ظهرت المسرحية فى لحظة حسمت فيها حدود تمثيل الشخصيات الدينية البارزة نص لانتزاع الاعتراف بالمسرح كنوع أدبى جدير بالاحترام آن الأوان أن نعيد قراءة توفيق الحكيم لأكثر من سبب. ولعل أول الأسباب أنه ما زال يتحاور مع قضايانا الراهنة من نقد التراث والتفاعل مع الحداثة ومع الآخر الغربى، ناهيك عن كونه كاتبا ممتعا فكريا وفنيا، بالإضافة إلى قيمته التأسيسية كرائد للمسرح والرواية فى العالم العربى. اعتدنا منذ الثمانينيات على خطابات الأكاديميين والنقاد وعلى الخطاب الصحفى والإعلامى الذى يضع نجيب محفوظ فى موضع رائد الرواية الحديثة فى مصر، بينما نجيب محفوظ نفسه كان دائما ما يشير فى حواراته إلى ريادة توفيق الحكيم كروائى، لا سيما بفضل «عودة الروح» التى سبقت أول رواية لمحفوظ بعقد كامل. ربما نسينا دور الحكيم الروائى لأن «عودة الروح» ارتبطت بتحية ثورة 1919 التى بعدت عن زمننا بقرن كامل. ولأن الحياة الثانية للرواية ارتبطت بالزعيم عبدالناصر الذى يروى عنه تأثره بها وإعجابه بالفكرة القومية المتجلية فيها، فنُسِيَت الرواية مع ما محته الذاكرة من بعض جوانب حضور ناصر فى الثقافة العربية الحديثة، لا سيما دوره كقارئ للأدب. لكن الإنصاف يقتضى أن نعترف بأن مساهمة الحكيم المحورية فى الأدب العربى تجلت فى مجالى المسرح والمقال الفكرى وأن إضفاء المشروعية الثقافية على المسرح العربى، على المستويين الفنى والاجتماعى يرتبط بريادة الحكيم فى المجال. اشتهر الحكيم فى بداياته بفضل «أهل الكهف» (1933) التى كانت تسمى فى زمنها بإيعاز من الحكيم نفسه أول تراجيديا إسلامية. كانت «أهل الكهف» أول مسرحية تحظى على السواء بدعم الدولة المؤسسى كعرض مسرحى، وبتكريس من المؤسسة الأدبية باعتبارها عملا أدبيا راقيا. حيث افتتحت بها الفرقة القومية للمسرح باكورة إنتاجها، ثم تعامل معها نقاد الأدب وكتابه كعملٍ أدبى راق، وامتد التكريس لاعتراف الجامعات بالمسرحية ولاحتفاء المترجمين والمستشرقين بها. سقط من ذاكرة البعض أن الحكيم قد كتب عملا مسرحيا فريدا بعنوان «محمد الرسول البشر» مثَّلَ مساهمته فى جهد كتاب النهضة العربية لمراجعة التراث وتحديثه. فى ثلاثينيات القرن العشرين، بالتوازى مع معركة الصفوة لإرساء تقاليد ليبرالية فى السياسة والثقافة، تتلاءم مع روح دستور 1923، اتجه العديد من كتاب التنوير المصريين إلى التفاعل مع التراث كحلٍ وسط بين نقده وإقصائه جذريا، وبين التشبث بالتراث فى موقف أصولى. واستهدف جهدهم فى جانب منه تقديم شخصية النبى محمد بنظرة حديثة ترفع عنه غشاء النظرة الأسطورية الشعبية التى تجعل شخصيته أشبه بتصورات العامة عن الأولياء ذوى الكرامات، وتدفع عنه تهمة التطرف الفكرى والدينى التى كانت جزءا قويا من خطاب الاستشراق. هكذا مثلا كتب العقاد «عبقرية محمد» وكتب محمد حسين هيكل «حياة محمد». ظهرت مسرحية الحكيم فى لحظة حسمت فيها حدود تمثيل الشخصيات الدينية البارزة، بعد المعركة القصيرة التى خاضها يوسف وهبى ليمثل دور النبى محمد فى فيلم من إخراج وداد عرفى، وتراجعه عن المشروع برمته عندما ثارت التيارات المحافظة فى المجتمع، مدعية أن تجسيد شخصية النبى حرام. والأرجح أن تلك التيارات المتغلغلة فى الأزهر وفى عالم الصحافة قد قاست موقفها على تصور أن الإسلام يحرم تصوير النبى بالفنون التشكيلية من نحت ورسم. لذلك قدم الحكيم مسرحية «محمد» فى إطار معركة ثانية، ألا وهى انتزاع الاعتراف بالمسرح كنوع أدبى جدير بالاحترام. فى كتابى الأول «دراسات فى تعدى النص»، كتبت ما معناه أن اختيار الحكيم لقالب المسرحية الحوارى قد أدى إلى عرض سيرة النبى فى مشهدية تركز على بشريته، لأن الصيغة الفنية المسرحية تجعل شخصية النبى تقوم بإلقاء كلامها بنفسها، دون وساطة راوٍ ودون الاعتماد على سلطته. فى القرآن، أصل الكلام الأوحد هو الله، وهو صاحب السلطة العليا على النص ومنبع القيمة فيه. بهذه البنية مثلما اصطفى الله نبيه يضفى النص على النبى قيمة عليا، تضعه على قمة مقامات المخلوقات، لأن صاحب أعلى سلطة فى النص الله سبحانه قد اختص النبى بمقام رفيع. على صعيد الصيغة المسرحية، لا ينسب النص كلاما للذات الإلهية منطوقا مباشرة بلسان الله. وبالتالى، عندما ينطق النبى بكلام، يصدر الخطاب تحت مسئولية النبى ويتمتع بسلطته، دون أن تضاعفها سلطة خطاب الذات الإلهية. بنية الإبلاغ فى القرآن محورها هو صوت الله، فهو سبحانه وتعالى مركز النطق ومصدره. القرآن كلام الله، وبالتالى فالله هو المسيطر على مقاليد النطق، فهو الذى يتحدث، أو يجرى الحديث على لسان النبى، أو على لسان من شاء من الأشخاص. فالله سبحانه هو الذى يقول: «إنا نحن نزلنا الذكر» مستخدما ضمير المتكلم أو الأنا. وهو الذى يقرر أن يستخدم ضمير المخاطب أو الأنت حين يخاطب النبى قائلا: «واذكر فى الكتاب مريم». وهو الذى يقرر أن يستخدم ضمير الغائب أو الهو والهى، مثلا حين يحكى قصة السيدة مريم فيقول: «فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا». وهو الذى يجرى الحوار على لسان الشخصيات المختلفة فى تلك القصة: «قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا». بنية المتكلم الأعلى المتحكم فى كلام الآخرين هى بنية السيرة مثلا. فابن هشام كاتب السيرة النبوية يتخذ هذا الموقف، فيضع نفسه فى مقام الحكى ويتولى مسئوليته متمتعا بسلطة الراوى، ويتحكم بذلك فى تقديم صورة النبى عبر رؤيته هو وقيمه هو. الرواية الحديثة تستخدم بنية الحكى نفسها فى أغلب الأحيان. فالراوى هو الذى يتمتع بأعلى سلطة فى الكلام وهو صاحب أعلى منبر للحكى والمخول بإنابة الشخصيات بالنطق والحديث تحت سلطته. أما فى المسرحية، فبنية النطق تحمل قدرا أكبر من المساواة بين منابر الحديث أو مصادر النطق. فرغم أن شخصية النبى فى مسرحية توفيق الحكيم لا تنطق إلا بجمل مروية عنه فى الأحاديث فى معظم الأحوال إلا إن الشخصية تبدو وكأنها تتحمل وحدها مسئولية النطق بها. وتغيب بنية الراوى الذى يضفى سلطته على الحكى، لأن المسرحية قوامها الحوار بين شخصيات متساوية فى مقام النطق، لا يتمتع أحدها بسلطة على نطق الآخر وكلامه. بهذا تبدو شخصية النبى محمد فى كامل بشريتها، نتخيلها تنطق بالكلام دون إلحاح على أن جسد النبى وسيط بين العالم الإلهى والعالم البشرى، فنرى منها لحظة تفاعلها مع العالم وتأثيرها فيه بكلامها ونشاطها. هكذا تبدو شخصية النبى فى المسرحية بحكم طبيعة النوع الفنى المسرحى معاصرة للحظة قراءة المسرحية، لا قادمة من تاريخ سحيق يلفه غموض الماضى وبعده. الأمر هكذا حتى فى المشاهد المربكة التى يبدو فيها جليا تدخل الإرادة الإلهية فى عالم البشر، مثل مشهد خروج النبى من المدينة بعد أن يلقى الرمل فى عيون فتيان قريش الذين اجتمعوا لقتله ليلة الهجرة، فتغشى أبصارهم. يعرض الحكيم هذا المشهد بحيادية، دون مناقشة له، لأن اعتمد منهج عرض سيرة النبى كما وردت لنا، لكن فى قالب الحوار المسرحى، لا فى قالب سردى. لهذا تستحق المسرحية عنوانها الفرعى بامتياز: الرسول البشر.