هناك حيث تتوقف عقارب الساعة عن الدوران قد اختل عندها عداد الوقت مع أصوات القصف، وخفقت القلوب وهرولت الأقدام هائمةً تبحث عن ملجأٍ في أرضٍ باتت لا تعرف ملاذًا ولا مكانًا لم يعد أثرًا بعد عين. أناسٌ لامسوا السماء الدُنيا بأيديهم فلم يجدوا ما يعلقون به ولو لبرهات من الزمن، فجذبتهم الأرض إليها وضمتهم الضمة الأخيرة لتصعد أرواحهم إلى العلياء، قد ارتقت مرةً ثانيةً إلى السماء. وفي الأرض المنكوبة، هناك صرخات أطفال وأمهات ثكلى وصيحات رجال تنادي أين المفر، وقبل أن يأتي الجواب يأتيهم الموت من كل مكانٍ ويُحاطون بوابلٍ من الطلقات التي تنسف الأبراج، ويرون بأعينهم ألسنة اللهب وتخترق أنوفَهم روائحُ الدخان الذي تتورم من كثافته الأجفان. وبين إجرام قد تقدم وعدوان قد استُكمل وآلة قتل قد توحشت واستعرت ضد الأبرياء، أضحى حال قطاع غزة بأهله تنفطر له القلوب التي تعرف للإنسانية طريقًا، وليست تلك القلوب التي وُصفت بأنها كالحجارة بل أشد قسوة. وتبقى الحقيقة المجردة من أي آراءٍ أو تأويلات بأن القتلة في تلك البقعة من الأرض قد لُعنوا من فوق سبع سموات "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون". ويسرد الصحفي الفلسطيني منذر الشرافي، المتواجد في مدينة غزة، طبيعة ما يدور من عدوان هناك، حيث يُقيم في حي الدرج وسط مدينة غزة. وأعاد الاحتلال الإسرائيلي الكرة في عدوانه على غزة في الثامن عشر من مارس/ آذار الماضي بعدما خمد عدوانه ل58 يومًا منذ التاسع عشر من يناير/ كانون الثاني المنصرم مع بدء تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في غزة. هذا الاتفاق الذي انقضت مرحلته الأولى في الثاني من مارس/ آذار وتنصل الاحتلال من أن يُكمل مراحله التالية كما كان متفقًا عليه، ويستأنف حربه الشرسة، التي بدأت قبل نحو عامٍ ونصف من الآن. اقرأ أيضًا: تحقيق| «عائدون إلى المنزل».. كيف وجد الغزيون ديارهم «المتهالكة» بين أطلال الحرب؟ «دماء كوديان وشهداء مع فارق التوقيت» ويقول منذر الشرافي، ل"بوابة أخبار اليوم"، "الأوضاع على الصعيد الإنساني نكاد أن نتحدث عن أنه لا حياة إنسانية أو لا حياة تصلح لعيش البشر هنا.. لا دواء لا غذاء لا ماء لا كهرباء لا حليب أطفال لا دقيق"، مضيفًا: "غزة أصبحت مكان أشبه بمدينة أشباح التي نشاهدها في هوليود". ويوضح الشرافي حجم المأساة في مدينة غزة قائلًا: "الركام في كل مكان النفايات تملأ الطرقات والأزقة مما ينذر لحدوث كارثة بيئية أو بالأحرى هنا فعليًا أصبحت الكارثة على حسب قول خبراء البيئة بسبب مياه الصرف الصحي تجري كوديان وتكون مستنقعات بالطرقات لاسيما النفايات والركام الذي هو مجبول برذاذ القذائف الصاروخية.. الوضع كما تحدث فعليًا وبكل حقيقة كارثة". ويتابع: "على صعيد التصعيد الميداني، يكاد القصف لا يتوقف دقائق، وهناك استهدافات في كل لحظة. استهداف لمراكز الإيواء.. للتكيات الخيرية.. للمستشفيات ولكل ما هو فلسطيني متواجد على أرض غزة فهو مستهدف". ويشير الشرافي إلى أنه تم خلال الأيام القليلة الفائتة إبلاغ المواطنين بإخلاء عدة مناطق ليجبرهم الاحتلال على النزوح مرة أخرى. ويتم الشرافي حديثه: "أقول لكم إن دماءنا أصبحت كالوديان تسيل بالطرقات.. أنا هنا لا أبالغ.. نعم نحن هنا جميعًا شهداء مع فارق التوقيت فقط". عدوان بلا مقاومة ومن مدينة غزة إلى مخيم جباليا، الواقع شمال قطاع غزة، حيث كان بؤرة صراع كبرى بين جيش الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية، وشهد أعمال قتالية شرسة بين الجانبين، وشنّ الاحتلال خلاله أكثر من عدوان وعمليات برية عسكرية خلال الحرب المشتعلى منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وفي مرحلة ما قبل بدء الهدنة في غزة مع مطلع العام الجاري، لي ويقول أكرم جودة، ناشط سياسي فلسطيني يتواجد في مخيم جباليا، "الوضع هنا صعب.. قصف وإطلاق نار من الدبابات الإسرائيلية"، مضيفًا: "لم نغادر المكان برغم أوامر الإخلاء التي أصدرها الجيش الإسرائيلي للناس". ويردف جودة، ل"بوابة أخبار اليوم"، قائلًا: "شبعنا نزوح و«ما صدقنا نرجع».. والتحرك صعب ومكلف جدًا". ويتحدث جودة عن مأساة يعيشها السكان في شمال غزة نتيجة غياب المواد الغذائية وتعمق أزمة نقص الغذاء، فيقول: "يسود الآن حالة غلاء مرعب، ونحن أقرب إلى مجاعة". وحول مدى وجود أعمال قتالية بين فصائل المقاومة وقوات جيش الاحتلال مثلما كان الوضع سابقًا قبل تطبيق الهدنة، يقول جودة: "لا يوجد مقاومة.. فقط قصف من الاحتلال وقتل وتدمير"، مؤكدًا: "بالشمال هنا لا يوجد سوى قصف الجيش (الإسرائيلي)". كارثة مكتملة الأركان في رفح ومن شمال غزة إلى جنوبها، وتحديدًا في مدينة رفح، التي أصبحت تحت احتلال إسرائيلي كامل، وحوّلها إلى منطقة عمليات عسكرية مغلقة، وفق ما ذكره المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، اليوم الأحد 6 أبريل/ نيسان. وقال المكتب الإعلامي الحكومي، في بيانٍ صادرٍ عنه، حصلت "بوابة أخبار اليوم" على نسخة منه، "محافظة رفح مدينة محاها الاحتلال الإسرائيلي من الخريطة وحوّلها إلى كارثة إنسانية مكتملة الأركان". وقال المكتب الإعلامي الحكومي: "في واحدة من أبشع صور الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي عرفها العصر الحديث، لا تزال محافظة رفح، الواقعة في أقصى جنوب قطاع غزة، ترزح تحت وطأة كارثة إنسانية شاملة ودمار هائل طال كل مناحي الحياة، بفعل الإبادة الجماعية والشاملة التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي الهمجي، الذي لم يرحم بشرًا ولا حجرًا". وأضاف المكتب الإعلامي الحكومي: "لقد حول الاحتلال الإسرائيلي محافظة رفح إلى منطقة عمليات عسكرية مغلقة، عازلًا إياها تمامًا عن باقي محافظات قطاع غزة، ومعتبرًا أنها منطقة حمراء كاملة، وماضيًا في ارتكاب مجازر مروعة بحق المدنيين العزل، ومتسببًا في تدمير ممنهج وشامل للبنية التحتية والمرافق الحيوية والمنازل السكنية، ما يجعل المدينة غير صالحة للحياة". «المجاعة أهلكتنا» وحول ما حدث لأهل رفح في ظل تلك الأوضاع العصيبة، يقول أحمد حجاج الجبالي، أمين سر لجنة رفح الغربية، "إن ما يفعله العدو هو سيطرة كاملة على رفح وهدم ما تبقى هناك". ويضيف الجبالي ل"بوابة أخبار اليوم"، "خرجنا بدون معدات حتى الغطاء أو الفراش «طلعنا بطولنا»، وأصبحنا نحتاج إلى كل شيء من المساعدات". ويتابع قائلًا: "المجاعة أهلكتنا ولا يوجد طحين ولا مأوى، ولا يوجد معنا شيء". وعلى مقربة من رفح وفي خان يونس جنوب قطاع غزة أيضًا، يقص الدكتور أشرف إبراهيم القصاص، الأستاذ بجامعة الأقصى، الواقع الصعب الذي يعيشه السكان هناك، وهو يُتواجد في مواصي خان يونس. ويقول القصاص، ل"بوابة أخبار اليوم"، الأوضاع من حولنا كارثية، وأيام لا تتحملها الجبال"، حسب تعبيره. ويضيف قائلًا: "أصوات انفجارات عنيفة جدًا تحدث باستمرار جنوب القطاع ناتج عن نسف مربعات سكنية في محاور شمال غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة". 1350 شهيدًا وبعد 20 يومًا من عودة العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة، سقط نحو 1350 شهيدًا منذ خرق الاحتلال الإسرائيلي قرار وقف إطلاق النار، وفق ما ذكره المكتب الإعلامي الحكومي في غزة. ومن بين ال1350 شهيدًا، سقط 490 شهيدًا من الأطفال خلال ما اعتبره المكتب الإعلامي الحكومي في غزة "جريمة إبادة صادمة بحق الطفولة وخلال هجمات همجية لجيش الاحتلال الإسرائيلي". وقد كسر عدد شهداء قطاع غزة حاجز ال50 ألف شهيدٍ منذ بدء العدوان والحرب قبل 18 شهرًا، وفق للإحصاءات الرسمية، فيما تُخفي الأرقام الحقيقة أعدادًا أكبر بكثير من ذلك مدفونين تحت الركام في واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية في العصر الحديث.