ممدوح فرّاج النابى أتقولون: إن محمدًا كاذب؟ إن الكذب لا يستطيع أن يبنى بيتًا من الطوب، فكيف برجل بنى عالمًا من المبادئ، والأرواح والقلوب (كارليل: الأبطال) علاقة توفيق الحكيم « 1898-1987» بالمسرح قديمة ووثيقة، وكان لها تأثيرها الكبير عليه، فحاز الكثير من الألقاب كأحد روّاد تأسيس الكتابة المسرحية العربية، ورائد مسرح الحياة،والمسرح الذهني، والمسرح الهادف، كما استلهم فى نصوصه المسرحيّة؛ المثيولوجيا الإسلامية والمسيحية (أهل الكهف، محمد الرسول البشر، وسليمان الحكيم)، والمثيولوجيا العربية (شهرزاد، السلطان الحائر)، والمثيولوجيا الغربية (بجماليون، أوديب ملكًا، براكسا)، والميثولوجيا الفرعونية (إيزيس). كتب الحكيم فى كافة مجالات المسرح. رحلته مع المسرح كانت أسبق من كتابته للرواية، بدأت وهو طالب فى الجامعة عام 1918 حيث أخذ يكتب مسرحيته التى نشرها عام 1922 بعنوان «الضيف الثقيل» وكان يسخر فيها من الاستعمار الإنجليزي، وقد اعتمد فيها على تقنية الرمز، فكما يقول الحكيم فى «سجن العمر»، «إنها كانت من وحى الاحتلال البريطاني. وأنها كانت ترمز إلى إقامة ذلك الضيف الثقيل فى بلادنا بدون دعوة منا»؛ وبلا شك أنتقنيات الكتابة المسرحية تسربت إلى كتاباته الروائية، ففى «عودة الروح» التى نشرها عام 1932 اعتمد فيها على القالب الحواري، وهو ما تكرر فى غيرها من أعمال. مسرح الحياة ضمّ الحكيم الكثير من مسرحياته إلى كتبه، بما فيها تلك المسرحيات التى كتبها وهو طالب عام 1923 كمسرحية «المرأة الجديدة» مسرحيته الثانية بعد مسرحية «الضيف الثقيل» التى كتبها عام 1918، والتى تتحدث عن الاستعمار بصيغة رمزية، أما المرأة الجديدة فكانت تعكس آراء الحكيم فى قضية سفور المرأة، التى كانت رجعية بعض الشيء، فضمها عام 1952 مع مسرحية «جنسنا اللطيف»، و «الخروج من الجنة» وحديث صحفي، وهى المسرحيات التى تندرج ضمن مسرح الحياة، ضمها فى مجلد واحد، لكن هذه المسرحية على الرغم أنها موجودة على صفحات جريدة الرسالة، عكس مسرحية «الضيف الثقيل» التى كان نصها الأصلى مفقودًا، فلم تضم إلى كتاباته المسرحية، ولم يشر إليها كذلك أحد من النقاد بما فى ذلك الدكتور محمد مندور الذى وضع كتابًا كاملاً عن «المسرح عند توفيق الحكيم». نُشرت المسرحية فى العدد 42 بتاريخ 23 أبريل 1934، تحت مسمى «الهجرة»، رواية فى فصل واحد وسبعة مناظر»، وتسمية المسرحية برواية كان سائدًا فى هذه الفترة، حيث كان يُطلق دائمًا على الأعمال التى تقدم على المسرح رواية تمثيلية، وتحت هذا المسمى ترجم طه حسين العديد من المسرحيات بعنوان «قصص تمثيلية لجماعة من أشهر الكتاب الفرنسيين». للحكيم مسرحية أخرى عن الرسول الكريم بعنوان «محمد» وقد صدرت تحت اسمين مختلفين، الأول، محمد الرسول البشر، وكان هذا عن طبعة كتاب الهلال عام 1936، ثم فى طبعات لاحقة صارت «محمد صلى الله عليه وسلم» وإن كان أبقى على المقدمة التى كانت بمثابة بيان استهلالى للعمل. جاءت كتابة توفيق الحكيم عن الرسول الكريم، فى ظل سياق ثقافي، توجه فيه معظم كبار الكتاب للكتابة عن سيرة الرسول بعدما كتب محمد جاد المولى «محمد المثل الكامل» عام 1932، ثم تبعه محمد حسين هيكل بكتابه «حياة محمد» عام 1935، ثمّ طه حسين فى إسلامياته التى بدأها ب «على هامش السيرة»، ثمّ «الوعد الحق»، وتوالت الكتابات ك «عبقريات العقاد» عام 1942، وعبد الرحمن الشرقاوى «محمد رسول الحرية»1962. بيان استهلالي فى ظل هذا السياق التاريخى الذى أولى سيرة الرسول الكريم عناية كبيرة بالكتابة عنها بكافة الأنماط والأشكال السردية والشعرية، كتب الحكيم هذه السيرة مدفوعًا بهذا الهاجس، وإن كان خالف الكتابات السائدة بأن جعلها فى صيغة حوارية، ويبدو أن تجريبه للكتابة جاءت كتمرين فى هذه المسرحية ذات الفصل الواحد التى نشرها فى مجلة الرسالة، وقد قصرها على حادثة واحدة كان لها بالغ الأثر فى الدعوة، وهى الهجرة، فى حين جاءت مسرحيته «محمد الرسول البشر» استعراضًا لحياة النبى العريضة الحافلة بالأحداث الكبرى، فى قالب حواري، ومع اعتماد النص على مناظر موزعة على فصول، إلا أنها كما يقول محمد مندور لو اقتطعنا أى منظر طويلاً كان أو قصيرًا فلا يعدو «أن يكون خبرًا تاريخيّا، صاغه المؤلف فى صيغة حوارية» (مندور، مسرح توفيق الحكيم، ص 8). فى البيان الاستهلالى لمسرحيته الطويلة «محمد الرسول البشر» يبرّر توفيق الحكيم اختياره القالب الحوارى الذى اختاره لهذه المسرحية، وهو نفس ما بدأ به مسرحيته ذات الفصل الواحد الأولى «الهجرة»، فيقول: «المألوف فى كتب السيرة أن يكتبها الكاتب، ساردًا باسطًا، مُحلّلاً مُعقبًا، مدافعًا مفندًا. غير أنى يوم فكرت فى وضع هذا الكتاب قبل نشره عام 1926م، ألقيت على نفسى هذا السؤال: «إلى أى مدى تستطيع تلك الطريقة المألوفة أن تبرز لنا صورة بعيدة – إلى حد ما – عن تدخل الكاتب؟ صورة ما حدث بالفعل، وما قيل بالفعل دون زيادة أو إضافة، توحى إلينا بما يقصده أو بما يرمى إليه؟» عندئذ خطر لى أن أضع السيرة على هذا النحو الغريب. فعكفت على الكتب المعتمدة والأحاديث الموثوق بها، واستخلصت منها ما حدث بالفعل وما قيل بالفعل. وحاولت – على قدر الطاقة – أن أضع كل ذلك؛ كأنه واقع أمامه فى الحاضر، غير مبيح لأى فاصل – حتى الفاصل الزمنى – أن يقف حائلاً بين القارئ وبين الحوادث، وغير مجيز لنفسى التدخل بأى تعقيب أو تعليق، تاركًا الوقائع التاريخية، والأقوال الحقيقية ترسم بنفسها الصورة. كل ما صنعت هو الصب والصياغة فى هذا الإطار الفنى البسيط؛ شأن الصائغ الحذر، الذى يريد أن يبرز الجوهرة النفيسة فى صفائها الخالص، فلا يخفيها بوشى متكلف، ولا يغرقها بنقش مصنوع، ولا يتدخل إلا بما لا بد منه؛ لتثبيت أطرافها فى إطار رقيق لا يكاد يرى.هذا ما أردت فعله». (ص: 11). القالب الحواري اختيار هذا القالب جاء من باب السلامة والحذر؛ فالمؤلف سواء فى مسرحيته القصيرة ذات الفصل الواحد «الهجرة» أو الطويلة «محمد الرسول البشر» تجنّب الوقوع فى المزالق التى قد يأتى بها التخييل، والتحرّر من الرواية التاريخية كما يحدث فى المرويات الروائية، وهو ما حدث مع طه حسين، وعبد الرحمن الشرقاوي، حيث لقيت نصوصهما تعنتًا فى الاستقبال. فخوف الحكيم من أن يقع فى مثل هذه المزالق جنّب نفسه الصيغة الروائية، والتزم بما جاء فى كتب السيرة وكتب التاريخ، فلم يتعامل نقديًّا مع كثير مما جرى من حوادث، واكتفى بأن أوردها كما هي. وهذا راجع لطبيعته فى المقام الأول، فى كونه رجلاً حذرًا بطبعه، لا يحب أن ينزلق إلى مواضع الحرج والخلاف، وتحمّل مسؤولية الرأى خاصّة ما يتعلّق بشؤون الدين. ويرى الدكتور مندور أن الحكيم لم يلتزم القالب الحوارى أثناء كتابته سيرة الرسول وفقط، بل «لجأ إلى نفس القالب فى التعبير عن آرائه فى كثير من مشاكل الحياة العامة والخاصة» ويكمل مندور «بل نراه يلجأ إلى نفس القالب فى أجزاء كثيرة مما كتب من قصص طويلة أو قصيرة على نحو ما نرى فى «عودة الروح» و «يوميات نائب فى الأرياف» والمجموعتين اللتين صدرتا من قصصه القصيرة». والسبب الآخر من وراء لجوء الحكيم لهذا القالب يعود إلى أن الحكيم منذ كتب أهل الكهف عام 1932 وهو يضع فى نصب عينيه أن مسرحياته يؤلّفها للقراءة وليس للتمثيل، فكما يقول عن أهل الكهف: «إذا لم يكن بدّ من تمثيلها على المسرح فلا بدّ لها من إخراج خاص فى مسرح خاص، إخراج يُلتجأ فيه إلى وسائل أخرى من موسيقى وتصوير وأضواء وظلال وحركة وسكون وطريقة إيماء وإلقاء... وكل ما يحدث جوًّا يهمس بما تهمس به تلك المعانى المطلقة، والصعوبة فى مثل هذه الروايات هى إبقاء الشعر أو الفلسفة يشيعان فى جو المسرح كما شاعا فى جو الكتاب». وبصفة عامة الحوار عند الحكيم،ليس وسيلة مسرحية درامية فحسب، بل هو وسيلة مطلقة للتعبير، غير مقيّدة بفنية المسرح» ومن ثمّ استخدمه كوسيلة لتمحيص الحقائق وعرض وجهات النظر المختلفة فى الموضوع الواحد، على نحو ما كان يفعل سقراط قديما فى حياته اليومية» (مندور، ص 11). مسرحية الهجرة (ذات الفصل الواحد) التى كانت النواة التى بنى عليها مسرحيته الطويلة «محمد الرسول البشر»، ركّز فيها الحكيم على هجرة الرسول، وموقف كفار قريش من الرسول كى يثنوه عن دعوته، لكنهم وجدوا فيه تصميمًا وعزمًا على نشر الحق، فتبدأ المسرحية بمشهدين متوازيين مع اختلاف مكانهما، الأول حيث الرسول صلى الله عليه وسلم جالس وحده فى المسجد، فى المقابل كان أشراف مكة وساداتها يجتمعون فيما بينهم لكى يتدبروا أمر الرسول ودينه الجديد، وكيفية مقاومته، ومنع انتشاره. يُجسّد الحكيم فى هذه المسرحية ذات الفصل الواحد موقف الرسول الكريم الثابت فى تبليغ الدعوة، وأنه مُرسل من قبل الله، فى مقابل إنكار قريش لهذه الدعوة، ورفضهم لأمر الدعوة، ومحاولتهم الحثيثة لإثنائه عن دعوته، وإغرائه بالمال والسلطان، حتى يعدل عن تبليغ أمر الله. والأمر لم يقف عند هذه المحاولات الترغيبية، وإنما سعوا إلى ترهيبه، فاضطر الرسول الكريم إلى الهجرة إلى الطائف، وهناك لم يكن الأمر أفضل حالاً من مكّة، فلاقى الرسول الهوان من أهل الطائف، فطاردوه عندما وطأت أقدامه أرضهم، وشجوا رأسه، فعاد مكسور الخاطر يُناجى ربه أن يرفع عنه سخطه وغضبه، حتى أذن الله له بالهجرة، وعند يوم الهجرة يختم الحكيم مسرحيته. لو قارنا المسرحية القصيرة «الهجرة» بالمسرحية الطويلة «محمد رسول البشر» لوجدنا أن الحكيم لم يستثمر المسرحية القصيرة فى أحداث المسرحية الطويلة التى كانت سيرة عن الرسول وليس فصلاً من سيرته على نحو ما جسّد فى الهجرة، وإنما ضمنها كاملة فى المسرحية الطويلة، فالمناظر السبعة فى المسرحية القصيرة متضمنة فى المسرحية الطويلة «محمد الرسول البشر» بكل حواراتها وأحداثها. ومسرحية «محمد الرسول البشر» - كما سبق وأن ذكرت- هى سيرة عن الرسول منذ طفولته حتى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فى حجر السيدة عائشة رضى الله عنها. الشيء الغريب أن الحكيم لم يجرِ أية تعديلات كبيرة، أو حتى يغير من مضمون المناظر السابقة فى مسرحية «الهجرة»، وإنما جاءت كما هي، مع استثناءات طفيفة لا تكاد تؤثر على بنية النص الجديد. ولتأكيد حالة الدمج التى قام بها الحكيم فى مسرحيته الطويلة، سأضع مواضع تضمين مسرحية «الهجرة» داخل نص «محمد الرسول البشر»، وقد جاء كالتالي: مسرحية الهجرة مسرحية محمد رسول البشر المنظر الأول يقابله المنظر 13، ص: 42، 43، 44 المنظر الثاني: بعد غروب الشمس يقابله المنظر 17، ص 51، 52. المنظر الثالث: موت أبى طالب يقابله المنظر18، ص 54، 55، 56 المنظر الرابع: بيت النبى فى مكة يقابله المنظر 19: ص 56، 57 المنظر الخامس: فى الطائف يقابله المنظر 24: ص 67، 68، 69 المنظر السادس: دار الندوة يقابله المنظر32: ص 88، 89 المنظر السابع: ليلة الهجرة (النبى فى داره) يقابله المنظر 34: ص 95، 96 استثمار نص سابق للمؤلف فى نص لاحق ليس بدعة أو تقنية جديدة فى الأدب، وإنما هو حاضر منذألف ليلة وليلة، وهو ما عُرف فى النقد بالتناسل السّردي، وما قام به الحكيم من استثمار لمسرحيته ذات الفصل الواحد «الهجرة» فى كتابة مسرحيته الطويلة «محمد الرسول البشر»،يحقّق لهالسبق فى استخدام هذه التقنية داخل نصوصه، ثم توالت الأعمال التى استثمر فيها الكتاب نصوصًا سابقة لهم داخل أعمالهم،فقد مارسها الكثير من الروائيين، فيحيى الطاهر عبد الله استثمر قصتى «الشهر السادس من العام الثالث»، وقصة «الموت فى ثلاث لوحات» من مجموعة «الدف والصندوق» وشكّل منهما روايته المهمة «الطوق والأسورة»، وبالمثل إبراهيم أصلان استثمر إحدى قصصه فكانت نواة لروايته «مالك الحزين»، وبصفة عامة استثمر معظم كتاب جيل الستينيات قصصهم القصيرة التى بدأوا بها مشاريعهم الأدبيّة، فى كتابة رواياتهم الطويلة، وتكرّر الأمر مع جيل التسعينيات حيث استثمرت مى التلمسانى قصة بعنوان «سلة ورد» فى روايتها «دنيا زاد»، وبالمثل فعلت زميلتها نوار أمين التى استثمرت قصتها «قميص وردى فارغ» فى رواية عنونتها بذات الاسم.