في رحاب عيد العمال، نعود بذاكرتنا إلى الحضارة المصرية القديمة، التي لم تكن فقط معجزة في فنون العمارة والهندسة، بل أيضًا نموذجًا إنسانيًا متقدمًا في رعاية حقوق العاملين. فبين جدران المعابد وصروح الأهرامات، تُروى قصة حضارة احترمت الإنسان وقدّرت جهده، حيث نظمت الدولة المصرية القديمة حياة العمال، وضمنت لهم الأجور، والمأوى، والتغذية، والرعاية الصحية، في مشهد حضاري سبق عصره وأرّخ لأول اعتراف منظم بحقوق العمال في تاريخ الإنسانية. لذلك فى عيد العمال نستشرف معالم الحضارة المصرية القديمة التى تكشف لنا كل يوم عن مواطن إبداع كحضارة إنسانية كانت فجر الضمير للعالم وكان العمال جزءًا لا يتجزأ من منظومتها الحضارية. ◄ مراعاة العمال في مصر القديمة وفى ضوء هذا تعرض لنا حملة الدفاع عن الحضارة المصرية برئاسة الدكتور عبد الرحيم ريحان دراسة عن حقوق العمال التى كفلتها الدولة لعمال بناء حضارتها وذلك من خلال دراسة بلجنة الدراسات والبحوث بالحملة برئاسة الدكتورة رنا التونسى نائب رئيس الحملة وتشير الدكتورة رنا التونسى إلى مراعاة العمال فى مصر القديمة سواءً من الناحية التنظيمية للعمل أو من ناحية توفير سبل المعيشة لهم من مسكن ومأكل وملبس ومشرب ورعاية صحية وتذليل معظم العقبات التي حالت دون إتمام العمال لعملهم خاصة بعد ما أصبح البناء بالحجر له شأن عظيم. وتضيف الدكتورة رنا التونسى أن عمال البناء فى مصر القديمة كان لهم شأن عظيم نظرًا للتوجه العام للدولة المصرية في التوسع في تشييد المباني الضخمة؛ وقد أبرزت النصوص المصرية القديمة هذه الحقوق بوضوح تام حقوق العمال فى الحصول على أجورهم كاملة وتوفير مساكن وملابس وتغذية وتحديد ساعات عمل ورعاية صحية وأجازات مرضية ◄ البقايا الأثرية ويلقى خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، رئيس حملة الدفاع عن الحضارة المصرية الضوء على هذه الدراسة موضحًا أن التغذية وإطعام هذا الكم الهائل من العمال كانت من أعظم التحديات التي واجهت الدولة والسلطات من أجل تحقيق نجاح المشروع، فكانت الوجبات اليومية أثناء ساعات الراحة من العمل حقًا من حقوق العمال وجزءًا من أجورهم منذ عصر الدولة القديمة وشهدت البقايا الأثرية في مدن العمال علي إمدادهم بما يكفيهم من حاجاتهم اليومية، وقدمت لهم "حمية البحر الأبيض المتوسط" التي تعتمد بنسبة كبيرة علي الثوم وزيت الزيتون والخبز والخضروات والفواكه والأسماك والقليل من اللحوم. وبخصوص الأجور فقد عرفت مصر الأجور المالية قبل عصر البطالمة ذلك العصر الذي ظهرت فيه النقود المصرية الأولى، لكن سجلت العديد من الوثائق التي يرجع تاريخها إلي فترات مختلفة من التاريخ المصري القديم مدى حرص الدولة علي أن تكفل للعمال ولأسرهم غايتهم من الاكتفاء وسد احتياجاتهم، فكانت تمد هؤلاء العمال بالأجور نظير عملهم عينًا في شكل حبوب والفائض يستخدم للمقايضة علي سلع أخرى، وكان يصرف لهم حصصهم التموينية في يوم 28 من كل شهر؛ فكانوا يتسلمون الأسماك التي تبدو وكأنها طعامهم الأساسي والبقوليات والخضروات وعددًا من أباريق الزيت والفول والذرة . وأشارت العديد من البرديات التي ترجع إلى عصر الأسرة الثانية عشرة إلي عدد من الحسابات لبعض صناع الطوب اللبن وأجورهم التي تمثلت في ثمانية أرغفة من الخبز لكل عامل. ◄ أجور العمال وفي عصر الأسرة الخامسة تم العثور على دفتر حسابات يحتوي علي بيان ببعض الضرائب والمرتبات العينية التي كانت تصرف للموظفين دونت بياناته في أعمدة أفقية ورأسية. وينوه الدكتور ريحان من خلال الدراسة إلى أهم المصادر في عصر الدولة الحديثة التي أمدتنا بتفاصيل دقيقة عن أجور العمال في هذه الفترة هي لوحة «منشية الصدر» التي تؤرخ بالسنة الثامنة من حكم رمسيس الثاني حيث يقول مخاطبًا العمال في مسألة الأجور «الشون مكدسة بالغلال حتى لا يمر عليكم يوم تحتاجون فيه للطعام كل واحد منكم سوف يتسلم جرايته شهريًا»، ويعتبر هذا المثال أوضح دليل علي مدى حرص الملوك على الوفاء بحقوق ومستحقات العمال، كما عثر على نصوص من عهد الرعامسة مكتوبة علي قطع من الأوستراكا توضح أن العامل كان يوقع علي عقد لفترة زمنية معلومة بمرتب ثابت. اقرأ أيضا| شريك أساسي في تحقيق النهضة.. نص كلمة الرئيس السيسي في احتفالية عيد العمال وكانت الملابس جزءًا أساسيًا من الرواتب الخاصة بالعمال ومن خلال النصوص يتضح أن صاحب العمل إذا كان من كبار رجال الدولة مثل (منى، أخت-حرى-حتب، ريمنوكا) يكتب على مقبرته أنه أعطى للعمال المشاركين فى بناء المقبرة وزخرفتها أجورهم من الملابس، وإذا كانت الدولة هي صاحب العمل فكانت تصرف للعمال ملابس بصفة دورية ومعلومة . ◄ بناء الأهرامات ويتابع الدكتور ريحان بأن الدولة عملت علي تنظيم العمل اليومي في مواقع العمل من تنظيم ساعات العمل مع كامل حقوقهم الكاملة في الأجازات، ففي عصر الدولة القديمة أثناء بناء الأهرامات كان يستيقظ العمال في وقت مبكر من الصباح قبل شروق الشمس يسيرون في طوابير من خلال الباب الموجود في منتصف سور حائط الغراب متجهين إلى موقع بناء الهرم وبعد عدد من ساعات العمل حتى الظهيرة يحصل العمال علي قسط من الراحة «حوالي ساعة»، يتناولون فيها وجبة من الطعام ثم يعودون مرة أخرى لاستئناف العمل حتى وقت الغروب، ثم يعودون إلى ثكناتهم مرة أخرى، وعمال قرية دير المدينة كانوا يوميًا يخرجون من مساكنهم في القرية متجهين إلى موقع عملهم بالوادي عند مطلع الفجر ليزاولوا عملهم علي امتداد ثماني ساعات بعد أن يتسلموا أدواتهم من الكاتب وعند الظهيرة يتوقف العمل حيث يترك العمال موقع العمل ويتجهون لأكواخ مصنوعة من الدبش أو من بقايا أحجار المقابر ليحصلوا علي وجبة خفيفة ثم ينالوا قسطًا من الراحة قبل أن يعاودوا إلى العمل مرة أخرى حتى موعد الانتهاء من العمل المكلفين به. كما ألقت دراسة الدكتورة رنا التونسى عن حقوق العمال فى مصر القديمة الضوء على الرعاية الصحية للعمال من خلال النصوص المصرية القديمة وكانت تحدث إصابات عديدة للعمال لاستخدامهم للأدوات الصلبة والحادة والمواد ثقيلة الوزن كالأحجار التي تصل أوزانها في بعض الأحيان إلى الأطنان، فمن المؤكد أن يتعرض هؤلاء العمال إلى حوادث العمل التي تحدث بشكل مفاجئ وخاصة وأن هناك فئات تشارك في هذه الأعمال ليس لديها الخبرة الكافية للتعامل مع تلك المواد والأدوات كالفلاحين اللذين يعملون في فترات الفيضان. ◄ التوازن البدني والنفسي للعامل ومن أجل ذلك اهتمت الحكومة في مصر القديمة برعاية العاملين بها صحيًا بهدف توفير التوازن البدني والنفسي للعامل وحمايته من كل الأمراض والأخطار التي قد تؤثر على أدائه وإنتاجه فأنشأت مراكز الطوارئ واتاحت الإجازات المرضية والعلاج وتوفير الأطباء بتعيين طبيب في مناطق تجمع العاملين خاصة أعمال المناجم في سيناء لاستخراج النحاس والفيروز لعلاج الأمراض المختلفة إلى جانب حالات السموم الناجمة عن لدغ الثعابين والعقارب. علاوة على وجود أطباء المجموعات وهم فئة مخصصة لتقديم الرعاية الصحية لمجموعة محددة من الأفراد يعيشون في مجتمع محدد ومقيد وطبيب المعبد الجنائزي وطبيب المقبرة للعاملين فى بناء المقابر، وقد عثر على تمثال للطبيب «بوير» يرجع إلى عصر الأسرة التاسعة عشر محفوظ الأن بالفاتيكان منقوش عليه لقبه «كبير الأطباء في الجبانة» والطبيب الملازم لمجموعة العمل فقد كان يشارك هؤلاء العاملين في العمل وحينما تتواجد الحاجة لمساعدته الطبية يقوم بممارسة عمله.