هجومٌ عنيفٌ طال الدراما، رغم أن أعمالًا عديدة حازت على إشادات واسعة من النقاد وكبار صنّاع الدراما، الذين اعتبروا الموسم الرمضانى واحدًا من أنضج المواسم، هذا التناقض الصارخ يضعنا بين طرفى نقيض: دراما راقية لا تجد جمهورها، وأخرى هابطة تتصدّر المشهد. الصراع ليس فنيًا فقط، بل وجودى، حول صورة الوطن فى مرآة شاشاته، وبين الوعى والمشاهدة تضيع الهوية. تساؤلات جوهرية حول طبيعة التلقى، وأزمة الذوق العام، تجعلنا نقف اليوم عند مفترق طرق درامى: أعمال رفيعة المستوى تُنتَج، ولكن لا تُشاهد بما يكفى، وأخرى سطحية تثير امتعاضنا الأخلاقى والجمالى، هى ذاتها التى تُستهلك بشراهة، وتتصدّر نسب المشاهدة! وهنا تكمن المأساة: انفصالٌ مخيفٌ بين ما يُنتَج من دراما، وما يطلبه الجمهور، هل العيب فى صناعة الدراما، أم فى ذائقة المجتمع التى تشوّهت طويلًا تحت وطأة إعلام السوق وعنف الصورة؟. نحن لا نواجه أزمة درامية فحسب، بل معضلة اجتماعية وثقافية مركبة، تتطلب تدخل علماء النفس والاجتماع، لا فقط صناع المحتوى. لفهم كيف يكون الجمهور هو نفسه مَن ينتقد الإسفاف والابتذال، ويستنكر العنف والألفاظ السوقية، والانحدار الأخلاقى فى بعض الأعمال، ثم يتابعها بشغف ويمنحها صدارة المشاهدات! وعند الحديث عن الأعمال التى نُشيد بها على المستوى الفكرى والفنى والإبداعى، نكتشف أن الجمهور لم يشاهدها أصلًا، أو بالكاد سمع بها وسط غياب بوصلة الاختيار؛ وطوفان الإنتاج، وكأن المشاهد نفسه ضحية «غيبوبة جماعية» أمام أعمال الصخب والضجيج، هذه الازدواجية الصادمة تكشف عن خلل أعمق فى التكوين الثقافى والذائقة العامة. المؤكد أن الحل لا يكمن فى المنع، بل فى «المواجهة بالإبداع»، بإنتاج أعمال تنحاز للجمال والاتزان، وتستعيد صورة الحارة الحقيقية، فى إنتاج أعمال موازية تُظهر الجوانب المضيئة فى المجتمع، لا تلك التى شوهتها نصوص تجارية ومشاهد استعراضية فجّة، وما يدعونى للتفاؤل تلك الأعمال الممتازة التى عرضت فى هذا الموسم الرمضانى الاستثنائى، ما يعنى أن البوصلة لا تزال قادرة على العودة إلى الاتجاه الصحيح. وبين دراما تبنى ودراما تهدم، تبقى المعركة قائمة على «الوعى» لا «المشاهدات».. ويبقى السؤال: من يحمل عبء تقديم أعمال فنية تُخلّد الذاكرة الوطنية والتاريخية، وتغرس قيمًا فى الوجدان، سؤال مفتوح على خواء ثقافى يهدد الذاكرة الجمعية، وإجابة غائبة كما غابت تلك الأعمال عن شاشاتنا، وما أكثر الفراغ حين تغيب الرسالة!