يعتبر القرن العشرين أكثر قرون الحياة الإنسانية دموية، وذلك بالنظر إلي ملايين الأرواح التي أزهقت خلاله بلا مبرر. يتفق الناقد الأدبي الإنجليزي تيري إيجلتون ويري هذا الأمر بمثابة حقيقة تاريخية، تدفعه إلي استنتاج مفاده "إذا كانت قيمة الحياة قد انحدرت بهذا الشكل العنيف في الواقع. فمن الممكن إذن أن يتوقع المرء أن يقع معناها تحت طائلة الشك من الناحية النظرية". وهو ما يراه مبرراً لإسهاب القرن العشرين في التفكير في معني الحياة والوجود بأسلوب أكثر بؤساً مقارنة بمعظم العصور الأخري. ربما لهذا وضمن سلسلة "مقدمة قصيرة جداً" التي تصدرها أكسفورد للنشر كلفت الدار "تيري إيجلتون" بكتابة هذه الكتاب الذي صدرت ترجمته العربية عن دار كلمات ودار هنداوي ويحمل عنوان "معني الحياة". الكتاب بمثابة تحقيق فلسفي يسافر ويتنقل خلاله "ايجلتون" بين الأشكال التي طرحت بها الفلسفة سؤال "ما هو معني الحياة؟" والإجابات المقترحة له. يبدأ ايجلتون الكتاب بالعادة التي يصفها بالمثيرة للحنق التي يتسم بها الفلاسفة وهي تحليل الأسئلة بدلاً من الإجابة عنه. يستعين ايجلتون بآراء لودفيج فيتجنشتاين الذي توصل إلي الاعتقاد بأن الكثير من الألغاز الفلسفية تنشأ من سوء استخدام الناس للغة، ولذا يري فيتجنشتاين أن مهمة الفيلسوف الأولي هو تبديد هذه الأسئلة وإظهار أنها نابعة من خلط أنواع من "الألعاب اللغوية". نيتشة أيضاً كان واحداً ممن اتبعوا هذا الطريق عندما تساءل عما إذا كان السبب في فشلنا في التخلص من فكرة الإله يُعزي إلي قواعدنا اللغوية، فلما كانت قواعدنا اللغوية تتيح لنا تركيب وإنشاء الأسماء والتي تمثل كيانات متميزة- فإنها تجعل من المقبول أيضاً أن يكون هناك إمكانية لوجود نوع من اسم الأسماء أي كيان خارق يعرف باسم الإله- والذي بدونه قد تتداعي جميع الكيانات الصغيرة. من هذه الأسئلة الكبري ينطلق "إيجلتون" نحو الزمن الراهن. حيث يري أن معني الحياة تم اختزالها في مواضيع محددة، فمعظم الناس إذا سألتهم عن معني الحياة ستأتي الإجابات متنوعة ما بين الحب، الجورة، المال، الجنس. ويقارن "ايجلتون" بين الحداثة في طرحها لسؤال معني والحياة، وكيف يتم طرحها الآن في ظل ما بعد الحداثة المهيمن حيث يقول: "إن ما يشكل أهمية في المقام الأول بالنسبة لمعظم أولئك المنخرطين في سعي حامي الوطيس وراء معني الحياة هو الهدف محل المطاردة نفسه. غير أن موطن الاهتمام بالنسبة لليبراليين وأتباع مذهب ما بعد الحداثة هو الجلبة الممتعة التي يثيرها الحوار الدائر حوله في حد ذاته". لتيري إيجلتون تاريخ طويل في نقد ما بعد الحداثة، ورغم أن الفكرة الأساسية للكتاب هي "معني الحياة" إلا أن يتفرع عنها ليصب نقده علي التصورات المختلفة التي تقدمها ما بعد الحداثة لسؤال المعني والحياة. يتوقف إيجلتون أيضاً عند الدين وهذا الربط بين معني الحياة والإيمان بالإله. يعلق معرفاً الأصولية الدينية قائلاً: "إن الأصولية هي ذلك القلق العصابي من فكرة أنه دون وجود (معني المعاني) فليس هناك معني علي الإطلاق، وهي ببساطة الجانب الآخر للعدمية. وأساس هذا الافتراض هو تلك النظرة للحياة باعتبارها بيتاً من ورق: أزل الورقة التي بالأسفل، وسوف ينهار ذلك البناء الهش بأكمله. والشخص الذي يفكر بهذا الأسلوب هو مجرد أسير لصورة مجازية." لكن ليس الأصوليون فقط هم أسري الصور المجازية، ففي عصر التنوير سادت فكرة أساسية مفادها أن الخطأ يجب أن يحارب بشجاعة عن طريق الحقيقة، لكن هذه الشجاعة تبددت مع وصولنا للقرن التاسع عشر فقد أدركنا أن الكثير من الخيالات والأساطير سواء تلك المتعلقة بوجودنا كبشر أو بمعني الحياة، هي ضرورة ليس بصفتها حقيقة، بل ذات الأمر طرح مع ظهور أفكار عقلانية ومتمسكة بماديتها كما الماركسية حيث قدمت الماركسية بوصفها ضرورة لإقناع أنفسنا بأننا فاعلون أساسيون قادرون علي التصرف باستقلالية. في الفصل الثالث من الكتاب والذي يحمل عنوان "خسوف المعني" ينتقل إيجلتون إلي مجال الأدب مستعرضاً أعمال تشيكوف، كونراد، وجيمس جويس وأعمال أدبية آخري لهؤلاء من ينتمون إلي الحداثة، يشير إيجلتون إلي هذا الحنين الجارف في تلك الأعمال نحو ذكري كون منهجي منظم، ومن ثم لديها من الحنين ما يكفي للشعور بخسوف المعني باعتباره كرباً أو فضيحة، أو حرماناَ لا يطاق. أما حركة ما بعد الحداثة فيصفها "ايجلتون" بأنها تتعامل مع مثل هذه الأوهام والضلالات بجزع الشباب الفظ، فلا جدوي من الحسرة علي أعماق لم يكن لها وجود مطلقاً.