فى ضوء المتغيرات الاقتصادية المتسارعة التى يشهدها العالم، أصبحت قضايا التشغيل تمثل أكبر التحديات التى تواجه أغلب البلدان، ومن بينها البلدان العربية الخليجية التى لم تعد محصنة ضد البطالة كما كان الاعتقاد فى السابق، فمعدل البطالة فى أكبر هذه البلدان حجما وتشغيلا واستقبالا للوافدين وهى السعودية قد بلغ 43% بين خريجيها من الجامعات، بينما بلغت النسبة 14% في الإمارات . لقد أصبحت البلدان الخليجية الان فى مواجهة تحديات جدية لتنظيم سوق العمل ومعالجة البطالة بين الوطنيين بالتوازى مع حركة تدفق العمالة الوافدة إلى المنطقة، فى إطار تجزئة سوق العمل بإتباع برامج وسياسات أطلق عليها اسم "توطين الوظائف"، وقد ساعدت مثل هذه الاجراءات في استحداث 600 ألف فرصة عمل للسعوديين في الفترة الأخيرة، لكن هذا العدد لا يزال ضئيلاً مقارنة بأعداد الشباب السعوديين العاطلين . وقد وجدت الدول الخليجية بعد سنوات من الاعتماد على الايدى العاملة الاجنبية فى معظم مجالات سوق العمل أنها معادلة خطرة، ففى الوقت الذى تزدهر فيه الأعمال في هذه البلدان أصبحت نسبة العاملين الأجانب تفوق نسبة المواطنين، وهذا يجعل النظام الاقتصادي مضطربا وغير متوازن. وقد وجد الخبراء أنه في شتى دول الخليج - خاصة في دول النفط والغاز التي تقود النمو السريع في البلاد- أنه من النادر أن تجد مواطنا يعمل في أي قطاع أو مجال خدمى، حيث يفضل المواطنين الخليجيين شغل الوظائف الحكومية المريحة ذات الأجر المرتفع وساعات العمل القصيرة والتي كثيرا ما لا يجد الموظف فيها ما يشغله، أما في القطاع الخاص فقد وجد الاجانب من جنوب اسيا والعرب من غير الخليجيين والغربيون ملاذهم الأمن لإيجاد فرص العمل . ويدرك حكام الخليج منذ أكثر من عقد أنهم يواجهون مشكلة لأسباب ليس أقلها أن هذا الامر يضع سلطة تسيير العمل اليومية في قطاعات كاملة من الإقتصاد في أيدي الاجانب، ويمثل العاملون الاجانب أكثر من 80% من قوة العمل في القطاع الخاص في كثير من الدول الخليجية ويشغلون مناصب رئيسية في إدارة الشركات الوطنية في مجالات الطيران والعقارات والخدمات المالية وقطاع الاعلام. واستجابة لذلك شرعت الحكومات فى وضع خطط وبرامج لتوطين الوظائف والاعتماد على البنية البشرية المحلية، بما يحقق توازن فى معادلة سوق العمل تهدف لدفع مواطنيها للعمل في القطاع الخاص والقطاعات الخدمية فى البلاد . كانت سلطنة عمان أول من ابتدر هذا الطريق ،فأطلقت في الثمانينيات من القرن الماضي برنامجا "للعومنة"، وحذت حذوها حكومات البحرين والكويت وقطر والسعودية والامارات العربية المتحدة، وعادة ما تتضمن هذه البرامج حوافز ضريبية للشركات الخاصة التي تعين مواطنين وتحديد حصة من العمالة المحلية بكل شركة والاستثمار في تدريب الخريجين. اليوم وبعد سنوات من اتباع سياسات توطين الوظائف .. هل نجحت الدول الخليجية فى تنفيذ مخططاتها بالنسبة لتنظيم سوق العمل و العمالة ؟. يجيب عن هذا السؤال نتائج أحدث دراسة تم الكشف عنها هذا الأسبوع، وتقول إن خطط التوطين للوظائف فى دول مجلس التعاون الخليجي بعد سنوات من التنفيذ، فشلت فى تحسين فرص العمل للسكان المحليين في القطاع الخاص، بل أدت إلى أزمة جديدة حيث خلفت ورائها ما أطلق عليه "العمالة الشبح". وتشير الدراسة التى جاءت تحت عنوان " بطالة الشباب العربي" أعدها مركز " الخبير" ومقره بالعاصمة السعودية " الرياض"، إلي أن إجراءات الحكومات للتوطين أدت إلي دفع الشركات للتهرب من هذه الاجراءات بإجراءات مضادة مثل تعيين السكان المحليين فى الوظائف، بينما يتم السماح لهم البقاء في المنزل، والاعتماد علي العمالة الاجنبية فى تسيير الاعمال . الدراسة تفيد أن أهم أسباب فشل مخططات التوطين هو المهارات الفقيرة للقوى العاملة المحلية "، فالعديد من أرباب العمل لا يزالون يفضلون توظيف الوافدين إلى حد كبير، بسبب التزامهم العالي للعمل وأجورهم الا بالمقارنة مع المواطنين فضلا عن تمتعهم بالمهارات والخبرات المطلوبة لمجال العمل". وأضافت أن أرباب العمل في القطاع الخاص يشعرون أن تكلفة توظيف السكان المحليين أعلى بكثير من التعاقد مع العمالة الوافدة، مما يجعل الشركات غير قابلة للحياة، كما يفتقر السكان المحليون لمجموعة من المهارات التقنية اللازمة للوظائف الراقية. لقد واجه أصحاب الاعمال قوانين توطين الوظائف فى المملكة العربية السعودية بإجراءات مضادة خلقت طبقة من العمال غير الشرعييين الذين يقومون بأعمال السعوديين المعينين بالفعل على هذه الوظائف، مما جعل مخططات التوطين تبدو وهمية وغير ناجحة، وأجبر الحكومة فى السعودية على اتخاذ إجراءات جديدة لمعاقبة الشركات على أساس النسبة المئوية للموظفين المغتربين فيها وتقدم حوافز مغرية للشركات للامتثال للإجراءات، وقامت بزيادة حادة لرسوم التأشيرات للمغتربين في شركات القطاع الخاص التي لديها نسبة أقل من المواطنين السعوديين، مما أثر بشكل مباشرعلى هوامش الربح لدى الشركات. وفى إطار حملات أمنية لتدعيم مخططات التوطين، تم فى الفترة من مارس إلى نوفمبر 2013، ترحيل ما يقرب من مليون عامل أجنبي، من أصل ما يقرب من تسعة ملايين عامل فى المملكة العربية السعودية، وذلك بسبب عدم تجديد التأشيرات أو عدم وجود تأشيرة عمل . ويرى خبراء الاقتصاد أن الحملات الامنية أدت إلي نتائج عكسية لنظام "نطاقات" الذى اعتمدته الحكومة السعودية كمخطط يهدف لخلق وظائف للمواطنين على حساب المهاجرين، فلم يكن هناك أى جدوى لعمليات الترحيل الجماعية في تسهيل عملية توطين الوظائف بل أدت هذه السياسات لشل عدة قطاعات من الاقتصاد السعودية. حيث أصبح70% من محال الذهب في جدة قد تضطر للإغلاق بسبب عمليات الترحيل، وهذه المحال أُغلقت لمدة ستة أشهر حتى تعمل على استيفاء شروط نظام نطاقات، وهو ما أدى لارتفاع سعر الذهب بنسبة 700%، وحتى الآن 40% من ورش عمل الذهب أغلقت لعدم توافر أيدي عاملة وتضاعف الطلب على العمالة المتبقية التي تطالب برواتب أعلى الآن. وهناك أكثر من 18 شركة غير قادرة على توظيف سعوديين في 20 ألف وظيفة في مجال المواصلات، التي لا يرغب بها المواطنون بسبب الرواتب المنخفضة وساعات العمل الطويلة وظروف العمل الصعبة. كما تم الغاء أكثر من 36% من مشاريع البناء وهناك ما يقارب ال 20 ألف مدرسة بلا عمال حراسة. وفي بعض المناطق أكثر من 60% من المحال أغلقت، من بينها مخابز، محلات تنظيف، مطاعم، وأماكن تغسيل الجثث، هذا فضلا عن تزايد شكاوى المواطنين السعوديين فيما يخص غياب الخدمات وارتفاع أسعار السلع. خبراء اقتصاديون محليون وأجانب توقعوا الآثار السلبية لبرامج توطين الوظائف حتى قبل بدء تطبيقها في عام 2011 ، وحذروا من التطبيق القسري لنسب التوطين وعمليات الترحيل الجماعية التي قد تشل قطاعات من الاقتصاد السعودي وتقلل من نسب العمل.. وهذه التوقعات قائمة على فشل دول الخليج في جذب مواطنيها إلى الوظائف الخدمية والخاصة، فلا يمكن أن تنجح مخططات التوطين لوظائف الا اذا كانت مصحوبة بإصلاحات لهيكل الأجور وإقامة برامج لدعم واكتساب المهارارات للسكان المحليين، ليكونوا قادرين على شغل فرص العمل المتوفرة والتى يشغلها المغتربون . وترى الدراسة الجديدة أن خطط التوطين السعودية تتناقض مع أهدافها ومع حاجات الاقتصاد السعودي على المدى الطويل، فضلا عن كون مشكلة البطالة أكثر تعقيداً من أن يتم اعتبارها نتيجة "لاستغلال المهاجرين للاقتصاد السعودي" واحتلالهم وظائف السعوديين كما يشاع. فهناك عدد كبير من الوظائف التي يقبل بها المهاجرون هي وظائف يرفضها السعوديون لأن رواتبها قليلة وظروفها صعبة ولها قيمة اجتماعية سيئة ( و بالفعل أقل من ربع هذه الوظائف غير اللائقة تم استثنائها من برنامج "نطاقات"). فالسعوديون يفتقرون لمهارات وخبرات تساعدهم على مل نسب التوطين في قطاعات معينة وليس أدل على هذا مثال كأزمة المهندسين حيث ترك 16 ألف مهندس أجنبي وظائفهم في السعودية ومازالت الشركات غير قادرة على إيجاد سعوديين لملئ هذه الوظائف على الرغم من قبولهم المتخرجين حديثاً وعديمي الخبرة. وتشير الدراسة إلى أنه على الرغم من أن السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي عملوا على دعم المواطنين في القطاع الخاص من خلال برامج التعليم والتدريب والتكفل بدفع زيادات مالية لهم إلا أن ذلك له تأثير ضئيل في دمج القطاعين، عملية الدمج لا يمكن أن تحصل دون الوصول إلى حقوق ومميزات متساوية لكل من العمالة المحلية والأجنبية. بالتأكيد، دور المهاجرون في الاقتصاد المحلي واضح بالنسبة للسلطات والمواطنين إلا أن الخطاب الممارس ضد المهاجرين يخلق تصوراً بأن السعودية ترعى المهاجرين كعمل خيري على عكس الواقع الذي يبين أن المملكة تعتمد عليهم. وترى الدراسة أن الوصول لاستراتيجية متوازنة وضامنة لحقوق العمال لحل مشكلة الاعتماد على العمالة الأجنبي،ة وغير الموثقة وغير القانونية يحتاج لدراسة دقيقة للمشاكل الجذرية التي تخلق ما يسمى بالعمالة المخالفة، وإجراءات مشددة لدفع المواطنين لاكتساب المهارات والخبرات التى تؤهلهم لاحتلال وظائف المغتربين، بزيادة الاستثمار في نظام التعليم، وسياسات أفضل لخلق 'نوعية' وظائف ومزيد من التمويل للشركات الصغيرة والمتوسطة لزيادة فرص العمل للشباب.