على الرغم من مرور آلاف السنين، لا تزال الحضارة المصرية القديمة تُبهر العالم بإنجازاتها المعمارية والعلمية. من بين أعظم هذه الإنجازات، نظم الرعاية الصحية التي وُجدت لرعاية العمال الذين شيّدوا الأهرامات والمعابد. يظهر دور «طبيب المقبرة» كرمزٍ بارز لهذه النظم المتقدمة، حيث كان يُشرف على صحة العمال ويقدم الرعاية الطبية لضمان استمرار عجلة البناء التي أبهرت العالم. ◄ الرعاية الصحية لعمال البناء ومازالت الحضارة المصرية القديمة تكشف عن أسرارها يومًا وراء يوم من خلال الاكتشافات والدراسات الأثرية التى تناولت حرفة البناء وما يتعرض له أصحابها ومن يعاونهم بخطر الإصابات والأمراض بسبب بيئة العمل الغير صحية، مثل العمل في المحاجر وما تقتضيه هذه الحرفة من قطع وتكسير للأحجار ومن ثم استنشاق الغبار المدمر للجهاز التنفسي وأغشية العين أو استخدام بعض الأدوات الحادة في أثناء عملهم أو السقوط من السقالات، ومن هذا المنطلق كانت الدراسة الجديدة للباحثة الآثارية رنا التونسى عن الرعاية الصحية لعمال البناء فى مصر القديمة. الباحثة رنا التونسي تشير الباحثة الآثارية رنا التونسى إلى اهتمام الحكومة في مصر القديمة برعاية العاملين صحيًا، بهدف توفير التوازن البدني والنفسي للعامل وحمايته من كل الأمراض والأخطار التي قد تؤثر على أدائه وإنتاجه ووفرت الظروف المناسبة له من أجل إتمام عمله بنجاح فعملت على تحقيق ذلك بعدة وسائل، فعلى سبيل المثال خصصت أماكن لعلاج ضحايا حوادث العمل المفاجئة داخل المدن العمالية وكان بها أطباء ومساعدى أطباء للتدخل السريع. ◄ تعيين الأطباء في مواقع العمل والمشروعات الكبرى وكان يتم تعيين طبيب في مناطق تجمع العاملين ومواقع العمل للتدخل في الوقت المناسب في حالات الإصابات المعتادة أو حالات السموم الناجمة عن لدغ الثعابين والعقارب، واحتوي التصنيف الإداري للأطباء في مصر القديمة على فئات مختلفة منها فئة «أطباء المجموعات»؛ وهم فئة مخصصة لتقديم الرعاية الصحية لمجموعة محددة من الأفراد الذين يعيشون في مجتمع محدد ومقيد «المدن العمالية»، كما أن مجموعات العمال اللذين يعملون في المشروعات العمرانية الكبرى أو يعملون بالتحجير ويرسلون إلى المحاجر والمناجم في سيناء وغيرها لم يكن يصاحبهم الجنود ورجال الدين فقط بل كان الأطباء جزءًا مكملًا لهؤلاء المجموعات. ويوضح خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان من خلال الدراسة وجود ما يسمى بطبيب المقبرة وهو طبيب يشرف على الرعاية الصحية للعاملين فى المقبرة الملكية، ويوجد تمثال للطبيب «بوير» يرجع إلى عصر الأسرة التاسعة عشر محفوظ بالفاتيكان منقوش عليه لقبه "كبير الأطباء في الجبانة". ◄ دور طبيب المجموعة في رعاية العمال وهناك أيضاً ما يسمى ملازم طبيب «المساعد» لمجموعة العمل فقد كان يشارك هؤلاء العاملين في العمل باعتباره واحدًا منهم، وحينما تتواجد الحاجة لمساعدته الطبية يقوم بممارسة عمله، فهناك الأوستراكا «5634» تنسب لبقايا قرية عمال دير المدينة محفوظة بالمتحف البريطاني تذكر شخصًا يسمى «با» كان رئيسًا لمجموعة عمال وذكر اسمه ولقبه في الأوستراكا بالشكل الآتي «مع خونسو لعمل الدواء». كما أمدتنا العديد من الأدلة الأخرى على أدلة وجود الأطباء ضمن فرق العمال حيث يوجد ببردية تورين التي يرجع تاريخها إلى العام السادس عشر من حكم الملك رمسيس التاسع تفاصيل لتوزيع الطعام وتم ذكر اثنين من الكتبة وأسماء فرقة العمال والطبيب الخاص بهذه الفرقة، وذكرت البردية أيضًا أن الطبيب الذى تم تكليفه بالعناية بهذه الفرق من العمال كان اسمه «خع - منو»، وأيضًا طبيبان على التوالي «نفر- ماعت» و«بوير» حصلوا على لقب «رئيس أطباء»، وبالرجوع إلى المسح الذى أجرى على بعض المنازل التي تقع بجبانة طيبة الغربية نجد قائمة مكونة من مائة وثمانين منزلًا ونجد بينهم جملة صريحة «منزل كبير الأطباء خع منو»؟ وهناك العديد من النصوص فى دير المدينة تشير إلى «swnw» «الطبيب» فقد ذكر هذا اللقب فى نصوص دير المدينة أكثر من مرة حيث وجد 24 نصًا يتعلق بالأطباء، الغالبية العظمى منها نصوص حصص الحبوب والتغذية ونصوص الغياب عن العمل وأخرى جزء من تهمة قانونية وتعود هذه النصوص إلى عصور أسرات مختلفة. ◄ علاج العمال ويتابع الدكتور ريحان بأن هناك قطعة من الأوستراكا «51518» تعود إلى النصف الثاني من عصر الأسرة العشرين مسجل عليها بيانا بيانًا لإحدى الشهور بالحبوب التي تم توزيعها على العمال فنرى ذكر لرئيس العمال وسبعة عشر عاملًا وكاتبًا، واثنين من الصبيان وحارس وخدم و طبيبًا يسمى «با» - «pA swnw» وهذا التوزيع هو توزيع حصص الإعاشة. اقرأ أيضا| أصل الحكاية| مقبرة «الكاهنة إيدي» تكشف أسرار الطقوس الجنائزية القديمة وتم ذكر الأطباء باستمرار في المجموعة العمالية وهذا يدل على أن وجوده في مجموعات العمال ليس وجودًا طارئًا بل وظيفة دائمة ومستمر أيضاً هناك نقش مهم للغاية من نقوش مقبرة النحات «إيبوى» «217TT» ترجع إلى عصر الملك رمسيس الثاني. ◄ الأطباء في مجموعات العمال: وظيفة دائمة ومستمرّة صوّر النقش بوضوح الرعاية الطبية التي تلقّاها اثنين من العمال على يد اتنين من الأطباء في مواقع البناء وأيضًا أمدنا بمعلومات بسيطة عن بعض الإصابات التي يمكن أن يتعرض لها العمال، كما صوّر المهام المختلفة لهؤلاء الأطباء في دير المدينة، فنجد أحد الأطباء وهو أخصائي عيون على ما يبدو ينزع جسمًا غريبًا من عين أحد العمال في حين كان الطبيب الآخر يعالج كوع أحد العمال وأحد المساعدين يعد له جبيرة لمنع حركة ذراع المريض . ويتضح من المنظر أن إصابة العاملين حدثت لهم في أثناء العمل مما يبرهن على وجود مراكز الطوارئ أو سرعة إجراء الاسعافات الأولية ويبرهن على وجود الأطباء قريبًا من مواقع العمال ويظهر سمة مهمة من سمات الطب في مصر القديمة وهو التخصص. كما اتضحت مظاهر الاهتمام الطبي بالعمال فى قطعة فخارية محفوظة في المتحف البريطاني تحت رقم «BM5634» مؤرخة بالعام الأربعين من حكم الملك رمسيس الثاني تشرح قصة عامل بقرية دير المدينة يدعى «با - حرى - با - جت» وهو شخصية مشهورة بالقرية على أنه حل محل طبيب وخصص وقتًا لزيارة مرضاه يوميًا دون أي شكوى من مشرف العمال في إشارة إلى أنه مساعد طبيب. ◄ دور المساعدين المتخصصين في الرعاية الطبية وكان هناك مساعدون آخرون يقومون بأدوار أكثر تخصصًا فنجد في قرية دير المدينة «المضمد» وكانت غالبًا تستخدم للمحنطين وربما تحمل معنى الممرض الذى يضمد الجروح، وقد ذكرت بردية «أدوين سميث» اللفظ هذا في الحالة التاسعة ولكن «برستيد» يرى أن الذى يضمد هو الذى يعطى الضمادات للطبيب. وكانت هناك أجازات مرضية من حق العمال وحقه في العلاج، وتشير الوثائق الكتابية إلى أن المرضى والمصابين من العمال كانوا يحصلون على الراحة كقانون للعمل بشكل عام كما أن واحدة من بقايا الأوستراكا التي ترجع إلى مواقع العمال بدير المدينة تحتوى على هذه الملاحظة: «الرئيس لا يأمر العامل المريض برفع الحجر»، وكانت الإجازات المرضية مدعومة حكوميًا لا يخصم بسببها من مقرراتهم الشهرية «مدفوعة الأجر». واهتمت الدولة أيضًا بالتغذية المناسبة للعمال أثناء إقامة مشروعهم القومي وبالتالي تم الحرص على وجود منظومة من مقدمي الرعاية الشخصية والتغذية لأنها سوف تؤدي إلى حالة صحية أفضل.