الجو العام في مايو 1970 بمدينة "كان" الفرنسية مغمورٌ بالشمس المتوسطية التي تتسلل إلى أروقة أحد أعرق مهرجانات العالم، مهرجان "كان" السينمائي الدولي. كان شيء غير مرئي يحوم في فضاء المهرجان، شيء أعمق من العروض، وأبقى من العدسات التي تلتقط الصور المبهجة المضيئة لنجوم زمانها على السجادة الحمراء. انتهى عرض فيلم "الأرض" ليوسف شاهين، الفيلم الذي لم يكن عملًا سينمائيًا، بل مرثية مبللة بدموع الفلاحين، وبكاء النيل. وقف محمود المليجي - بطل الفيلم - تصفق له أيادٍ ناعمة لا تعرف طعم الطين، ولا ألم فقدان أعز ما يملك، هتفوا له بلغة لا تفهم المأساة، نعم، تحب الأداء، لكنها تجهل الجرح. حياهم المليجي ببساطته، وخرج من القاعة بخطوات رزينة، كأنها تعبر تراب مصر لا رخام الريفييرا. خرج وخلفه جروح مثقلة بندوب هزيمة 1967، وأحلام لم تكتمل. "الأرض لو عطشانة نرويها بدمانا"، لم تكن مجرد كلمات أغنية أخيرة في الفيلم، بل كانت نبوءة تسري في شرايين المليجي ذاته، وهو يرمق الجمهور الذي يحييه بعينين دامعتين، فيهما تاريخ شعب يرفض الركوع، وجبين فلاّح لا يعرف سوى معنى الكرامة. كانت عينا المليجي، في تلك اللحظة، لا تنظران إلى جموع المحيين المنبهرين بأدائه، بل تخترقان الجدران والأسقف وتعبران البحر لتصلان إلى سيناء وفلسطين والجولان، إلى جندي مجهول يرقد في الرمال بصمت ينتظر لحظة النصر، إلى طفل في مخيم ينام على صخرة، ويحلم بعودته إلى بيته. كانت نظرته صامتة، لكنها تحمل ألف خطاب. نظرة تقول: نحن هنا، لكننا لسنا هنا. في زوايا المهرجان، بدأت الوجوه الإسرائيلية والمناصرة للصهيونية تظهر، يلوّحون بترحيب مريب، بابتسامات مبطّنة بالسياسة أكثر من الفن، يحاولون مصافحة المليجي نفسه، وكذلك العلايلي ونجوى إبراهيم، يحاولون المصافحة وكأن قبضة اليد قادرة على محو جراح العدوان، ومحو حقيقة أن جزءًا من الوطن لا يزال محتلاً، وأن مجازر الحرب لم تُمحَ بعد من الذاكرة. اقترب أحدهم من المليجي يصافحه، واقترب آخر يحمل كاميرا لالتقاط اللحظة الفارقة، ألقيا التحية بنبرة واثقة. المليجي لم يرد، فقط رمقهما بنظرة طويلة، فيها من الاحتقار ما يكفي لهدم عشرات الأسوار، وفيها من الألم ما لا تحتمله عدسات التصوير. تلك النظرة، كانت تعني الكثير، تعني أن الاحتلال لا يُصافح، حتى وإن ارتدى أفخر الثياب، وحضر أهم المهرجانات. المليجي لم يكن يحتاج إلى كلمات، فالصمت كان صوته الأقوى. نظر حوله، فرأى الكاميرات تتربص بأي مشهد يجمع مصريًا بإسرائيلي، لالتقاط صورة تعيد تشكيل الحقيقة في صحف العالم، كأن الدماء قد جفّت، وكأن الهزيمة كانت مجرد مشهد في فيلم. في قلب المليجي، كان يعرف أن هذه الأرض، أرض السينما، أرض الجوائز، لا تفهم معنى أن تكون فنانًا من وطنٍ جريح. لا تدرك أن أداءه لدور "محمد أبو سويلم" لم يكن تمثيلًا، بل إعادة خلق للذات، ذوبانًا في شخصية الفلاح، رجل الأرض، الذي يقاوم اقتلاع الجذور بأسنانه، وينهار في النهاية، جسدًا، لا روحًا، ولكنه متمسك بالزرع، أو بالأمل. اقترب "وسيط" إسرائيلي آخر، عارضًا عليه فرصة التمثيل في فيلم عالمي، حدثه بكلمات من ذهب. ابتسم المليجي ساخراً مرة، تلك التي يُجيدها حين يحتقر الفكرة أكثر مما يحتقر قائلها. ثم التفت، وأدار ظهره، دون أن ينطق بكلمة. الصمت كان كافيًا يا مليجي. صمت العيون هنا قنبلة، ورسالة، وصرخة. لقد عرفوا الجواب من عينيه، من جبينه المجعّد، من يديه اللتين ما زالتا تحملان رائحة القطن والتراب. لم يكن في حاجة إلى أن يصرخ "لا"، فكل ذرة في جسده كانت تصرخ، وكل نظرة من حينه كانت تقول لا. في مكان قريب، وقف عزت العلايلي، وكان يبدو عليه التوتر ذاته. نجوى إبراهيم كانت تحاول أن تخفف من ثقل اللحظة بابتسامة باهتة، فيما ظل يوسف شاهين يراقب المشهد كأنه يقرأ سيناريو جديدًا، يعرف نهايته مسبقًا، بينما كبح عبدالرحمن الشرقاوي جماح لسانه. كان مهرجان "كان" في تلك الليلة، مسرحًا لصراع خفي. ليس بين الأفلام، بل بين القيم. بين ذاكرة الجرح، ووقاحة النسيان. بين من يريد أن يلتقط صورة لسلام مزيف، وبين من يرفض أن يكون مجرد ديكور في لعبة تطبيع ناعمة. وكان محمود المليجي، نجم المشهد، وحارس الذاكرة. بعد العرض، تفرقت الجموع، جلس المليجي في شرفة غرفته المطلة على البحر، لم يشعل سيجارة، ولم يكتب رسالة، فقط راقب الأمواج. رآها تعلو وتهبط، كأنها تحاكي موجات الحرب ومواسم النكسة والانتصار. لم يكن في حاجة إلى الكلام، فالأرض قالت كل شيء. "الأرض لو عطشانة" رددها في سره، وسقطت دمعة لا تشبه دموع الفن، بل تشبه دمعة الفلاح حين يُنتزع من أرضه. دمعة وطن، دمعة من يعرف أن المعركة لم تنتهِ، وأن كل شيء جميل في هذا العالم مهدد بالمحو إن لم تُصن الأرض أولًا. في تلك اللحظة، فهم البحر، وفهم الليل، أن المليجي لم يكن عظيمًا بموهبته فقط، بل بموقفه. أن المليجي، لم يمثل "أبو سويلم"، بل عاشه، ومات فيه، وتركه حيًا ليتحدث عنّا وعنه إلى الأبد.