إذا كان رمضان شهر الصوم والعبادة والقرآن، والإحساس بالفقراء، فإن الكثيرين يتعاملون معه على أنه شهر الطعام، مما يجعل السفرة تمتلئ بالأطباق من كل صنفٍ ولون، لا يؤكل منها إلا القليل، ويتم إلقاء بقية الطعام فى صناديق القمامة.. أطنان من الطعام يتم إهدارها بشكل جنونى فى الوقت الذى يبحث فيه ملايين الأشخاص فى الدول الفقيرة عن الفتات، وهم يعيشون حالاتٍ صعبة من المجاعة، إضافة إلى الأضرار البيئية التى يتسبب فيها هدر الطعام. «الأخبار» فى هذا التحقيق تناقش العلاقة المتناقضة بين استهلاك الطعام وإهداره فى شهر رمضان عبر 22 دولة عربية، يسكنها ما يقرب من 423 مليون مواطن، وأزمة الجوع المزمنة التى يعانى منها سكان غزة. وندعم التحقيق بإحصائياتٍ دولية وتقارير منظمة الأغذية والزراعة (FAO) كما يكشف التحقيق عن ارتفاع نسب الإنفاق الغذائى فى رمضان مقارنة بباقى شهور السنة، مع الأخذ فى الاعتبار آراء الخبراء والمتخصصين لمعرفة أبعاد هذه الظاهرة وكيفية القضاء عليها. اقرأ أيضًا | «البيئة» توضح تأثير العوامل الجوية على جودة الهواء فى الوقت الذى يواجه فيه حوالى ثلث سكان العالم انعدام الأمن الغذائي، ويعانى 783 مليون شخص من الجوع، فإن هناك مليار وجبة من الطعام الصالح للأكل فى المنازل تُهدر يومياً ، حسب مؤشر هدر الطعام لعام 2024 التابع لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة. ووفقًا لتقرير «بصمة هدر الطعام» الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO)، فإن الفرد فى الدول العربية يهدر حوالى 250 كيلوجرامًا من الطعام سنويًا. كما يُظهر التقرير أنه خلال شهر رمضان ترتفع معدلات الهدر، حيث تُسجل زيادة فى استهلاك الطعام غير المُستغل تصل إلى حوالى 55% مقارنة بباقى الشهور؛ إذ يُلقى نحو 52% من استهلاك الغذاء فى سلات المهملات خلال رمضان مقابل 31% فى الأشهر الأخرى. ومن (الفاو) إلى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية فى مصر والذى أكد فى عام 2022، إهدار نحو 1.05 مليار طن من الغذاء عالميًا، أى ما يعادل 132 كجم للفرد سنويًا، منها: 79 كجم على مستوى الأسر.. كما يتم إهدار أكثر من ثلث الأغذية عالميًا، وتُقدر قيمته بنحو 1 تريليون دولار سنويًا. ويؤدى هدر وفقد الطعام إلى 8 -10% من انبعاثات الغازات الدفيئة عالميًا، فى حين يعانى حوالى 783 مليون شخص من الجوع سنويًا، ويموت 150 مليون طفل دون سن الخامسة بسبب سوء التغذية ، كما تبلغ البصمة الكربونية للهدر الغذائى فى مصر نحو 500 كجم من الانبعاثات الكربونية للفرد سنويًا.. أما متوسط حجم الغذاء المهدور للفرد فى مصر حوالى 91 كجم سنويًا.. وخلال فترات الأعياد والمناسبات، يتم هدر ما لا يقل عن 960 ألف طن من الطعام الصالح للأكل. إسراف وتبذير يقول د. أحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر: إنه من المقرر شرعًا أن يكون الاعتدال فى العادات اليومية، خاصة فيما يتعلق بالأكل والشرب وما شابه من الأمور المأمورة شرعًا، إذ أن الله سبحانه وتعالى قد حرّم الإسراف والتبذير، وهو ما يعكس حرص الدين على الحفاظ على النعم الإلهية وعدم الإسراف فيها. ويشير إلى أن التبذير وصف دالُ على الإفراط والتمرد، كما كان الشيطان لربه كفورًا، فى إشارة إلى عاقبة عدم الالتزام بمبادئ الاعتدال. ويستشهد بعادات النبى صلى الله عليه وسلم، حيث كان الصحابة يأكلون ما يعادل ثلث المعدة فقط، وكانوا لا يبيت عندهم طعام لقلة الطعام؛ لأنهم كانوا يرون فى ذلك حفاظًا على نعمة الله التى يجب الاعتزاز بها وعدم تبذيرها. ويرى الدكتور: أن الحديث الشريف الذى يقول: «لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن شبابه وعلمه وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه» يحمل درسًا عظيمًا فى ضرورة الاعتدال، إذ أن النعم-وخاصة الطعام- هى لقِيمات تضمن بها صلب الإنسان، وقد كان السابقون من المسلمين يستشعرون قول الله يومئذ، ويُسألون عن النعيم الذى أنعم الله به عليهم. ويحذر د. أحمد كريمة من التوسع والتأهيل فى الاستكثار فى الأطعمة والأشربة، إذ أن الإفراط لا يقتصر على الإسراف فى النعم الدنيوية فحسب، بل يمتد ليشمل ارتكاب الآثام والخطايا، كما يتجلى فى الأبيات التى يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يمر الهلال ثم الهلال وما أوقدت فى أبيات رسول الله نار»، فى إشارة إلى أن الزيادة المفرطة تؤدى إلى إهدار النعم وإشعال نار العواقب فى الدنيا والآخرة. ويستذكر أيضًا قول عروة رضى الله عنه الذى أفاد بأن الناس فى السابق كانوا يعيشون على «الأسودين: التمر والبناء»، مما يعكس بساطة حياتهم واعتدالهم فى استهلاك الطعام، وهنا يتجلى المبدأ الإسلامى فى الاقتصاد وعدم الإضرار بالنعم التى منحها الله لنا. ويؤكد د. أحمد كريمة على أن الطعام نعمة من الله يجب الحفاظ عليها، وأن الالتزام بمبدأ التوسط والاعتدال هو الطريق الأمثل لاستغلال النعم دون إسراف أو تبذير، لما لهذا الأمر من أثر فى تعزيز الروحانيات والتزام الفرد بمسئولياته أمام الله يوم القيامة. تغيير العادات ومن جانبه يؤكد د. مجدى نزيه استشارى الإعلام والتثقيف الغذائي: أن «هدر الطعام فى رمضان ليس مجرد إهدار لمادة غذائية، بل هو خسارة قومية تؤثر على موارد الدولة وأمنها الغذائي.» وأضاف: «تُقدر الإحصائيات بأن ثلث الطعام المُجهز يُلقى فى سلات المهملات خلال هذا الشهر المبارك، فى وقت ينام فيه أكثر من 800 مليون شخص حول العالم جائعين.». ويقول: «كمية الطعام المهدور على مستوى العالم تصل إلى 1.3 مليار طن سنويًا، مما يُترجم إلى خسائر مالية تزيد على 900 مليار دولار؛ وهذه الكمية تكفى لإطعام نحو مليارى شخص» كما أشار إلى أن «الإسراف فى إنتاج الطعام الذى لا يُستهلك يؤدى إلى استنزاف موارد طبيعية هائلة؛ إذ يُستهلك فى عملية إنتاجه تريليونات اللترات من المياه وكميات ضخمة من الطاقة.» وفى حديثه، شدد د. نزيه على ضرورة تغيير العادات الاستهلاكية قائلاً: «رمضان ليس مناسبة للإسراف، بل هو فرصة لتبنى سلوكيات استهلاكية مسئولة تتماشى مع القيم الروحانية. الغذاء نعمة، واللقمة التى نُهدرها اليوم قد نحتاجها غدًا.» وأضاف: «علينا أن نعمل على ترشيد استهلاكنا وإعادة التفكير فى كيفية إعداد الطعام وتوزيعه، حفاظًا على مواردنا ومجتمعنا وبيئتنا.» مغالاة فى الاستهلاك وأوضح د. يسرى طاحون الخبير الاقتصادي: أن «سلوك القطعة غير متوافر، والثقافة اللازمة لإرساء عادات الترشيد غير موجودة فى معظم البيوت المصرية.» وأضاف: «أن القدوة القوية فى تغيير فلسفة المجتمع هى الأساس؛ فاستقرار الأسعار فى الأسواق يساهم فى تقليل المغالاة فى الاستهلاك، مما يساعد فى الحد من الإسراف.» وأوضح د. يسرى طاحون: أن «تفعيل التنسيق بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص يُعد خطوة محورية لتطبيق نظام اجتماعى كامل، يتضمن فرض ضريبة قيمة مضافة على السلع الاستفزازية كآلية للحد من الهدر.» كما شدد على ضرورة «تعزيز الأمن الغذائي» عبر تقليص الإهدار والإسراف، فهذه الإجراءات ليست اقتصادية بحتة، بل تمثل حجر الأساس لتحقيق استدامة الموارد الوطنية.. كما حذر طاحون من الانسياق وراء العروض التى تحفزك على شراء كمياتٍ أكبر من المنتجات التى تفوق احتياجاتك.» ثقافة الخير وأشارت د. هالة منصور أستاذ علم الاجتماع إلى أن «شغف الناس بالإسراف خلال شهر رمضان يعكس نقص الوعى الدينى الحقيقى بمفهوم الشهر العظيم.» وأوضحت: «فلسفة الصيام، التى كانت فيما مضى تمثل أساساً لاحتساب النفوس، بدأت تتلاشى تدريجياً، مما يستدعى حملة توعية شاملة من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية.» وأضافت: «يجب علينا إدارة مصروفاتنا بشكل جيد وتعزيز ثقافة الخير فى رمضان؛ فالكل بيساعد ولكن السؤال الحقيقى هو: انت بتساعد مين؟» كما لفتت النظر إلى أن «الناس غالباً ما تُقدم يد المساعدة دون إدراك كامل لفلسفة الخير الحقيقية، مما يخلق تدخلاً فجاً فى الذوق العام ومحاولة تقليد التريندات الغريبة فى الأكل.» وأكدت د. هالة منصور على ضرورة إعادة إحياء الوعى الاجتماعى والدينى لإرساء قيم الاعتدال والإحسان فى شهر رمضان، مع الدعوة إلى دعم المبادرات التى تروج لثقافة الترشيد والإنفاق الواعي، بما يخدم الأمن الغذائى والاقتصادى للمجتمع. قيم الاعتدال وأكد اللواء ممدوح شعبان رئيس جمعية الأورمان: أن الجمعية تعمل بجد لإطعام البسطاء والمحتاجين فى مصر، حيث نقوم بتوفير المواد الغذائية من 750 ألف إلى مليون كرتونة فى كل قرية وشبر فى مصر، ونرافق ذلك بتوزيع اللحوم مع هذه الكراتين. وأضاف قائلاً: «نحن بنحب نعمل إطعام المواد الغذائية لتخفيف معاناة المحتاجين، لكننا رفضنا إقامة موائد رحمن وركزنا على توزيع الوجبات ضمن المشاريع القومية.» وأشار اللواء شعبان إلى أنه يجب «ناكل على قد الإيد» وأن الإنسان قادر على تناول ما يحتاجه دون إسراف، مؤكدًا أنه حتى فى المناسبات والعزومات يجب التقليل والاقتصاد فى الاستهلاك، لأن الإسراف يُعد من العوامل التى تساهم فى تفاقم المشاكل الغذائية والاقتصادية. كما نبه إلى أن المقارنات على وسائل التواصل الاجتماعى جعلت الناس تعتمد ثقافة المنظرة والفشخرة، مما أدى إلى تغيير نمط الاستهلاك نحو الإفراط والتبذير. ودعا إلى ضرورة استعادة قيم الاعتدال والاقتصاد فى الطعام، قائلاً: «كلنا لازم نقتصد ونأكل بقدر الإمكان، لأن تقدير النعم يبدأ من تقدير الأكل نفسه.». وأكد اللواء ممدوح شعبان أن إعادة ترسيخ الثقافة الغذائية القائمة على القيم الأصيلة والإدراك الواقعى لحاجاتنا، سيُحدث فارقاً كبيراً فى مكافحة الإسراف وتعزيز الأمن الغذائى فى مصر. مشكلة أخرى أوضح د. عبد المسيح سمعان، أستاذ الدراسات البيئية بجامعة عين شمس: أن المشكلة تتجاوز مجرد هدر الطعام، لتشمل الآثار الاجتماعية والبيئية والاقتصادية الناجمة عن هذا الإسراف. ففى حين يُنتج طعامٌ لا يُستهلك، فإن التخلص منه يزيد من كمية النفايات، ويُستهلك منه موارد هائلة من المياه والطاقة فى إنتاجه، كما أن تحلله فى مكبات النفايات يؤدى إلى انبعاث غازات ضارة مثل: الميثان، مما يسهم فى تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري. وأشار د. سمعان إلى أن معدلات الفاقد الغذائى فى مصر فى تزايد مستمر، وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، حيث يبلغ متوسط الهدر الغذائى للفرد حوالى 91 كيلوجرامًا سنويًا،. وأضاف: أن التقارير تشير إلى هدر نحو 50% من الخضراوات والفواكه، و40% من الأسماك، و30% من الحليب والقمح سنويًا.