«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد الزناتي يكتب: معنى الحياة بين إيجلتون وكامبل وجوته
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 06 - 02 - 2022


كتب : أحمد الزناتى
على مدار السنة الماضية دونتُ ملاحظات على هوامش ثلاثة كتب تناوبت على قراءتها. كان القاسم المشترك مقاربة فكرة مغزى الوجود الإنسانى عبر ثلاث زوايا لثلاثة مؤلفين ينتمون ظاهرياً إلى توجهات فكرية متباينة.
ترتيب المؤلفين وَفق الترتيب الزمنى للقراءة: تيرى إيجلتون فى كتاب معنى الحياة: مقدمة قصيرة جداً - هندواى 2018، وكتاب عالم الميثولوجيا الأمريكى جوزيف كامبل Reflections on the Art of Living تأملات حول فن العيش الصادر عن Joseph) Campbell Foundation, 2011 وأخيراً لاتنسَ أن تعيش: غوته وتقليد التمارين الروحية للمفكر الفرنسى بيير آدو، ترجمة د. وليد السويركي، الأهلية 2020.
إيجلتون فى اعتقادى أهم منظرى العصر الراهن، وربما ترجع أهميته إلى مقاربة أفكار عويصة بخفّة ظل يندر أن نراها فيمن سواه من مُجايليه أو حتى من المنظرين الأصغر سناً. يعترف الرجل نفسه فى تصدير الكتاب أنه حاول معالجة موضوع ذى أفكار سامية بأكبر قدرٍ ممكن من المرح والوضوح. سأتوقف عن أفكار بعينها طرَحها الثلاثة.
فى أول الكتاب ينوّه إيجلتون – مسترشداً بمنهج فيتجينشتاين - بأن السؤال عن معنى الحياة سؤال لغوى زائف، يشبه مثلاً أسئلة: ما معنى الكرنب؟ أو ما معنى جهاز رسم القلب؟ فالكرنب أو جهاز رسم القلب ليس لهما معنى فى حد ذاتهما، بل يكتسبان معنى من خلال الحديث عنهما، أى فى وظيفة /سياق أو فى تجربة وفق رؤيتي.
عند إيجلتون معنى الحياة ليس حلاً لمشكلة أو إجابة عن سؤال، بل طريقة عيش بأسلوب معيّن، لا مسألة ميتافيزيقية بل سلوكية. يؤكد إيجلتون: «معنى الحياة هو عيش الحياة نفسها بعد إدراكها بطريقة معينة».
يسحب إيجلتون مغزى الحياة من إطارها الميتافيزيقي/اللاهوتى الذى يعِدُ بالخلاص الأخروى ليزجّ به إلى ساحة ملاعب الدنيوى والعادي.
ومن ثم فمعنى الحياة عنده لا يُدرَك فى لحظة إشراقية صوفية مزلزِلة ولا حكمة إلهية مُنزّلة، بل فى أشياء يفعلها الناس يومياً من دون إدراك. هدف نظيف يا د. إيجلتون. لا يقول الرجل صراحة إن معنى الحياة هو الحب ومعه حقّ وإن لمّح إلى ذلك على استحياء، فعندما تكرّس حياتك لرعاية طفل معاق مثلاً فإنك تضحى بوقتك وسعادتك وتحقيق ذاتك.
وقد يؤدى القتال من أجل العدالة كمعنى منشود للحياة إلى الموت، فهل معنى ذلك أنك تقاتل لأجل شيء بلا معنى وهو الموت؟ بالطبع لا، ثمة معنى، لكنه ليس معنى مادياً ذا نفع مباشر.
جُملة قوية يدسّها إيجلتون فى ثنايا تحليله:« إذا كانت الحياة مبهمة فإن اليأس مستحيل، فواقع غامض لا بد أن يترك وعداً مبهماً بأمل». يروى ميرتشا إلياده فى يومياته أنه كان يتردد أثناء مقامه بباريس على شقة إيميل سيوران الذى أخبره بمحاولة حرق مخطوطات أعماله لاقتراف فعلٍ ضد نفسه «لا سبيل إلى إصلاحه».
أظن أن سيوران لو أراد الانتحار/حرق أعماله إنكاراً لمغزى الحياة لفَعَلها مبكراً، لكن أملاً غامضاً كان يتسرّب إلى قلبه خفية ويدفعه لمواصلة الكتابة حتى ناهز الثمانين.
أقوى ما قرأت فى تحليل إيجلتون أن معنى الحياة مسألة فردية تماماً، مسألة شخصية، تستلزم القوة وتحمّل المسئولية لاكتشاف المعنى بأنفسنا (هل لاحظَ أحد أن إيجلتون الماركسى اصطبغ بصبغة وجودية خفيفة نوّرتْ وجهَه؟) إن ما نحتاج إليه هو صورة من صور الحياة لا هدف لها إطلاقاً، مثلما يخلو عرض موسيقى أو فيلم جميل أو دردشة حلوة من أصدقاء من غاية هادفة.
وفى هذا الإطار يقترب معنى الحياة من انعدام معناها. ربما أفهم عبارة إيجلتون أن المقصود هو انعدام معنى بعينه وغاية بعينها. دائماً ما تكون نهايات إيجلتون حاسمة حيث يُنهى الكتاب بسؤال: هل غطيّنا السؤال على نحو نهائي؟ فيجيب إن من سمات الحداثة عجزها عن تغطية أى سؤال مهم بشكل نهائي، لأنها الحقبة التى ندرك فيها أننا نعجز عن الاتفاق على أهم القضايا الجوهرية وأن الجدالات المستعرة حول معنى الحياة يشير ضمناً إلى أنها ذات معنى!
يستهلّ كامبل كتابه تأملات حول فن العيش بسؤال: ما معنى الحياة؟ تأخذ الإجابة شكل دردشة يناقش فيها -من بين أشياء أخرى- أفكار أبيه الروحى كارل جوستاف يونج. الكتاب مكوّن من سلسلة نقاشات أجراها مع عشرة طلاب خلال حلقة دراسية استمرت شهراً فى سنة 1983.
فى البداية أنوّه بأن كامبل كان مولعاً بالإشارة إلى ما كتبه شوبنهاور فى مقالة عن شعور ينتاب المرء بأن ثمة مؤلفاً فى مكان ما يكتب رواية حياتنا، فمن خلال الأحداث التى تبدو لنا أنها عَرَضية، هناك حبكة آخذة فى الانكشاف، لكنها قد تتكشف أمامك كلما تقدمتْ بك السنّ.
ينقل كامبل بسندٍ مباشر عن يونج أن منحنى العُمر ينقسم إلى شطرين: الأول هو شطر تكوين العلاقات والثانى محاولة العثور على مغزى الحياة أو كما يقول الهندوس: «اتباع الطريق = marga»،اقتفاء أثر التجربة التى خضنا غمارها بغية الوصول إلى الحياة الجوّانية، ثم يأتى بعدها الخلاص/الانعتاق، واجتياز الممر الأخير دونما شعور بقلق.
فتسير ناحيك موتِكَ بقلب سليم. يقول يونج: «كطبيب نفسى أوقن أنه من الصحى لأى إنسان أن يكتشف فى الموت غاية، كما أوقن أن الهروب من فكرة الموت أمر ضار ومجافٍ لسنن الطبيعة لأنه يسلب الغايةَ من شطر حياتك الثاني.
الربع الأول هو طور التلميذ، وهو ما يعنى بوجه عام الامتثال إلى الأنماط التى يفرضها المجتمع، هى ما يُطلق عليه نيتشه لفظ «فترة الجَمَل»، فالجَمل يجثو على ركبتيه سائلاً وضع الأحمال.
أما الربع الثانى من الحياة ففترة ربّ الأسرة، والمقصود بها خروجك إلى الحياة للاضطلاع بمسئوليات الكبار، وهى ما يُطلَق عليه فى النظام الهندوسى «الدارما» = القانون المجتمعي.
وأما منتصف العُمر فهى مرحلة الإدراك وينبغى لها أن تكون مرحلة الرضا. وفق أطوار الحياة عند نيتشه حينما يكتمل تحميل الجَمَل بالحمولة ينهض واقفاً على قوائمه ليشقَّ طريقه عبر الصحراء مُتحولًا إلى أسد، وظيفة الأسد أن يقتل التنين، والتنين رمز لمبدأ: (يتحتم عليك أن تفعل كذا)، ثم المرحلة الأخيرة حيث يتحلّى المرء بروح الطفل ليحقق إرادته الخاصة (راجع: هكذا تكلم زارادشت، الجمل 2007 ت: على مصباح عن التحولات الثلاثة، ثم انظر فى شروحات يونج على نيتشه فى محاضرات مخلّص العصر الحديث، ت: متيم الضايع، الحوار 2021).
رفضُ هذه المراحل يعنى رفض الحياة. طالما وُجَّه نقد عنيف إلى أفكار كامبل ومن قبله يونج وإلياده لسعيهم إلى حثّ كل فرد للبحث عن/خلق مغزى حياته بنفسه بدلاً من إشاعة الاستخفاف بكل ما هو صادق وحقيقي، ثم مؤخراً الهجوم المُشخصَن على جوردان بيترسون ربما لأنهم غضبوا لما طالبهم بأن يخشوشنوا قليلاً وألا يسفّهوا من قِيمَ الزواج والأسرة وأن ينظفوا غرفهم أولاً قبل المطالبة بإحلال العدالة والمساواة فى العالم. والحق أن أياً منهما لم يُلق بالاً إلى كلام المنتقدين.
المشكلة فى المُنكر لكل قيمة والجاحد لكل نِعمة اعتقاده أن الحياة لم تَهبه ما يظن أنها ينبغى لها أن تهبه إياه عرفاناً بعبقريته، والذرائع على طرف اللسان: لولا النظام التعليمى لعُيَّن مكان إيلون ماسك فى منصب CEO تسلا موتورز، ولولا الظلم لعُيَّن سكرتيراً عاماً لليونسكو. يكون المرء من فئة الرِعاع طالما ظلّ يلقى بالذنب على غيره، وعلى الطريق السليم عندما يجعل نفسه هو المسؤول عما يصل إليه» (إنساني، مفرط فى إنسانيته).
الطريف أن كامبل وضعهم داخل نموذج نمطي، فالصنف الندّاب معروف، ينتمى إلى فئة مُبطِلى الحياة، مَن لا يرون خيراً من أى نوع ولا نِعمة فى أى شيء، فى الطائفة «الجاينية» فى الهند بقايا منهم. فى اعتقاد كامبل يعيش الناس من خلال لعبة، والأحمق من يدمر اللعبة، آخذاً دور الناصح الذى يأتى ويقول: «وما فائدة اللعبة؟» الحياة تمنحك ملعباً يُعينك على التوفيق بين حياتك ووعيك، وهو ما يُطلَق عليه كامبل الدين أو الحياة الروحية أو الميثولوجيا، اختر ما شئت.
لا مشاحة فى الاصطلاح، أما لو رأيت كلام كامبل ويونج دَجَلاً وثرثرة فانسَ الأمر برمته واستمتعْ بحياتك:. Good Luck كان يونج يكرر دوماً اقتباساً من أحد الأناجيل الأبروكيفية يقول:« إن كنتَ تعلم ماذا تفعل فطوبى بك، وإن لم تكن تعلم ماذا تفعل فأنتَ ملعون». فى اعتقادى لو اشترطَت الحياة شيئاً فسيكون شرطها الخلوّ من كل شرط، لأنها تحذف الشروط السابقة مِن التعاقد. «لأننا لم ندخل العالم بشيء وواضح أننا لا نقدر على أن نخرج منه بشيء» بحسب الرسول بولس.
الكتاب الثالث هو كتاب بيير آدو «لا تنس أن تعيش: غوته وتقاليد التمارين الروحية». سأتوقف عند فكرة أصيلة متصلة بموضوع الكلام. يسعى المؤلف إلى استخلاص فن العيش من خلال قراءة أعمال جوته عبر تأدية نوع من التمرينات الروحية. يذهب جوته ومن بعده نيتشه إلى أن الغرض الأساسى من الحياة أن نعيشها. ولكن كيف نعيش حياة تغصّ بالمحبطات والآلام والأفاكين؟
سأبدأ من فقرة وردتْ فى الفصل الأخير.
فى نهاية سيرة جوته الذاتية شعر وحقيقة فقرة توجز حكاية العمر كله: « كما لو أن أرواحاً خفية تجلدها بالسياط، تعدو خيول الزمن الجامحة، جارَّةً عربة قدرنا الواهية، لا يبقى لنا شيء سوى أن نمسك بشجاعة بالأعنة، وأن ندير العجلات إلى اليسار تارة وإلى اليمين تارة، فثمة صخرة هنا وركام حصى هناك. إلى أين نمضي؟ من يعرف؟ وعربتنا لا تكاد تعرف من أين أتت».
سؤال جوته الجوهرى ومن بعده نيتشه: ما نفع كذا؟ فيؤكد بعد استقراء نصوصهما: «إن ما يمنح الكون معنى هى كلمة نعم، عند جوته ونيتشه ولا ننسى جيمس جويس فى آخر سطر من يوليسيس لو تذكرنا: «نعم، قلتُ نعم».
يتطابق هذا الإيمان بكلمة نعم مع ما يُطلِق عليه نيتشه Amor Fati (حب القدر) أو بتعبيره بالألمانية (Ja-sagender) = أن تقول نعم للحياة. لنتذكّر ما قاله نيتشه فى الشذرة 324 من العلم المرح:«هذه الحياة لم تخيّب ظني، الحياة وسيلة للمعرفة، من يحمل هذا القانون فى قلبه، لن يعيش شجاعاً فحسب بل سيحيا مرحاً»، بل إنه يُصدّر الكتاب بمقولة الأمريكى إيمرسون: «كل الأشياء محببة ومباركة فى عين الشاعر والحكيم، كل التجارب مفيدة، كل الأيام مقدسة».
كان نيتشه محباً لقدره إذ قال: «أدين بفلسفتى لألمي». وهل تألّم أحد مثلما تألّم نيتشه جسدياً ونفسياً؟ يشير يونج فى إحدى محاضراته (مرجع سابق) أن نيتشه فى لحظات صحوٍ خاطفة من ظلام ليلِه الأبدى كان ينظر إلى شقيقته ويبتسم: «إليزابيث: لِم تبكين؟ ألم نعش يومًا أياماً سعيدة». أعرفُ شيخاً تجاوز الثمانين وقد ذهب الزمن ببصره وضربه الألزهايمر فشُلَّ عقله ثم خطف الموتُ زهرة عمره، وكان من حوله يبكون على حاله، لكنه كان يستردّ وعيه لثوانٍ ويبتسم احتراماً لمشيئة القَدر وعرفاناً بذكرى الأيام الخوالي.
مشكلة الفلاسفة الذين أطاح نيتشه بكرامتهم أنهم فصلوا الحقيقة عن الحياة، فى حين أن الحياة هى الأصل الذى يتحكم فى كل فعل، ومن ثم فهى تتحكم فى الحقيقة بدورها، ولو تعاليتَ على الحياة ستغادر الغرفةَ وتغلق الباب ومعها المفتاح الوحيد.
القاسم المشترك فى تصورات المؤلفين الثلاثة هو حتمية تطوير رؤية ذاتية للإجابة عن السؤال. وكلنا نعرف طبعاً أنك إن لم تقدّم إجابتك الشخصية عن السؤال، فستجد الملايين من «وِلاد الحلال» المتطوعين لفرض إجابتهم عن سؤالك أنت حول حياتك أنت.
سأختم بنتيجة خلص إليها جوته وهى أن الإنسان بالفن فقط يستطيع أن يقول نعم للحياة، الرضا بالوجود مرتبط بنشاط فني(رسم/موسيقى/كتابة، إلخ) و«الفن خلاص من الأوهام» كما يُعلّمنا عبد الرحمن بدوي. هنا نصل إلى بيت القصيد. ليأذن لى القاريء أن أشير إلى تجربة شخصية أنارت لى ما كنت أقرؤه وأفعله «عِميَاني» طوال سنوات.
فى نهاية 2013 أنهيت دراسة الماجيستير فى إدارة الأعمال وتعرفت إلى زميل يعمل كمدير تسويق لفرع شركة فى مصر. كان يهوى كتابة شعر العامية. توطّدت الصداقة ونصحنى بمواصلة دراسة DBA(الدكتوراه).
فى هذه الفترة بدأت العودة إلى الكتابة، كتبت ثلاثة أعمال سردية قرأها بعض أصدقائي. رجع صديقى إلى الشركة الأم، أنهى الدكتوراه فى ثلاث سنوات، وسافر إلى دولة عربية ولم تنقطع علاقتنا. فى زيارة أخيرة تقابلنا.
فى وسط الكلام قال بمرارة مكتومة إنه كان يكتب شعر العامية وانقطع. مضتْ بنا الأيام وكبرنا وتحققنا. حاولتُ إفهامه أن حزنه الخفى على هجر كتابة شِعر العامية دليل على أن فى الحياة معنى أكبر من الكارير.
فى مرحلة معينة من حياتك تكتشف أنك مهما حققت من أهداف ومهما بلغت من غايات فلن تراها مثلما كنت تراها وهى بعيدة المنال، لأنها فقدت شيئًا من سحرها ورونقها. ولأن صديقى لم يغيّر نظارة «الكارير» الحجرية منذ أن ارتداها، بات عندى يقين أنه لن يتنبه إلى أن كتابة رواية تأخذ من روحك ويفهم ولو قارئ واحد فقط أى سرّ تخفيه؛ أن تشعر بفائدة أو بأثر أو بفهم شخصٍ واحد فى الدنيا ربما يفوق آلاف المرات قيمة أن تحافظَ مخلصاً على مصالح الآلهة، السادة ال Shareholders، وأن ترسل التقرير السنوى قبل إجازات الكريسماس إلى الهوبيت. ثمة تقرير أهمّ عليك إنجازه.
يميل الناس عموماً إلى الربط بين معنى الحياة والسعادة لكن أغلب من يدرسون سؤال المعنى يذهبون إلى أنه اعتقاد يجانبه الصواب. مفهوم طبعاً أنه لو كان لحياتك مردود مادى ملموس فستشعر بالسعادة، ولكن فى مقدورنا أيضاً أن نتخيل شخصاً سعيداً طوال الوقت لأنه يعاقر المخدرات أو يدمن الكحول أو يغرق فى الجنس مع أى شخص من دون تمييز، لكن ذلك أبعد ما يكون عن السعادة.
مغزى الحياة تعلّمتُه من امرأة مثلما أتعلّم دوماً من كل امرأة عظيمة؛ زميلة رقيقة الحال تعمل موظفة بوفيه. فى كل مرة كانت تحاصرنى فيها مشاعر الضجر واليأس واللا جدوى أتذكّر إشراقة وجهها وهى تعمل راضيةً فى ظروف تدمى القلب.
حتى فى الأيام التى أُضطر فيها للبقاء حتى أوقات متأخرة وأطلب منها الانصراف لزوجها وأولادها تزمجز بغضب نوبى جميل وتصرّ بصدق لا تخطؤه عينى على البقاء من دون انتظار مقابل أو مكافأة. لم ألمحها يوماً تولول أو تندب حظها العاثر مثل ذوى الياقات البيضاء. ثمانى عشرة ساعة يومياً عمل وشقاء، مثَل من ملايين.
لا تجد وقتاً لتطرح أسئلة عن مغزى الحياة، لا لأنها أقل تعليماً أو ثقافة. حاشا لله، بل لأنها تجاوزتْ هذه المرحلة. أدعو أن أُرزقَ نِصف يقينها. يقين العطش.
أدركَتْ من دون مساعدة كامبل ولا غيره ما أخبرنا به جوته فى آخر جملة من كتاب آدو:«لا تنسَ مهمتك اليومية، الفعل الذى عليك القيام به: واجبك». وهو ما أكّد عليه هسّه: ألا تأخذ الحياة نفسها مأخذ الجد بمعنى ضرورة أن تصل وتنجز وتتفوق على غيرك، لأنك ستدرك فى لحظةٍ ما أن كل ذلك قبض الريح، بل أن تأخذ مهامك البسيطة ومسئولياتك إزاء الآخرين مأخذ الجد. «فى الصباح ازرع زرعك و فى المساء لا ترخ يدك لأنك لا تعلم أيهما ينمو هذا أو ذاك» (سفر الجامعة 6:11). فى ظنى هذا هو المعنى. لا أحد سيكسب اللعبة مئة بالمئة. المهم أن يصل المرء إلى شيء يعرف به كل شيء.
فى الفصل الأخير من سيرته الذاتية يروى يونج قصة حاخام يهودى سأله تلميذ: «لماذا نعدم اليوم رجالًا يرَون الله مثلما كان البشر فى السابق؟ لماذا لم يعد يخاطب الله البشرَ؟ فأجاب الحاخام: «لم يعد هناك اليوم من ينحنى بصدقٍ كافٍ». الانحناء هنا (بالمعنى المجازي) هو ذروة الشجاعة، إقرار بالعجز وتسليم ببلوغ جحود الإنسان حدوده القصوى، حيث لا مكان بعدها إلا قاع هاوية نفسِه.
اقرأ ايضا | ترتيب المؤلفين وَفق الترتيب الزمنى للقراءة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.