تراجع أسعار الذهب في بداية تعاملات اليوم الخميس    أسعار الخضروات اليوم الخميس 21 أغسطس في سوق العبور    أسعار الفاكهة اليوم الخميس 21 أغسطس    وزيرة التنمية المحلية تتابع مع محافظ أسوان مشروعات الخطة الاستثمارية ومبادرة "حياة كريمة"    مدبولي لوزير ياباني: مصر لديها رغبة في توطين تكنولوجيا تحلية المياه    الرئيس السيسي يتوجه إلى السعودية تلبية لدعوة الأمير محمد بن سلمان    أوكرانيا: نعمل على وضع مفهوم أمني لما بعد الحرب مع روسيا    التشكيل المتوقع للزمالك أمام مودرن سبورت بالدوري    أمطار خفيفة.. «الأرصاد» تكشف حالة طقس الجمعة |إنفوجراف    نائب وزير الصحة يتفقد مستشفى رأس الحكمة ويوجه بتشكيل فرق عمل لرفع الكفاءة وتذليل المعوقات    اشتباه إصابة محمود نبيل بتمزق في العضلة الخلفية.. وبسام وليد يواصل التأهيل لعلاج التهاب أوتار الساق اليمنى    في المباراة رقم 247 له.. علي ماهر يصل ل 100 انتصار في الدوري المصري    تحرك الدفعة ال 20 من شاحنات المساعدات الإنسانية إلى معبر كرم أبو سالم    «اقتصادية القناة»: جهود متواصلة لتطوير 6 موانئ على البحرين الأحمر والمتوسط    بعد تصدره التريند.. طريقة عمل العيش البلدي المصري    وداعا القاضى الأمريكى الرحيم فرانك كابريو فى كاريكاتير اليوم السابع    عاجل.. مايكروسوفت تراجع استخدام الجيش الإسرائيلي لتقنياتها بسبب حرب غزة    فصل رأس عن جسده.. تنفيذ حكم الإعدام بحق "سفاح الإسماعيلية" في قضية قتل صديقه    محافظ المنيا يشهد احتفالية ختام الأنشطة الصيفية ويفتتح ملعبين    دعاء الفجر| اللهم اجعل هذا الفجر فرجًا لكل صابر وشفاءً لكل مريض    فلكيًا.. موعد المولد النبوي الشريف 2025 رسميًا في مصر وعدد أيام الإجازة    حين يصل المثقف إلى السلطة    رجل الدولة ورجل السياسة    أذكار الصباح اليوم الخميس.. حصن يومك بالذكر والدعاء    مروة يسري: جهة أمنية احتجزتني في 2023 أما قلت إني بنت مبارك.. وأفرجوا عني بعد التأكد من سلامة موقفي    كشف المجتمع    إصابة مواطن ب«خرطوش» في «السلام»    «ظهر من أول لمسة.. وعنده ثقة في نفسه».. علاء ميهوب يشيد بنجم الزمالك    نجم الزمالك السابق يكشف رؤيته لمباراة الفريق الأبيض أمام مودرن سبورت    توقعات الأبراج حظك اليوم الخميس 21-8-2025.. «الثور» أمام أرباح تتجاوز التوقعات    سامح الصريطي عن انضمامه للجبهة الوطنية: المرحلة الجديدة تفتح ذراعيها لكل الأفكار والآراء    تعاون علمي بين جامعة العريش والجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا    الآن.. شروط القبول في أقسام كلية الآداب جامعة القاهرة 2025-2026 (انتظام)    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات الأخرى قبل بداية تعاملات الخميس 21 أغسطس 2025    Avatr تطلق سياراتها ببطاريات جديدة وقدرات محسّنة للقيادة الذاتية    حلوى المولد.. طريقة عمل الفسدقية أحلى من الجاهزة    لماذا لا يستطيع برج العقرب النوم ليلاً؟    شراكة جديدة بين "المتحدة" و"تيك توك" لتعزيز الحضور الإعلامي وتوسيع نطاق الانتشار    الجبهة الوطنية يعين عددًا من الأمناء المساعدين بسوهاج    لبنان: ارتفاع عدد ضحايا الغارة الإسرائيلية على بلدة "الحوش" إلى 7 جرحى    "أخطأ في رسم خط التسلل".. الإسماعيلي يقدم احتجاجا رسميا ضد حكم لقاء الاتحاد    محافظ كفر الشيخ يقدم واجب العزاء في وفاة والد الكابتن محمد الشناوي    بعد التحقيق معها.. "المهن التمثيلية" تحيل بدرية طلبة لمجلس تأديب    بعد معاناة مع السرطان.. وفاة القاضي الأمريكي "الرحيم" فرانك كابريو    ليلة فنية رائعة فى مهرجان القلعة للموسيقى والغناء.. النجم إيهاب توفيق يستحضر ذكريات قصص الحب وحكايات الشباب.. فرقة رسائل كنعان الفلسطينية تحمل عطور أشجار الزيتون.. وعلم فلسطين يرفرف فى سماء المهرجان.. صور    ناصر أطلقها والسيسي يقود ثورتها الرقمية| إذاعة القرآن الكريم.. صوت مصر الروحي    نيويورك تايمز: هجوم غزة يستهدف منع حماس من إعادة تنظيم صفوفها    الجنائية الدولية: العقوبات الأمريكية هجوم صارخ على استقلالنا    رئيس اتحاد الجاليات المصرية بألمانيا يزور مجمع عمال مصر    استخدم أسد في ترويع عامل مصري.. النيابة العامة الليبية تٌقرر حبس ليبي على ذمة التحقيقات    علاء عز: معارض «أهلا مدارس» الأقوى هذا العام بمشاركة 2500 عارض وخصومات حتى %50    ضربها ب ملة السرير.. مصرع ربة منزل على يد زوجها بسبب خلافات أسرية بسوهاج    جمال شعبان: سرعة تناول الأدوية التي توضع تحت اللسان لخفض الضغط خطر    كلب ضال جديد يعقر 12 شخصا جديدا في بيانكي وارتفاع العدد إلى 21 حالة خلال 24 ساعة    الأهلي يتعامل بحذر مع إمام عاشور «كنز مصر»    ما الفرق بين التبديل والتزوير في القرآن الكريم؟.. خالد الجندي يوضح    أمين الفتوى يوضح الفرق بين الاكتئاب والفتور في العبادة (فيديو)    طلقها وبعد 4 أشهر تريد العودة لزوجها فكيف تكون الرجعة؟.. أمين الفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أدباء وكتاب أسقطهم التاريخ الأدبي 14
أين محمود دياب‮ ‬ من مشروع نشر الدولة؟‮!‬
نشر في أخبار الحوادث يوم 05 - 11 - 2016

كانت حقبة الستينيات من القرن العشرين في مصر،‮ ‬حقبة تساؤلات وتمرد واستنفار واستعادة هويات متخيلة أو حقيقية،‮ ‬تلك الأبعاد التي طرحتها أجيال متعددة ومتعاقبة،‮ ‬ولكنها متجاورة زمنيا وقوميا،‮ ‬الفارق هو شكل التمرد أو التساؤل،‮ ‬والمدي الذي‮ ‬يذهب فيه كل كاتب أو مفكر أو مبدع في استعادة الهويات،‮ ‬وهنا لا فرق‮ ‬_في الجوهر_ بين سعد مكاوي،‮ ‬الذي كتب رواية‮ "‬السائرون نياما‮"‬،‮ ‬ونشرها مسلسلة في مطلع العقد‮ ‬،‮ ‬ثم نشرها في كتاب عام‮ ‬1966‮ ‬في مؤسسة حكومية،‮ ‬وبين جمال الغيطاني الذي كتب مجموعته القصصية‮ "‬أوراق شاب عاش منذ ألف عام‮"‬،‮ ‬ونشرها في كتاب عام‮ ‬1969،‮ ‬وصدرت في سلسلة‮ "‬كتاب الطليعة‮" ‬علي نفقته الخاصة،‮ ‬بعد أن أسّس تلك السلسلة مع‮ ‬يوسف القعيد وسميرندا،‮ ‬وكان معهم الناقد ابراهيم فتحي‮.‬
استدعي سعد مكاوي في روايته العصر المملوكي،‮ ‬وراح‮ ‬يعدّد أشكال الاستبداد والطغيان،‮ ‬والظلم الذي ترتكبه السلطات المتتالية‮ ‬،‮ ‬ويقع ذلك الظلم علي الطبقات الفقيرة من النجارين والخيّاطين والصنايعية،‮ ‬وكانت بنية الرواية بنية محفوظية إلي حد كبير،‮ ‬رغم أنها تختلف عن رواياته التاريخية في‮ "‬الأربعينيات‮" ‬،والهوي كذلك مختلف،‮ ‬والانحياز التاريخي كذلك متغير،‮ ‬فمحفوظ في رواياته‮ "‬عبث الأقدار وكفاح طيبة ورادوبيس‮"‬،‮ ‬ينحاز للحقبة الفرعونية،‮ ‬ولكن سعد مكاوي‮ ‬ينتقي الفترة المملوكية للإسقاط علي العصر الذي‮ ‬يعيشه،‮ ‬وكذلك فنجيب محفوظ‮ ‬يتعامل مع التاريخ في مساحاته المنتصرة،‮ ‬ولكن سعد مكاوي‮ ‬يذهب إلي أشد عصور التاريخ ظلمة،‮ ‬وهناك رواية أخري لا تقل إمتاعا عن رواية‮ "‬السائرون نياما‮" ‬لمكاوي،‮ ‬وهي رواية‮ "‬الكرباج‮"‬،‮ ‬ولكن‮ "‬السائرون نياما‮" ‬طغي الاهتمام بها،‮ ‬للدرجة التي تم استبعاد معظم إبداعات مكاوي،‮ ‬واختصاره في‮ "‬السائرون نياما‮".‬
ورغم أن جمال الغيطاني‮ ‬يستدعي العصر المملوكي لطرح إشكالية الاستبداد وتجلياته المتعددة،‮ ‬وذلك في مجموعته القصصية الأولي المشار إليها سابقا،‮ ‬ثم في روايته الأشهر‮ "‬الزيني بركات‮" ‬الصادرة عام‮ ‬1974‮ ‬في دمشق،‮ ‬مثله مثل سعد مكاوي،‮ ‬إلا أن شكل الطرح وكيفية السؤال،‮ ‬والبناء الفني مختلف تماما،‮ ‬ومتطور بدرجات عديدة،‮ ‬ولكن الجوهر واحد،‮ ‬رغم أن مكاوي والغيطاني‮ ‬ينتميان إلي جيلين متباعدين،‮ ‬فمكاوي‮ -‬مواليد‮ ‬1916‮- ‬عاش أصداء ثورة‮ ‬1919‮ ‬بامتياز‮ ‬،‮ ‬ثم رأي أهوال الحرب العالمية الثانية وتأثيرها علي بلدان العالم الثالث والشرق عموما،‮ ‬وكتب قصصا مروّعة في الأربعينات،‮ ‬ولكن الغيطاني عاش أصداء ثورة‮ ‬23‮ ‬يوليو،‮ ‬وتجلياتها الإيجابية والسالبة،‮ ‬خاصة في مسألة الديمقراطية،‮ ‬ثم عاش تجربة المعتقل،‮ ‬ثم كارثة‮ ‬1967،‮ ‬ومن هنا جاءت مجموعته القصصية الفريدة فنيا نتيجة لكل هذه الأهوال،‮ ‬وكان اختيار الكاتبين مكاوي والغيطاني لأشد عصور التاريخ ظلاما،‮ ‬اختيارا منطقيا،‮ ‬ولكن إبداعات الغيطاني في السرد التاريخي،‮ ‬كانت امتدادا فنيّا لكل الاقتراحات السردية السابقة،‮ ‬وتطويرا لها،‮ ‬وليست انقلابا عليها‮.‬
تكررت هذه التيمة عند كتّاب آخرين،‮ ‬ويتضح هذا عندما نقارن قرية عبد الحكيم قاسم في‮ "‬أيام الانسان السبعة‮" ‬الصادرة عام‮ ‬1969‮ ‬ويقال أنه بدأ كتابتها أثناء اعتقاله في مطلع الستينيات،‮ ‬بقرية عبد الرحمن الشرقاوي في روايته‮ "‬الأرض‮"‬،‮ ‬والتي كتبها ونشرها في جريدة‮ "‬المصري‮" ‬مسلسلة‮" ‬عام‮ ‬1953،‮ ‬ثم نشرها عام‮ ‬1954‮ ‬علي جزءين في‮ "‬الكتاب الذهبي‮"‬،‮ ‬وأثارت الرواية آنذاك جدلا واسعا بين أنصار الواقعية الاشتراكية مثل محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس،‮ ‬وقد اعتبراها الرواية الممثلة لذلك التيار،‮ ‬وانتصرا لها انتصارا شديدا،‮ ‬بينما اختلف معهما الناقد أنور المعداوي،‮ ‬واعتبرها مجرد ريبورتاج صحفي،‮ ‬فضلا عن الاتهامات التي وجهت إليها،‮ ‬بأنها مأخوذة عن رواية‮ "‬فونتمارا‮ " ‬للكاتب الإيطالي إنيازيو سيلوني‮.‬
أما رواية عبد الحكيم قاسم،‮ ‬وجدت ترحيبا شبه إجماعي بين النقاد والقراء والباحثين،‮ ‬ورغم أن الروايتين‮ ‬يتشابهان في وصف القرية والمعاناة التي تعيشها القرية المصرية،‮ ‬إلا أن هناك عدة اختلافات في شكل الطرح،‮ ‬فرواية الشرقاوي تنحو إلي الواقعية الوصفية بشدة،‮ ‬ونقل التفاصيل بدقة،‮ ‬أما رواية قاسم فتلجأ إلي الشاعرية المفرطة،‮ ‬فضلا عن أن الشرقاوي‮ ‬يخاطب قرّاء عصره،‮ ‬عن قرية سابقة،‮ ‬أما حكيم فكان‮ ‬يكتب لقرّاء عصره عن قريتهم التي‮ ‬يعيشونها بالفعل،‮ ‬ونستطيع أن نمد تلك التيمات علي آخرها بين كافة الكتاب الذين تجاوروا زمنيا في عقد الستينيات،‮ ‬ومكانيا في مصر‮.‬
طالت المقدمة،‮ ‬وربما تكون تقّعرت،‮ ‬رغم أنني لا أميل إلي ارتداء ثوب الناقدين السميك،‮ ‬هؤلاء النقاد الذين‮ ‬يتسمون بالصرامة والعمق المفرط‮ ‬،‮ ‬ولكنني أردت أن أسوق تلك المقدمة،‮ ‬لكي أصل إلي كاتب هو أحد المتون العظيمة في حقبة وجيل الستينات،‮ ‬ولا مجال لقراءة ذلك العقد ثقافيا وإبداعيا ومسرحيا باستثنائه علي وجه الإطلاق،‮ ‬وهو الكاتب والمسرحي محمود دياب،‮ ‬والذي جاء امتدادا لكل الكتّاب النبلاء الكبار الذين جاءوا من قبله مباشرة،‮ ‬ففي القصة القصيرة هو امتداد لمحمود البدوي وسعد مكاوي ويوسف ادريس،‮ ‬وفي الرواية كان امتدادا لتوفيق الحكيم،‮ ‬وفي المسرح وهو مجاله الأعظم والأكثر تأثيرا وحضورا،‮ ‬كان امتدادا وتطويرا لمشروع نعمان عاشور وألفريد فرج،‮ ‬ذلك الامتداد الذي حاول دياب أن‮ ‬يمده للنهاية بقوة،‮ ‬وظل‮ ‬يكتب ويبدع حتي مراحل حياته الأخيرة،‮ ‬قبل أن‮ ‬يعتزل ويكتئب ويبتعد تماما عن الحياة العامة‮.‬
فمنذ عام‮ ‬1962‮ ‬،‮ ‬وكان عمره آنذاك ثلاثين عاما،‮ ‬بدأ حياته العامة،‮ ‬وكتب مسرحيته الأولي‮ "‬المعجزة‮" ‬،‮ ‬والتي فازت بجائزة مؤسسة المسرح،‮ ‬ولم تنشر في حياته التي انتهت بشكل درامي‮ ‬،‮ ‬ولكن الدكتور محمد عبد الله حسين،‮ ‬جمع أربع مسرحيات لم‮ ‬يكونوا نشروا في كتب،‮ ‬وأعاد نشر تلك المسرحيات في مجلد واحد،‮ ‬وصدر المجلد عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام‮ ‬2005،‮ ‬وكتب لهم مقدمة نقدية،‮ ‬وتلك المسرحيات القصيرة هي‮ (‬المعجزة‮ ‬،‮ ‬وأهل الكهف‮ -‬نشرت قبلا في طبعة محدودة،‮ ‬كما نشرت في مجلة‮ "‬أدب ونقد‮" ‬بعد رحيله‮- ‬،‮ ‬والضيوف‮ ‬،وقصر الشهبندر‮)‬،‮ ‬وفي عام‮ ‬1963‮ ‬فازت مسرحيته الطويلة‮ "‬البيت القديم،‮ ‬وفازت آنذاك بجائزة مجمع اللغة العربية لعامي‮ ‬1962‮/‬1963،‮ ‬وقدّمها بعد ذلك علي المسرح المخرج والفنان علي الغندور‮ .‬
في تلك الفترة المبكرة من حياة محمود دياب الأدبية والفنية‮ ‬،‮ ‬كان‮ ‬يكتب القصة القصيرة،‮ ‬والرواية والمسرح في آن واحد،‮ ‬كان طاقة متفجرة ومفتوحة علي الإبداع بشكل شبه مطلق،‮ ‬رغم أنه كان‮ ‬يعمل في الشأن القضائي،‮ ‬فبالإضافة إلي مسرحيتيه‮ "‬المعجزة،‮ ‬والبيت القديم‮"‬،‮ ‬كتب مجموعته القصصية الأولي‮ "‬خطاب من قبلي وقصص أخري‮" ‬عام‮ ‬1962،‮ ‬وكان مايزال مؤمنا ومنحازا للنظام الوطني،‮ ‬بقيادة جمال عبد الناصر،‮ ‬إذ جاء إهداء المجموعة إلي‮:"..‬من أعلن ثورته‮ ‬،علي الحياة الخاملة‮ ‬،الحافلة بالمتناقضات،‮ ‬ونادي بحياة جديدة،‮ ‬هي حق للجميع‮ ..‬أرفع فيها رأسي‮..".‬
كان الإهداء لافتا للغاية،‮ ‬وواعيا ومنحازا ومتحمسا للمرحلة وقائدها بدرجة قوية كما‮ ‬يتضح في العنوان،‮ ‬ولا تبتعد القصص كثيرا عن العنوان،‮ ‬فهو‮ ‬يتناول شرائح دنيا من المجتمع،‮ ‬استطاعت أن تنبعث وترفع أصواتها مؤخرا،‮ ‬فهذا هو الريس‮ "‬الزمباعي‮" ‬في القصة الأولي من المجموعة ويتماهي معهم تماما دون التعالي عليهم،‮ ‬يقول‮ ‬دياب‮ :‬
‮ "..‬وغناء العمال لا‮ ‬يكف طوال الوقت رغم التعب والشمس والعرق،‮ ‬فينبعث من إحدي الحفر صوت عميق‮ -‬عمق أسطورة القناة نفسها‮- ‬متغنيا في أنغام كالهتاف‮:‬
من جبلي لبحري والله أنا جيت
سبت حبايبي وفت البيت
وجلت لأجل اللجمة أنا جيت‮ ‬
يابوي‮ ...............‬يابوي
فترد عليه كتل من الأصوات الجافة المرهقة‮:‬
الصبر جميل‮...‬الصبر جميل‮".‬
وهكذا‮ ‬يعيش محمود دياب حالة من استدعاء الطبقات والشرائح الكادحة في تلك المرحلة،‮ ‬هذه الطبقات التي بدأت تتنفس،‮ ‬وتجد لنفسها وحياتها صيغة عادلة آنذاك،‮ ‬ولم‮ ‬يكن انحياز دياب،‮ ‬انحيازا مرحليا مؤقتا،‮ ‬ولكنه كان اختيارا ظل شعارا لحياته الفنية والأدبية كلها،‮ ‬فمسرحيته‮ " ‬البيت القديم‮"‬،‮ ‬ماهي إلا الصراع الأبدي بين الفقراء وحياتهم،‮ ‬وبين الطامحين لحياة أخري،‮ ‬يقول عنها فاروق عبد القادر‮: "..‬هي دراما الحراك الاجتماعي والتطلع الطبقي،‮ ‬موزع بريد بسيط‮ ‬يعيش في بيته في حي شعبي،‮ ‬يتخرج ابنه الأكبر أحمد،‮ ‬ويعمل مهندسا،‮ ‬ويعمل الثاني مصطفي‮ -‬الذي لم‮ ‬يكمل تعليمه‮- ‬عاملا في مطبعة،‮ ‬الثالث والإبنة الصغري ما‮ ‬يزالان طالبين،‮ ‬يتعلق المهندس بفتاة جميلة بعد أن شاهدها مرات قليلة فيتقدم لخطبتها،‮ ‬أبوها كان‮ "‬باشا‮" ‬سابقا وعضوا في البرلمان القديم،‮ ‬المفاجأة أن العائلة ترحب به وتسهّل أمر زواجه وتعجل بعقد القران،‮ ‬وتكون أولي نتائج هذه الزيجة إصرار المهندس علي انتقال عائلته إلي عمارة حديثة في الحي الذي تقيم به عائلة زوجته‮ ..".‬
وبالطبع‮ ‬يكتشف الزوج الذي تزوج ابنة الباشا،‮ ‬أن زوجته متخلفة،‮ ‬ولذلك تم التعجيل بالزيجة،‮ ‬وعلي هذه الوتيرة تتطور أحداث المسرحية،‮ ‬وبالطبع لا بد أن تنتهي بانتهاء الزيجة،‮ ‬ومحاولة التفكير في العودة إلي الحياة البسيطة ‮ ‬الأولي،‮ ‬المسرحية تنشئ مجتمعا‮ ‬يشبه مجتمع نعمان عاشور في مسرحيتيه‮ "‬الناس اللي والناس اللي فوق‮"‬،‮ ‬مع تطويرات في الرؤية والأداء،‮ ‬تلك التطويرات التي استجدت علي الحياة الاجتماعية‮ ‬،‮ ‬والإمكانيات المسرحية التي جاءت بها سلطة ثورة‮ ‬يوليو،‮ ‬وهي تطورات إيجابية إلي حد بعيد‮.‬
هكذا كانت بدايات محمود دياب الهادئة والمنحازة والمنتمية،‮ ‬والتي راح‮ ‬يمدّها‮ ‬_كما أسلفنا_ علي استقاماتها،‮ ‬فكتب بعد ذلك مسرحية‮ "‬الزوبعة‮"‬،‮ ‬تلك المسرحية التي صاغت بداية أخري لمحمود دياب،‮ ‬وللمسرح المصري كذلك،‮ ‬وباختصار هي مسرحية تفضح كل أشكال الجبن،‮ ‬والظلم،‮ ‬والكذب الاجتماعي الذي‮ ‬يعيشه الواقع بجدارة،‮ ‬والمسرحية تتعلق بشخصية حسين أبي شامة،‮ ‬الذي سطا علي أرض والده بعض الإقطاعيين والبلطجية في القرية،‮ ‬وعندما راح‮ ‬يحتج أبو شامة علي هذا الوضع،‮ ‬وبالتالي علي الواقع الطبقي والاجتماعي كله،‮ ‬لفقت له قضية قتل،‮ ‬واقتيد بسببها إلي السجن،‮ ‬ويتم الحكم عليه بعشرين عاما،‮ ‬والمسرحية تبدأ باللحظة التي انتهت فيها العشرون عاما،‮ ‬وذهب أحد الوشاة،‮ ‬وأفضي بسر عودة حسين أبي شامة متوعدا،‮ ‬وقرر أنه سينتقم لنفسه ولأرضه ولأبيه،‮ ‬وسيدفع الثمن كل الذين قادوه إلي مصيره المشئوم،‮ ‬وسيقتل عن كل عام رجلا من ظالميه،‮ ‬وعندما نما إلي علم كبراء القرية ومفسديها وطغاتها بعودة أبي شامة،‮ ‬أوقفوا علي كل طريق رجلا لمراقبة لحظة وصول أبي شامة،‮ ‬والأكثر إدهاشا أن كل الذين كانوا قد سطوا علي أملاكه من أولاده،‮ ‬حاولوا التودد إليهم،‮ ‬وكذلك اقترحوا إعادة تلك الأملاك إليهم،‮ ‬وحدثت تلك الزوبعة التي اتخذ دياب منها عنوانا للمسرحية‮.‬
انقلب حال القرية رأسا علي عقب،‮ ‬وهنا عملت فلسفة محمود دياب تحليلا مسهبا في طبيعة تلك المجتمعات التي لا تقوم إلا علي الخوف والجبن والقوة العمياء،‮ ‬إذ حدث ماهو أفدح،‮ ‬إذ أن واحدا من الذين كانوا مع أبي شامة في السجن،‮ ‬قال بأن أبا شامة مات في السجن منذ سبع سنوات،‮ ‬وأكد لهم الخبر،‮ ‬وهنا اتقلبت القرية مرة أخري،‮ ‬وسحب كل القاتلين والظلمة والطغاة واللصوص كلامهم وأفعالهم ووعودهم،‮ ‬ولكن‮ ‬يلوّح محمود دياب بأن ذلك الظلم،‮ ‬لا‮ ‬يستمر إلا إذا كان المظلومون خاضعين ومستسلمين له،‮ ‬وهنا‮ ‬يبرز ابن أبي شامة،‮ ‬والذي‮ ‬يمثّل بارقة أمل في المستقبل،‮ ‬وسيثأر لوالده بطرق البناء والعمل والاستمرار في الحياة دون وجل‮.‬
وعندما عرضت المسرحية بعد صراع مرير،‮ ‬كتب عنها نقاد كثيرون،‮ ‬واحتفوا بها أيما احتفال،‮ ‬فكتب بهاء طاهر قائلا‮ :" ‬من أحب بقوة ضرب بقوة،‮ ‬هذا المثل القديم‮ ‬يصدق علي الأستاذ محمود دياب مؤلف الزوبعة،‮ ‬فأنت حين تشاهد مسرحيته وتري موضوعاته تشعر في نفس الوقت بمدي الحب الذي‮ ‬يكنه لقريته،‮ ‬وإدراكه الحميم لأدق خلجاتها،‮ ‬فهو لا‮ ‬يتاجر بالعاطفة السهلة،‮ ‬ولا بفكرة الجماهير البسيطة الطيبة،‮ ‬ولا‮ ‬يزيف علينا الخير والشر في صورة الأبيض والأسود،‮ ‬ولكنه‮ ‬يقدم لنا عالما‮ ‬غنيا ومركبا‮ ‬يكشف لنا عن الحقيقة البناءة أكثر مما تفعل عشرات المسرحيات التعليمية الطيبة الذكر‮..".‬
وكتب عنها‮ ‬فاروق عبد القادر،‮ ‬وكذلك د أمين العيوطي،‮ ‬والناقد فاروق عبد الوهاب،‮ ‬وغيرهم،‮ ‬ورغم أن كل هؤلاء لا‮ ‬ينتمون إلي مدرسة واحدة،‮ ‬ولا رأي مشترك جامع مانع،‮ ‬إلا أنهم اتفقوا علي تلك الموهبة العاصفة التي دخلت عالم المسرح بقوة،‮ ‬مع بعض التحفظات التي أبداها البعض هنا أو هناك،‮ ‬وكذلك ناصبه سعد الدين وهبة العداء،‮ ‬فعندما نشر محمود دياب المسرحية،‮ ‬كتب في مقدمتها الإجراءات التي اتخذت نحو المسرحية،‮ ‬وهي كالتالي‮:‬
‮(‬بتاريخ‮ ‬11‮ ‬أكتوبر سنة‮ ‬1964‮ ‬انتهي مؤلف مسرحية الزوبعة من كتابتها
بتاريخ‮ ‬4‮ ‬نوفمبر سنة‮ ‬1964‮ ‬قدمت إلي لجنة المسرح الحديث
بتاريخ‮ ‬7‮ ‬ديسمبر سنة‮ ‬1964‮ ‬قدم الأستاذ عبد الفتاح البارودي عضو اللجنة تقريره
بتاريخ‮ ‬8‮ ‬ديسمبر سنة‮ ‬1964‮ ‬قدم الأستاذ رجاء النقاش عضو اللجنة تقريره
وبتاريخ أول مارس سنة‮ ‬1965‮ ‬قدم الأستاذ سعد الدين وهبة تقريره الذي ضمنه عبارة وحيدة‮ "‬لا تصلح‮.." ‬دون بيان أسباب
في‮ ‬21‮ ‬نوفمبر‮ ‬1965‮ ‬أقرت اللجنة‮ -‬بعد إعادة تشكيلها‮- ‬المسرحية نهائيا
عهد بإخراج المسرحية إلي المخرج الشاب محمد مرجان،‮ ‬مخرج المسرح العالمي
تحدد لعرضها‮ ‬15‮ ‬أبريل سنة‮ ‬1966‮ ‬علي مسرح‮ ‬26‮ ‬يوليو بالقاهرة‮".‬
وعانت المسرحية في عرضها،‮ ‬فبدأت البروفات في فبراير‮ ‬1966‮ ‬علي خشبة المسرح الحديث،‮ ‬ثم توقفت،‮ ‬وتم إرجاؤها إلي الموسم التالي‮ ‬،‮ ‬لكن عبد الرحيم الزرقاني أخرجها لفرقة إقليمية هي فرقة‮ "‬البحيرة‮"‬،‮ ‬وتبعه المخرج حسين جمعة‮ ‬فأخرجها لفرقة إقليمية أخري هي فرقة‮ "‬كفر الشيخ‮"‬،‮ ‬ولكن عرض الزرقاني الذي انتقل إلي القاهرة،‮ ‬هو الذي لفت الأنظار إلي محمود دياب،‮ ‬وأصبح واحدا من فرسان المسرح الجدد بلا منازع،‮ ‬وقام بتصوير كافة الاسئلة والمقولات الاجتماعية في كافة نصوصه المسرحية،‮ ‬رغم كافة أشكال التعويق التي راحت تعمل لتعطيل أعماله،‮ ‬بل السطو عليها،‮ ‬كما فعل حسب كثيرين سعد الدين وهبة،‮ ‬الذي رفض مسرحية‮ "‬الزوبعة‮"‬،‮ ‬ولكنه أعاد صياغتها وإنتاجها في مسرحية‮ "‬بير السلم‮"‬،‮ ‬والتي تقوم فكرتها بالضبط علي فكرة‮ "‬الزوبعة‮"‬،‮ ‬وقد شاع ذلك الخبر كثيرا،‮ ‬وكتب عنه كثيرون،‮ ‬أبرزهم فاروق عبد القادر،‮ ‬الذي أطال في دراسته‮ -‬عن ذلك الأمر‮- ‬في كتابه‮ "‬غروب شمس الحلم‮".‬
أصبح محمود دياب من العلامات البارزة والمؤثرة في المسرح المصري الحديث،‮ ‬يطرح الأسئلة التي طرحت من قبل،‮ ‬ولكن بشكل فني متطور،‮ ‬وجاءت مسرحيته‮ "‬ليالي الحصاد‮"‬،‮ ‬التي نشرت‮ -‬أولا‮- ‬في مجلة المسرح‮ ‬،‮ ‬ليتأكد حضوره بشكل لا منازع عليه،‮ ‬ولا‮ ‬غبار عليه،‮ ‬وظل‮ ‬يكتب للمسرح نصوصا فريدة،‮ ‬ذات مذاق انحيازي لكافة قضايا العدل الاجتماعي والحرية المطلقة والاستقلال الوطني،‮ ‬فكتب مسرحيات‮ "‬باب الفتوح،‮ ‬و-الهلافيت‮- ‬وأرض لا تنبت الزهور،‮ ‬ورجل طيب في ثلاث حكايات،‮ ‬وغيرها من نصوص،‮ ‬أعيق بعضها للوصول إلي خشبة المسرح،‮ ‬ووصل بعض آخر إلي الجمهور،‮ ‬حتي مسرحيته‮ "‬رسول من قرية تميرة‮"‬،‮ ‬والتي وقفت بشكل قاطع في وجه الحلول الاستسلامية مع اسرائيل‮.‬
هذا بالإضافة إلي نصوصه السردية العبقرية،‮ ‬مثل روايته السير ذاتية‮ "‬أحزان مدينة طفل في الحي العربي‮"‬،‮ ‬وروايته الأخري‮ "‬الظلال في الجانب الآخر‮"‬،‮ ‬والتي أخرجها للسينما المخرج الفلسطيني‮ ‬غالب شعث‮ ‬،عام‮ ‬1972‮ ‬،‮ ‬ولعب أدوارها محمود‮ ‬ياسين ومحمد حمام ونجلاء فتحي وأحمد مرعي،‮ ‬وبالإضافة إلي ذلك كتب قصصا قصيرة،‮ ‬غير قصص مجموعته الأولي،‮ ‬ولم تجمع تلك القصص في كتاب‮.‬
المأساة التي تعيشها نصوص محمود دياب العظيم،‮ ‬ليست مطروحة علي وجه الإطلاق أمام القارئ،‮ ‬وهاتفني الدكتور محسن فرجاني مؤخرا،‮ ‬وقال لي بأنه حاول السعي لنشر المسرحية في الهيئة المصرية العامة للكتاب لنشر روايته‮ "‬أحزان مدينة‮"‬،‮ ‬ولكنه لم‮ ‬يستطع الوصول إلي ابنته هالة التي تعيش في أمريكا،‮ ‬ومن هنا أصبحنا أمام وضع معقد للغاية،‮ ‬فلا أحد بادر من قبل في طبع ونشر تراث محمود دياب السردي والمسرحي،‮ ‬وعندما تمت ثمة مبادرة،‮ ‬كان الطرف الآخر‮ ‬غير موجود،‮ ‬نأمل في حل لهذه المشكلة العويصة حتي‮ ‬يستقيم الأمر في ذلك الواقع الثقافي المقلوب‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.