمة. وكان محمود المليجي، نجم المشهد، وحارس الذاكرة.
بعد العرض، تفرقت الجموع، جلس المليجي في شرفة غرفته المطلة على البحر، لم يشعل سيجارة، ولم يكتب رسالة، فقط راقب الأمواج. رآها تعلو وتهبط، كأنها تحاكي موجات الحرب ومواسم النكسة والانتصار. لم يكن في حاجة إلى الكلام، فالأرض قالت كل شيء.
"الأرض لو عطشانة" رددها في سره، وسقطت دمعة لا تشبه دموع الفن، بل تشبه دمعة الفلاح حين يُنتزع من أرضه. دمعة وطن، دمعة من يعرف أن المعركة لم تنتهِ، وأن كل شيء جميل في هذا العالم مهدد بالمحو إن لم تُصن الأرض أولًا.
في تلك اللحظة، فهم البحر، وفهم الليل، أن المليجي لم يكن عظيمًا بموهبته فقط، بل بموقفه. أن المليجي، لم يمثل "أبو سويلم"، بل عاشه، ومات فيه، وتركه حيًا ليتحدث عنّا وعنه إلى الأبد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.