جوخة الحارثى كانت، كلّ بضعة أشهر، تأوى إليّ. وكانت، كلّ بضعة أشهر، أو كلّ بضع سنين، مُفعَمَة بشيء جديد. شيء يملؤها حماسةً صريحة، أو همومًا ملتوية، أو وفرةً فى الحياة لا تدرى أين تُفرغها، تظلّ تحكى لى أيّامًا، تنسج المفردات الجديدة فى مفرداتها القديمة، تحيكُ العوالم الشاسعة باللغة، والضحكات، والإيماءات، والصمت المفاجئ. أحيانًا كانت تتحمَّس تجاه فكرة، فكرة واحدة، تقلّبها على وجوهها، تتحدّث عن كلّ ممكناتها، تظلّ تناقشها حتى تسأم، وتذهب. وأحيانًا كانت تحكى قصصًا، قصصًا غريبة، غير مترابطة، بها فجوات كثيرة، وأحداث تبدو مُختَلَقة، وتُكرّرها، تلكم القصص، حتى تنتهي، كلّها، وتذهب. وأحيانا تتحدّث عن دين جديد، أو طائفة جديدة، ليس الدين أو الطائفة هما الجديدان بطبيعة الحال، وإنّما الجدّة فى اهتمامها؛ كلّ ممارسة طقوسية لم تسمع عنها من قبل تثير اهتمامها، كلّ معبود للبشر عبر القرون يُدهشها، تظلُّ أسابيع تحدّثنى عن الزرادشتية، أو بوذا، أو البَهَرة، عن جبال مقدّسة غامضة، تعلوها تماثيل عاتية مطليّة ب الذهب، عن ذبذبات كونيّة تجتذب الأمنيات، وعن طقوس اغتسال بثياب بيض فى ماء جارٍ، حتى يفتر حماسها، أو تستنفد حكاياتها. وعندما تفرغ طاقتها تشحب يداها، وتنطفئ النجوم فى أطراف أصابعها، وتذهب. كنتُ قريبًا لدرجة أن تأوى إليّ بكلّ هذه الفورات الحماسيّة، ولكنى لم أكن قريبًا بما يكفى لتربط لى اهتمامها الفجائى بالأديان والمذاهب والتقاليد وعلم الطاقة بعلاقاتها الشخصيّة مع الرجال العابرين فى حياتها المضطربة وقد استغرقتُ سنوات حتى أدرك أن تلك الاندفاعات المباغتة، المتجدّدة، والقصص العجيبة، تتعلّق كلّها برجال يتقاطعون مع فضاءاتها. لم أعرف إلا بعد سنوات أنَّ انشغالها المحموم طيلة سنة كاملة ب المهاجرين غير الشرعيّين من السنغال إلى فرنسا، كان وراءه العابر فى حياتها فى ذلك الوقت، ذاك الذى كاد يهلك فى قوارب الموت فى البحر الأبيض المتوسط. لقد حَكَت لى عن كلّ شيء: النزاعات المسلّحة، التخلّص من الوثائق الشخصيّة لتسهيل طلب اللجوء، العصابات التى تُسلم المهاجرين إلى عصابات أخرى، الاتجار بالبشر، وخطر الموت غرقًا. فجوة واحدة فقط فى قصّتها: الرجل الذى أثار اهتمامها بهذا كلّه حين التقته فى ستراسبورغ أيام الدورة الدراسية فى اللغة الفرنسية، الرجل الذى يتبع الطريقة التيجانيّة الصوفيّة، وطلب لجوئه إلى فرنسا ما يزال عالقًا بين أضابير العنجهية والشك. تلَت مرحلة المهاجرين فى قوارب الموت، مرحلة فلسفة الخيانة، بقينا ساعات نتجوّل فى الطرق، (فهى مشَّاءة مثلي، وهذا يعود إلى تربيتنا فى بيت واحد مولَع بالمشي)، وهى تفلسف الخيانة الزوجية، استدلّت خاصّة بآراء شوبنهاور ونيتشه عن ملل الحياة الزوجيّة وكآبتها. شوبنهاور، الذى تغاضَت فى هذه المرحلة عن كرهه الشهير للنساء، يؤكد أن المتزوجين خاضعون رغم الأوهام العاطفية لعادات القطيع، فالرضيع الزنّان هو هدف الجنس البشرى فى النهاية، ومهده يصبح قبر الزوجين اللذين كانا حبيبين، «وحالما يزول وهم الحب، وتهدأ غريزة الجنس النوعي، لا يتبقى سوى المواجهة الكئيبة بين امرأة سليطة وديك مخصيّ». قلتُ بأن هذه الأفكار عتيقة بعض الشيء؛ إذ نُشرت فى الربع الأول من القرن التاسع عشر، ولكنَّها فى غيابها داخل الدوائر التى تشغلها، سرعان ما انتقلت إلى نيتشه غير مُلقية بالا إلى تعليقي، ولا مُنتبهة إلى أنها تشترى كوز الآيس كريم الثالث من عربة الآيس كريم فى الطريق، رغما عمَّا قالته لما خرجنا بخصوص اتّباعها حمية غذائيَّة. لم أركّز تماما فى آراء نيتشه فى هذا الموضوع، أظنُّ أن كليهما، شوبنهاور ونيتشه، لم يتزوّج، وهي، كذلك، لم تتزوّج، ويبدو أن الرجل الحالى فى حياتها، متزوّج. لا أتذكّر تمامًا إن كانت فترة «فلسفة الخيانة الزوجية» هى نفسها فترة «السموم الغريبة»، غير أن الآيس كريم بقى فى ذاكرتى من هذه الفورات، فقد تكون فورة واحدة فى الواقع، لا أعرف. غير أنى أظنّ أنها كانت أكثر المراحل خطرًا، فقد تنامى هوسُها بالعناكب والقوارض والحيَّات، وكيفيّة تأثير سمّها فى البشر، وقد حاول الرجل الذى يعمل فى المخابرات، ولا أعلم إن كان هو نفسه المتزوّج، تضليلها بشأن اختفاءاته القسريّة لطبيعة عمله، فنسج لها قصص السمّ، خاصة حادثة لسعة «عنكبوت الأرملة السوداء» له، وصفَت لى ونحن نمشى ونلحس آيس كريم الرّمّان، نوعها المفضّل، هذا العنكبوت؛ لونه أسود وبه لمسة حمراء على شكل ساعة رملية، إذا تُرك سمُّه بغير علاج يمكن أن يقود للوفاة، ولكنَّ صديقًا ما، تعرفه، كان فى رحلة إلى جنوب أفريقيا، نجا منه، بعد معاناة طويلة، قطعت اتصالاته مع الأصدقاء. لم تكن فى اختلاقاته ثغرة، ولكنها تعبت فى النهاية من تتبّع الموسوعات بشأن السّموم، وكفَّت عن ملاحقة العناكب التى تختفى وتظهر فجأة. ثم انقطعنا عن المشي، بسببٍ من مشاغل مبتذلةٍ فى الحياة، ونزاعات مع أقارب آخرين حول إرثها غير المحسوم، إذ ترك لها أبوها، عمّي، الذى توفّى وهى طفلة بسكتة قلبيّة، بيتًا وأسهمًا فى شركة، أمَّا أمَّها، التى هى خالتي، والتى ماتت بالسرطان فى مراهقة ابنتها بعد أن ترمّلت، ثم تزوّجت تاجرًا، فقد تركت لابنتها صندوقًا من المصوغات الذهبيَّة، أراد التاجر، وخالة أخرى لنا، وأكبر إخوتى الاستيلاء على الذهب والبيت والأسهم، فأنفقَت هي، ابنة عمي، سنوات من شبابها فى المحاكم من أجل قضايا إرثها، بَيْد أن النّظام القضائى لم يُثِر غير ازدرائها، ولم تُفضّل الخوض معى فى هذه الشؤون «المقيتة» كما كانت تصفها. ثم هدأت أوراق المحاكم، ودخل المتنازعون فى هدنة، وامتدّ ذلك الصَّيف حتى نوفمبر، ولم يعرف أحد سبب تلك المبالغة فى امتداده، وجاءت إليّ حين انزاح الحَرُّ أخيرا، بقصص طويلة، مُختَرقة، وناقصة، ومُلتفّة، عن البدوّ الرُّحَّل فى صحراء الرُّبع الخالي، شرحَت لى طرق جزّ صوف الكِباش، وشَعر الماعز، وصبغه بموّاد من الطبيعة مثل قشر الرُّمَّان والنّيلَة الزّرقاء والحنَّاء والكُركُم والعُرجون. قلتُ بأنى لا أعرف العُرجون، فأكملت كلامها عن فنون غزل الصوف والوبر ونسجه على النُّول، فى زخارف بسيطة أو معقّدة، وحَكَت لى عن العائلات التى مازالت تتوارث هذه الصنعة، وتتاجر بالمشغولات اليدويّة المطرَّزة، وحين وصلت بالحديث إلى سيكولوجية النُّوق، لم أعد أُنصِت، وإنَّما أتخيَّل البدوى الممشوق، حفيد السُّلالات القديمة، الذى ذبح لها ناقته، وفرشَ لها رداءه من وَبر الإبل، ولفَّها فى شالٍ أدهم مُطرّز بالنجمات الذهبيَّة فى بردِ الصحراء القارس. لم تحكِ عن البدويّ، وإنّما عن البعثة الاستكشافية التى انضمَّت إليها للسير على خطا ألفرد ثيسجر، الرحّالة البريطانى الذى قطع فى أربعينيّات القرن الماضى صحراء الربع الخالي، معظم أفراد البعثة إنجليز، ولكن فيهم فرنسيين كذلك، فكانت فرصة لها للتدرّب على الُّلغة، التى هجرتها منذ أيام ستراسبورغ فى أوائل عشرينيّاتها، وعلى الرغم من بعثات أخرى سبقتها، إلّا أنَّ بعثتهم مميّزة باختلاطها مع البدو، وتمثّلها لسبل عيشهم، كما فعل ثيسجر نفسه، حدّثتنى عن فوائد حليب الإبل، وعن نجم سهيل، وعن الاهتداء باتجاه الريح، وببهجة مكتومة أرتنى شالها المنقوش بزهرات الصحراء ونجومها. لم أعرف أبدا إن كانت قد التقت المهاجر الصوفيّ ورجل المخابرات المتزوج والبدويّ الرحّال فى الحياة الواقعية أو لا، أو اختلقتهم بانتماءاتهم المختلفة، وميولاتهم المتعددة، أو عرفتهم عن بُعد، أو قُرب، أو إلى أى مدى من القُرب، فهى لم تتحدَّث عنهم إلا مواربة، وأحيانًا بعد سنين من انطفاء القصص المتعلّقة بشؤونهم. ولم أعرف أبدا إن كان هناك معلم يوجا بوذي، أو تاجر من البَهرة، أو خبير سموم مرَّ قليلا أو كثيرا فى سمائها فخفقت له أجنحتها. لم أعرف إن كانت تعتمد على فطنتى أو غفلتي؛ إذ تراءت لى الغفلة ناجعة معها كما هى الفطنة. كنتُ قريبا بما يكفى لتأوى إليّ إذ كبرنا معًا فى بيت أبي، عمّها، وبعيدًا بما يكفى لأظلّ فى ظلال القصّة لا شمسها، لأتخبّط معها فى تتبّع مسارات قوارب الموت، ومآلات المكتئبين، وعذابات الخائنين، ولسعات الزواحف، واستنارات بوذا، دون أن ألتقى بسُدّة الاهتمام ولُحمته، دون أن أعرف الجانب المتماسك من القصة؛ الرجال الذين يلفّون الخيوط التى تتخبّط فيها، أو تنسجها، وتلتحفُ بها. لقد عومِلنا فى بيت أبى باعتبارنا أخَوَيْن؛ والدانا وأمهاتنا أشقّاء، وكبرنا معا، غير أنّنا لم نناقش هذه الصّلة واحدنا مع الآخر، لم تسبق نداءها لى بكلمة «أخي» كما تفعل أخواتى الأخريات الأصغر سنًّا منّي، إظهارًا للاحترام، ولم توقِف نزهاتها معى لما اجتازت عتبات اليفاعة، كما فعلت بنات أعمامى الآخرين، اللواتى نشأن فى بيوت مستقلّة. كنتُ قريبًا كأخ، ولكنّى لم أكن أخًا فعليًّا فكنتُ نافعًا كصديق؛ يُقال لى ما لا يُقال للإخوان عادة، ولكن ليس كلّ ما يُقال للأصدقاء. عرف الفرحُ كيف يكون فى حِلّ من الكدر فى إيقاعها، كنتُ أسيرُ على ذلك الإيقاع وكأنَّ حياتى هامشٌ صغير أمام موجاتها المتلاحقة، وفى حين رفضَت نقاش موقف أخى الذى انضمَّ إلى الطامعين فى إرثها بعد وفاة والدى الذى ربَّاها، خُضنا النقاشات التى أباحَتْها لى وحسب؛ عشتُ فى قمم خيالها مع مستنيرى الزن البوذيين، طاردنا غزلان الأوهام، وتسامرنا فى مآلات الأرواح، ولم أفكّر قطّ إن كنتُ مُهتمًّا بدائرة اهتماماتها التى تنداح إلى عشرات الدوائر، كحصى يُلقى فى بحيرة، أم أنَّ كلَّ ما تهتم به يصبح مُهمًّا، بلا حَول مني، ولا تدبّر. وحين ساقَتْ إليّ كلَّ الحجج عن استحقاق الحياة أن تُعاش، فكَّرتُ: «حتى لو كانت حياة صغيرة، مثل حياتي»، ولم أُعلّق. حتى لما بدا أن موسم الإزهار قد راوغها، كانت فى اندفاعٍ شجيّ، وكأنما الأربعون شجرة فى طريقها ستقطف منها ثمرة وتمضي. وقد راعنى الأسى الذى حطَّ على عينيها البنفسجيّتين، كأنما اختارتْه واصطَفَتْه، على الرغم من أنى فهمتُ فقط عن طريق الإشارات والعبارات المدسوسة عَمْدًا والمنفلتة سهوا، أنَّ انشغالها الحادّ بالاكتئاب لم يكن مردّه اكتئابها، وإنما اكتئاب الرجل الخمسينيّ، الشاعر، الذى كان ينشر قصائده لها فى الجريدة، وتحاول هى منعه من الانتحار. ظلّت حججها عن استحقاق العيش تتدفّق، حججٌ كانت تشحذها على شفرة انتباهى من أجله هو، وفى ليلٍ باذنجانيّ اللون، لن أكونَ فيه، سيكون الشاعر المهموم بالموت بجانبها وهى تحاول ضَكَّه بالحجج عن قيمة الحياة، وفى فمى أنا، مذاقُ النجومِ الباردة.