لماذا الجنة؟ ليس ثمة سبب محدد بل عشرات من الأسباب، وعلى عكس ما قد يبدو من أنه لجوء إلى الغيبى، فإن استدعاء فكرة الجنة هنا يرتبط بالواقع بشكل أعمق من ارتباطه بالميتافيزيقى أو الدينى، لا بد ستكون هناك تقاطعات معهما ومع مجالات أخرى، ذلك أن الجنة، أو الفردوس، أو النعيم الأبدى، أو أيًا من أسمائها، لها عشرات التصورات والتفسيرات فى الأديان والفلسفات والفنون، والفكرة على الرغم من قدمها التاريخي فإنها لم تفقد قط قدرتها على أن تظل محركًا للسعى البشرى سواء بالأمل فى أن تكون مستقره الأخير أو بالمناهضة لعقيدة الانتظار والإيمان بأنه يمكن تحقيق الجنة على الأرض، أو حتى تأثرًا بعدم الإيمان بها كليًا واختيار العدم كنمط تفكير مضاد. ومع أن الجنة كمرادف للسعادة والراحة حلم دائم لا ينقطع عن المخيلة الفردية والجمعية إلا أنها لا تحضر سوى بضدها النار، فهما معًا يكونان معادلة مصممة ليتوازن الوجود بين طرفيها اللذين يجسدان في المعنى العام الخير والشر، معادلة تأسست عليها منظومة التصرفات الإنسانية، ما يجب وما لا يجب، الخطأ والصح، الحلال والحرام. لكن هذا الوضوح الكامل للمعادلة يغرى أيضًا بالتمرد عليها باعتبارها أقرب لتصورات طفولية لم تنضج بحيث ترى ما عليه الكون من تعقيدات تتجاوز التقسيم إلى فئتين، وفي أحوال أخرى تختل النظرة إلى المعادلة بتغليب أحد طرفيها لتهيمن على مقادير الحياة كماجرى على سبيل المثال قبل ثلاثة عقود تقريبًا عبر ظاهرة ما يسمى بشرائط العذاب تلك التى كان الشيوخ يتفنون فيها فى تفصيل أنواع وأشكال من العذاب سواء فى القبر أم فيما بعد الحساب، شرائط دعايتها على الواجهة وعظ الناس وحثهم على الالتزام بدينهم، لكن الأعمق محاولة لقيادة المجتمع بأكمله إلى تفكير يائس منقاد لمن يخيفه. ذيوع ظاهرة شرائط العذاب كان في جوهره ترجمة لنمط عام اختل لديه التوازن بين ثنائيتى الجنة والنار، الرحمة والعذاب، البشارة والإنذار، وكأن المجتمع فى انسياقه لظاهرة كتلك يصنع جحيمه الخاص بتعطيل الصفات المرادفة ل الجنة وتفعيل التفكير العقابى وفق ظن خاطئ بأنه نهج المناسب لمعالجة الأمور، وأن البكاء خوفًا طريق ملائم للتطهر. هل يمكن ل الجنة أن تتحقق على الأرض؟ أهو حقيقي أنه لا بد من تمثل صفاتها كشرط لمعرفة طرقها، يمكن تصور ذلك من خلال نصوص قرآنية تدعو لتخيلها ليس فقط من الناحية الحسية صاحبة الذيوع الأكبر،فذلك لابد ستعوقه حدود تفرضها محدودية قدراتنا الحسية في مقابل اتساع الصورة التى يمكن للعقل تمديدها باستمرار، ومع أن القطع بأن «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وفق الحديث، يوحى ظاهريًا بغلق باب التصورات عن الجنة لأنه حسم ببعدها عن أي تخيل مهما كانت حدته وصفاؤه، إلا أن الخطاب فى جوهره يحث على التفكير فيها بوعد دائم بأن «لهم فيها ما يشاؤون ولدينا مزيد» (ق: 35)، هذه الوعود فى الإسلام يقابلها قدر مماثل من الوعود الكريمة فى التصورات المختلفة وهو ما أرسى قاعدة أن تناول الجنة أمر خاضع بشكل أساسى للخيال، فحتى مع وجود أشكال تفصيلية عنها وفق ما تأسس من الدين والفلسفة، فإن إطارها الرئيسى كمعجزة تتحدى العقل أشعل رغبات البشر في رسم ملامحها المادية والنفسية وفق رغبات أو رؤى وأحلام أو حتى هلاوس. الخيال غالب على النصوص البشرية التى تشيد تفاصيل الإقامة في الجنة والنار، لكن من بين التصورات الشائعة المغرقة فى الخيال هناك التى تتعامل مع الجنة بصورة واقعية،نظرة براجماتية تنتفي بها أطروحة الارتقاء الروحى،ويقوم التعامل مع الجنة بالشكل المادى المباشر، بوصفه انتقالة إلى مكان آخر يحتاج إلى فهم القواعد المنظمة له لتبين كيف ستسير الحياة هناك. تكشف الأسئلة الموجهة إلى الشيوخ من طالبى الفتاوى بشكل عام عن تفكير الناس فيما يشغلهم ويؤرق بالهم ويبحثون عن إجابات له خلاصًا من هموم وإحساس بالذنب، لكنه فى موضوع الجنة تحديدًا يكشف عن انشغالات المستقبل والمصير النهائى، فإذا كانت الغالبية تنتظر الفردوس باعتباره نهاية التكاليف والأعباء فإن آخرين لا يملكون اليقين ذاته.. على موقع «إسلام ويب» يسأل أحدهم: هل يعمل أهل الجنة فى الجنة؟ وهل فى الجنة عبادة؟ العمل أحد الأسئلة الأساسية التى تلفت النظر فى طريقة تفكير الناس فى الجنة، من غير المتصور لنا كبشر البقاء من دون فعل، العمل ما صنع وجودنا وعليه فكيف نبقى إلى ما لا نهاية بلا انشغال ما نتحقق من خلاله ويتميز به أحدنا على الآخر. يحاول الشيوخ تقديم الإجابات عن الأسئلة وفق النص الدينى والمراجع المعترف بها، لكن السائلين لا ينتبهون كثيرًا إلى أنعلم الشيوخ لا ينفى حقيقة أن الجنة محجوبة عنهم بالقدر نفسه، لهذا كان اهتمامى الأكبر منصبًا على الاستفسارات، لأنها تمنحنا وجهة نظر مغايرة عن الفردوس، ينطلق أصحابها من يقين بأنهم على موعد مع الجنة، وأن أمانيهم لا تزيد عن استعادة ما فاتهم في الدنيا، تسأل امرأة: أحببت شخصا، وكان حبا صادقا، وكان هادفا للزواج، وتوفى هذا الشخص منذ فترة طويلة. حاولت أن أنساه وأكمل حياتى، ولم أستطع أن أنساه مع محاولاتيى، ونتزوج في الجنة؟ من يمكنه مهما بلغ به العلم أن يجيب عن سؤال كهذا سوى صاحبة السؤال نفسه،بخيالها الذى يمكنه أن يقودها لصناعة عالم بديل لما فقدته، مع الاحتمالية القائمة بالطبع فى أن تضللها التخيلات لتبعدها عن واقعها فتخسر العالمين. غير أن الجنة ليست فى كل الأحوال أمرًا يتعلق بالمستقبل والغيبى بل أنها أيضًا لها صلة قوية بالواقع، ويمكن القول بأن الخيال المقنن عنها يفيد في إصلاح أوضاع الدنيا،هذا ما نستنتجه من قصة هذا الرجل وزوجته عبر سؤاله: أحيانا لا تريد زوجتى الجماع بسبب تعبها فى تربية الأولاد، وأنا أكون حزينا، ولا أغضب عليها، وحين لا تريد الجماع أفكر كثيرا فى أحوال الحور العين، وأسأل الله كثيرا أن يدخلنى وزوجتى الجنة، وترضى زوجتى بعدد الحور العين التى أعدهن الله للمسلمين فيها؛ لأنني أصبر على زوجتى حول عدد الجماع فى الأسبوع مرتين، تقول لي زوجتى إنها تدعو الله لكى يعطينى عددا من الحور العين في الجنة. وحتى الآن ما زلت أتفكر فى الحور العين، كلما لا تستطيع زوجتى الجماع، وأقوم بصلاة الجماعة، وحفظ القرآن، والصدقة. هل تفكيرى فى الحور العين يجوز؟ يلجأ الزوج إلى خيال الجنة ليعينه على حياته وليس ذلك فقط بل إن زوجته تتشارك معه خياله بهدف واضح وهو الإبقاء على حياة يتحقق استقرارها بحلول الحور العين من مجالهن الخيالي ليكتسبن وجودًا أرضيًا بين جنبات البيت، ليس ثمة مجال للحديث عن غيرة زوجية هنا، لكن ما يتبادر إلى الذهن أن السؤال الذى أشرك فيه الرجل زوجته لا يتضمن طموحها الشخصى في الجنة بعيدًا عن رغباته! ومع أنه لا وسيلة لنعرف فيمَ تفكر حقًا المرأة التى تحدث الزوج باسمها لكن صمتها تعوضه أصوات نساء أخريات يفصحن عما يدور فى خيالهن ويتساءلن عن حظهن فى الجنة خاصة من الناحية التى أشار لها الزوج.. الملذات الجسدية. تقول إحداهن بعد تأكيدها أنها راضية بما قسم الله لها أنها إذا دخلت الجنة ستطلب من الله أن يجعلها رجلًا، فهى تعلم أن الله فضّله، وهى تريد أن تكون ممن فضّله الله فى الجنة.وتسأل هل يعتبر هذا عدم رضا بقضاء الله؟ وهل يجوز أن تطلب غير ما قُدِّرَ لها؟ نحن لا نعرف على وجه اليقين على أى صورة سيكون أهل الجنة.. أرجال ونساء كما فى الأرض؟ أم الإنسان الكامل، أم سنكون محض ضوء كما فى تصورات روحانية؟ هل يمكن أن يتحقق طلب هذه الفتاة بأن تكون رجلًا أم أنه وكما جاء فىالرد على سؤالها فإن عليها أن تقنع بأنه في حال دخولها الجنة سترضى بما ستكون عليه فلن تكون المرأة ذاتها التى كانت عليها فى الدنيا. الأسئلة عن الجنة لا تتوقف مع كثرة الإجابات، ذلك أننا نراها بمنظورنا الأرضى، تتجسد عبر مشاكلنا وإحباطاتنا، عبر ما نراه من تمييز وظلم وتفرقة. تسأل إحدى الفتيات بجرأة: أنا فتاة، وأود السؤال عن الحور العين. إن كانت الحور العين هن جزاء الرجال المؤمنين في الجنة، ما هو مقابل ذلك من النعيم الخاص بالنساء فقط؟ أشعر بالظلم أن المرأة تطيع زوجها، وتجتهد، وتتحجب، وتلد، وتربى، وتكون أمنيتها أن لا يرى زوجها غيرها فى الدنيا، وهو يمكنه الزواج عليها متى شاء. ألا يكون الأجدر بذلك أن أمنيتها تتحقق فى الجنة، ويكون زوجها لها وحدها؟ لماذا لم يرد نص قرآنى في نعيم خاص للنساء كما جاء للرجال؟ هل جميع الرجال فى الجنة لهم حور عين بلا استثناء؟ هل إذا دعوت الله أن أكون الزوجة الوحيدة لزوجى فى الجنة هل يستجيب لى؟ إذا كان الله سينزع الغيرة من قلب المرأة، لِمَ لم ينتزع حب النساء من قلب الرجل؟ أم إنه تنزع الغيرةمن قلبى، ويبقى الرجل لطبيعته؟ بمعنى آخر كل شىء لإرضائه؟ سؤال الفتاة الذى انقسم لعشرات الأسئلة يتردد بصيغ متعددة من نساء أخريات، والإجابات على تعددها وسعيها للإقناع تبقى ناقصة وغير شافية، وحتى الجملة الحكيمة المتكررة في الإجابات بأنه من الأولى السعى إلى الجنة لا التفكير فيما فيها، لا تؤتى مفعولًا حاسمًا، مع أن المنطق يرى أنه من الكافى عند استحضار صور العذاب الرضا بالبعد عنه بأى صورة، لكن الناس لا يملكون التوقف عن التطلع والحلم، النساء والرجال على السواء، فهذا أحدهم يسأل: هل كل ما يملكه الشخص من أشياء هنا فى الدنيا، كأولاد وممتلكات، ستكون معه هناك فى الجنة؟ هذا تفكير ذكورى بامتياز مهتم بالتفاصيل الدقيقة، مشغول بترتيب الأمور على النحو الصحيح، عند السفر تكون مسؤوليته التأكد أن لا شىء تم نسيانه، وعليه فإنه مشغول عند الانتقال إلى الجنة بمسألة حزم الأمتعة والتأكد من عدم نسيان شىء على الأرض قبل المغادرة. من ضمن الأسئلة نجد من يشغله كيفية التنقل داخل الجنة: هل فى الجنة مطار وطائرات؟ وفى الإجابة عليه من الشيوخ نقرأ تفاصيل عمن سيملكون القدرة على الطيران، ومن سيكون لهم جياد طائرة يتنقلون بها. ولا تتوقف التفاصيل المطلوب تقديم فتوى عنها عند حد، أحدهم يسأل: هل هناك نعيم في الجنة كالمجد أو النصر، أعنى بذلك، إذا كان شخص يحب شيئاً ما مثل بطولة لكرة القدم، وهذا الشخص لطالما يحلم أن يكون هو من يسجل هدف الفوز لفريقه في كأس العالم، فكيف يمكن لكل من الهواية والمجد أو النصر أن يكون فى الجنة؟ مثير للتأمل كيف أن الناس لا يرون الوصول إلى الجنة مكسبًا فى حد ذاته، لا بد طوال الوقت من أمر إضافى، فهل يعود هذا للكرم الإلهى فى وصفها، أم فى خيالنا البشرى الذى لا يهدأ عن مطاردة المجهول!