فى السياسة، كما فى التاريخ، ليست كل دعوة للإفطار تحمل فى طياتها دعوة للسلام، وليست كل كلمات المديح تُترجم إلى مواقف عادلة أو نوايا صادقة إفطار دونالد ترامب الذى جمع فيه «أصدقاءه المسلمين» فى ميشيغان، كان مناسبة لتمرير خطاب سياسى ناعم، لكنه مشحون بحسابات انتخابية صلبة خطاب قد يُغلف بلغة الحب والاحترام، لكنه يفتقر إلى جوهر الالتزام الأخلاقى والسياسي، خاصة فى منطقة مشتعلة كمنطقة الشرق الأوسط، حيث الكلمة التى لا تُترجم إلى فعل تُصبح عبئًا إضافيًا على الضحية هكذا كان مشهد الإفطار الرمضانى والذى قال فيه: «لديكم رئيس يحبكم فى البيت الأبيض». العبارة تبدو ناعمة، مطمئنة، لكنها حين تُسحب من لحنها الانفعالى وتُقرأ بعيون التحليل، تكشف عن تركيبة سياسية لا تنتمى إلى منطق المصالحة، بل إلى حسابات القاعدة الانتخابية، وتوظيف الدين والهوية فى صناديق الاقتراع ليست هذه المرة الأولى التى يُتقن فيها ترامب اللعب على التناقضات، لكن الفارق هنا أنه اختار مائدة الإفطار ليُمرر مشهده، فى لحظة تاريخية مشتعلة، حيث الدم لم يجف بعد فى غزة، والاستقرار الإقليمى على المحك ينزف على وقع الحروب والتصدعات. فهل نحن أمام رئيس يسعى للسلام؟ أم أمام مرشح يهيئ الأرضية لصناديق الاقتراع بلغة التسامح المغلفة بدهاء انتخابي؟ وهل مائدة الإفطار كانت لحظة مصالحة رمزية حقيقية أم مجرد مكافأة بروتوكولية لأولئك الذين أسهموا فى إعادته إلى دائرة الضوء السياسي؟ لغة السلام على الطريقة الترامبية: تسويق لا مسار حين يتحدث ترامب عن السلام، فهو لا يتحدث بلغة رجل مدرك تعقيدات الجغرافيا السياسية، بل بلغة الصفقة الذى يرى السلام من هذه الزاوية فقط وفى الصراع فرصة للضغط والمساومة، هل «سلام ترامب» نابع من إيمان بحقوق الشعوب، أم من قناعة بأن الاستقرار هو أداة لتعزيز النفوذ الأمريكى وتأمين مصالحه المباشرة، سواء الاقتصادية أو الاستراتيجية، هذا هو السؤال الذى يفرض نفسه على كل أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة؟! فترامب الذى يفاخر بالسعى نحو اتفاقات «السلام الإبراهيمي»، ويراها إنجازًا تاريخيًا لأنه أقامها على تطبيع العلاقات دون معالجة جوهر الصراع الفلسطينى الإسرائيلي، هو يرى فى هذه الاتفاقات نهاية لصراع، بينما هى عمليًا تجاهل لجذوره، وتجاوز عن آلام الفلسطينيين، بل ومكافأة لسياسات القمع والتوسع الاستيطانى فهل هذا هو السلام الذى يريد الترويج له؟ سلام لا يطلب من إسرائيل أى تنازل، ولا يعترف للفلسطينيين بأى حق؟ سلام يُدار من أعلى، دون حوار أو مشاركة حقيقية؟ هل يملك ترامب مسارًا متكاملًا للسلام، أم يملك أدوات لإدارته كملف لا كقضية هو رجل يفهم التفاوض كمعركة شدّ حبال، لا كحوار ولهذا، لم يطرح أى تصور لمعالجة جوهر الصراعات فى الشرق الأوسط: لا مبادرة سياسية متماسكة بشأن فلسطين، ولا تصور لحل فى سوريا، ولا مراجعة لدور بلاده فى صراعات اليمن وليبيا والسودان. إن كانت هذه هى رؤيته للسلام، فإنها رؤية ناقصة، مقلقة، بل وخطيرة فى تداعياتها، لأنها تُعيد إنتاج الاستبداد بدلًا من إنهائه، وتؤجج الصراع لا تئده، وتُرسخ اللامساواة بدلًا من إزالتها. مائدة الإفطار: لحظة رمزية أم رسالة انتخابية؟ فى خطابه، شكر ترامب مئات الآلاف من المسلمين الأمريكيين الذين صوتوا له، وخص بالشكر مسعد بولس، مستشاره وصهره، بدا الأمر وكأنه حفل شكر انتخابى بغطاء وطقوس رمضانية لم يأتِ على ذكر غزة، رغم أن الدم كان لا يزال طازجًا على أرصفة القطاع، ولم يتطرق إلى العدوان المتواصل أو إلى حقوق الإنسان، أو حتى إلى الجرائم التى توثقها يوميًا منظمات دولية، وهنا نتساءل من جديد فأى نوع من الحب هذا الذى لا يرى الألم؟ وهل من الشجاعة ألا نسمى المأساة باسمها؟ ترامب لم يُخاطب المسلمين من موقع المسؤولية العالمية، بل من موقع الحساب الانتخابى الدقيق أراد أن يُعيد رسم صورته أمام جمهور متنوع، خصوصًا بعد سلسلة طويلة من التصريحات التى حملت فى طياتها تلميحات عدائية، إن لم تكن صريحة تجاه المسلمين، الإفطار هنا لم يكن جسراً للسلام، بل وسيلة لتحسين الصورة فى مرآة الرأى العام الأمريكى. هل يريد ترامب السلام؟ وهل يملك أدواته؟ السلام لا يتحقق بإلقاء التمنيات ولا عبر حفلات بروتوكولية، بل بوضع سياسات جادة تضع حدًا للاحتلال، وتنهى دعم الأنظمة القمعية، وتمنح الشعوب حق تقرير مصيرها لكنه حتى اللحظة لا يبدو أننا لم نصل لهذه الدرجة من الفهم والقناعة لمعادلات حسابية محسومة ومفهومة ولا تحتاج كثير شرح أو تفصيل فهل مقاربة السلام تقوم على العدالة أم على القوة، على المساواة أم على الترتيبات الأحادية؟! السلام الحقيقي، خصوصًا فى الشرق الأوسط، لا يمكن أن يُبنى عبر تحالفات نخبوية بل عبر معالجة الجراح التاريخية التى خلفها الاستعمار والاحتلال والدكتاتورية. ترامب لم يطرح خطة واضحة لأى من ملفات الشرق الأوسط الكبرى. لا فى سوريا، حيث الموت يتجدد يوميًا، ولا فى اليمن، حيث الكارثة الإنسانية الأعنف فى القرن، ولا فى لبنان، ولا فى السودان، ولا حتى فى ليبيا كل ما طرحه هو رؤى جزئية، تغلب عليها المصلحة الامريكية المباشرة، دون أى إحساس بالمسؤولية الأخلاقية تجاه المنطقة وشعوبها. سلام ترامب... من أجل من؟ علينا أن نسأل: سلام ترامب يخدم من؟ إن لم يكن يخدم الشعوب، ولا يضع حدًا للحروب، ولا ينهى الاحتلال، ولا يعالج جذور الصراعات، فهل يمكن أن نعتبره سلامًا؟ أم هو إعادة ترتيب المشهد بما يخدم استمرار الهيمنة الأمريكية؟ السلام الذى لا يُكافئ الضحية، بل يساويها بالجاني، هو سلام زائف والسلام الذى يُحتفى به فى مأدبة إفطار، بينما تُقصف البيوت فى غزة وتُجرف أراضى الضفة، هو سلام منقوص. ليس السلام ما يُقال بل ما يُفعل. سلام ترامب، كما ظهر فى خطاب الإفطار، ليس دعوة مفتوحة لحوار حضاري، بل أقرب إلى حملة انتخابية مغلفة بجو رمضانى فإن كان ترامب يريد أن يُحسب يومًا ك «رجل السلام»، فالأمر لا يتحقق بالتقاط الصور ولا بإلقاء التحيات بل يبدأ بالاعتراف، بالاعتذار، وبالشجاعة فى مواجهة منظومة الظلم الدولى، لا بإدارتها بشكل أكثر احترافًا. الشرق الأوسط لا يحتاج إلى مزيد من الصفقات، بل إلى من يُنصت إلى أنينه. وإفطار ترامب، رغم ما حمله من رسائل ناعمة، لم يكن سوى وجبة سياسية باردة، بلا طعم حقيقى للسلام.