غياب قوانين واضحة لتوطين الوظائف يترك السوق عرضة لاختيارات قد لا تخدم المصلحة الوطنية فى خضم احتفالات مصر بعيد العمال، تبرز قضية جوهرية تستحق التأمل والمناقشة الجادة، وهى قضية توطين الوظائف وتمكين العمالة المصرية فى سوق العمل المحلي. ففى الوقت الذى تشهد فيه مصر نموًا اقتصاديًا وزيادة فى الاستثمارات الأجنبية، نلاحظ ظاهرة تستدعى التوقف عندها، وهى تزايد أعداد العمالة الوافدة فى العديد من القطاعات. الجهاز المركزى للإحصاء أعلن أن عدد الأجانب الحاصلين على ترخيص للعمل فى القطاع الخاص والاستثمارى فى مصر ارتفع بنسبة 30.2٪ عن العام الماضى فقط!! ويبلغ تعداد تلك العمالة الأجنبية ما يقرب من 80 ألف موظف.. قد يرى البعض أن هذا العدد هزيل ولا يمثل شيئا بالنسبة لتعداد المصريين لكن لو علمنا أن تكلفة توفير فرصة عمل لمواطن واحد وفق بيانات البنك الدولى تتراوح ما بين 25 إلى 30 ألف دولار وأن مصر تحتاج أكثر من 500 مليار جنيه سنويا لتوفير مليون فرصة عمل جديدة فالأمر يحتاج إلى وقفة من وزير العمل محمد جبران.. لدينا آلاف الشباب المصرى المؤهل يعانى من البطالة أو يضطر إلى قبول وظائف بأجور لا تتناسب مع مؤهلاته وخبراته. لا شك أن وجود عمالة أجنبية فى بعض التخصصات النادرة أو التى تتطلب مهارات خاصة أمر مفهوم، لكن ما يثير التساؤل هو انتشار هذه الظاهرة فى وظائف عادية يمكن أن يشغلها مصريون بمهارات مماثلة أو أفضل. ففى الفنادق والمطاعم الفاخرة، وفى المجمعات السكنية الراقية، وحتى فى بعض الشركات الكبرى، أصبح من المعتاد رؤية عمالة أجنبية تشغل وظائف كان من الممكن أن تكون فرصة عمل مشروعة للشباب المصري. دول الخليج سبق وتبنت سياسات واضحة لتوطين الوظائف، مثل «السعودة» فى السعودية و«الكويتة» فى الكويت و«البحرنة» فى البحرين، و«التعمين» فى عمان حيث تم فرض نسب إلزامية لتوظيف المواطنين فى القطاع الخاص، مصحوبة ببرامج تدريبية مكثفة لرفع كفاءة العمالة المحلية. هذه السياسات لم تكن تهدف فقط إلى تقليل الاعتماد على العمالة الوافدة، بل أيضًا إلى تعزيز المشاركة الاقتصادية للمواطنين وضمان استفادتهم من عوائد النمو الاقتصادى وفرص العمل. فى مصر، نجد أن غياب قوانين واضحة لتوطين الوظائف يترك السوق عرضة لاختيارات قد لا تخدم المصلحة الوطنية على المدى البعيد. صحيح أن هناك جهودًا كبيرة تبذل فى مجال التدريب المهنى وتأهيل الشباب لسوق العمل، لكنها تبقى غير كافية فى ظل غياب إطار تشريعى يحمى حقوق العمالة المصرية ويضمن لها الأولوية فى التوظيف.. والقانون لا يلزم صاحب العمل بتعيين مصريين لذلك نرى مشروعات خاصة كاملة لا يعمل بها سوى أجانب كما أن بعض الشركات قد تفضل العمالة الأجنبية لأسباب تتعلق بالمظاهر «الكاذبة» تخيلوا نادٍ بإحدى المناطق الراقية يجلب مصفف شعر لبنانيا ليتقاضى آلاف الدولارات ومدارس خاصة لا توظف سوى معلمين ومعلمات من الولاياتالمتحدة وكندا وأوروبا وروسيا بينما الكفاءات المصرية عاطلة بلا أى فرصة. إن تبنى سياسة تمصير الوظائف «المصرنة» لا يعنى إقصاء الأجانب أو الانغلاق على الذات، بل هو ضمان لحقوق العمالة المصرية فى الحصول على فرص عمل عادلة فى بلدها. وهذا يتطلب إجراءات متكاملة تشمل وضع تشريعات تلزم الشركات بتوظيف نسبة معينة من المصريين، وعدم تعيين أجانب فى وظائف يمكن أن يشغلها مصريون بنفس الكفاءة وتطوير منظومة التدريب المهنى لتلبية احتياجات السوق، وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار فى رأس المال البشرى المصري. كما أن هناك حاجة إلى مراجعة سياسات الأجور لضمان عدالة التوزيع وعدم التمييز بين العامل المصرى ونظيره الأجنبى فى نفس الوظيفة. إن احتفالنا بعيد العمال هذا العام يجب أن يكون فرصة لإعادة النظر فى سياسات سوق العمل، ومعالجة ما يطرأ من قضايا تخص العمالة المصرية لتكون ضمن الأولويات الوطنية. فالشباب المصرى يمتلك الطاقة والقدرة على الإنجاز، وما يحتاجه هو المزيد من الفرص الحقيقية تتيح له المساهمة فى بناء اقتصاده ووطنه. «المصرنة» ليست شعارا فئويا بل هى مسار ضرورى لتحقيق تنمية مستدامة تضمن العدالة وتكافؤ الفرص للجميع.