بلا شك التنمر، جريمة أخلاقية تتنافى مع كل القيم الدينية والإنسانية؛ يمارس مرتكبوها أقصى أنواع القهر والإذلال ضد ضحاياهم، والأكثر خطورة في هذه الجريمة أن معظم مرتكبيها لا يدركون خطورة هذه الجريمة وتأثيرها النفسي على ضحاياهم؛ والذي قد يصل في بعض الأحيان إلى القتل.. فالتأثير النفسي لهذا السلوك المعيب قد يؤدي إلى الموت سريعًا عن طريق الانتحار في بعض الحالات أو ببطء عن طريق الاكتئاب والعزلة التي تصيب ضحاياهم بسبب كلمات مسمومة تتعلق باللون أو الجنس أو الشكل أو المستوى المادي والاجتماعي وكلها في النهاية تتحول إلى خناجر مسمومة تصيب الضحية بلا رحمة، وكما قال الكاتب الكبير الراحل عبد الرحمن الشرقاوي في رائعته الحسين ثائرًا: «الكلمة نور وبعض الكلمات قبور».. ودائمًا وابدًا كانت «أخبار الحوادث» سباقة في تسليط الضوء على هذه الجريمة الأخلاقية وتناولنا الكثير من الوقائع على صفحاتنا وحذرنا فيها من التأثير الاجتماعي والإنساني الخطير على نفسية ضحايا التنمر، وسوف تواصل أخبار الحوادث حربها ضد التنمر بلا توقف وسنستمر في أداء رسالتنا الإنسانية قبل الإعلامية حتى يدرك الجميع فداحة هذه الجريمة. التنمر ليس وليد اللحظة، بل منتشرا منذ قديم الأذل وكان يمارسه البعض دون أن يعرفوا اسمه، وكانت الكلمة الأقرب للتنمر هي العنصرية، أما بالنسبة لظهور مصطلح "التنمر" ، فظهر لأول مرة في الدراسات النفسية والاجتماعية في القرن التاسع عشر، لكنه لم يكن يستخدم بالشكل الشائع اليوم، وكان أول من استخدم المصطلح في سياق أكاديمي هو الباحث النرويجي دان أولفيوس في سبعينيات القرن العشرين؛ حيث أجرى دراسات حول العنف المدرسي وتأثيراته النفسية على الأطفال والمراهقين. لكن على المستوى العام، بدأ مصطلح "التنمر" ينتشر بشكل واسع في أوائل القرن الحادي والعشرين مع تصاعد الاهتمام بالعنف المدرسي والتنمر الإلكتروني، خاصة مع انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. واخذت ظاهرة التنمر تنتشر بشكل مرعب، وراح ضحيتها عشرات الأشخاص؛ سنعرض بعض الوقائع كما تناولناها في أخبار الحوادث.. في عدد أخبار الحوادث رقم 1614، الصادر بتاريخ 2/3/2023م، كتبنا عن وفاة طفلة صغيرة في ريعان شبابها عندما سمعت كلمات كانت بمثابة الرصاص أصابتها بالحزن الشديد حتى توفيت بأزمة قلبية، كانت رودينا أسامة، الطالبة بالصف الأول الثانوي في مدرستها بحي الهرم في محافظة الجيزة، عندما تعمد مجموعة من زميلاتها مضايقتها عن طريق كتابة أسمائهن على «الديسك» الخاص بها، ولاحقًا، عايّرتها إحداهن قائلة «انت مستحملة شكلك عامل إزاي؟» لتكون تلك الكلمات الساخرة مثل طلقات الرصاص، في ذلك اليوم غادرت رودينا المدرسة وهي في حالة نفسية سيئة، وعندما وصلت إلى البيت حكت لشقيقتها باكية تفاصيل ما دار معها، وسألتها: هو أنا فعلا شكلي وحش؟، حاولت شقيقتها تهدئتها ووعدتها بأنها ستتقدم بشكوى ضد زميلتها لإدارة المدرسة، لكن سقطت رودينا مغشيًا عليها، وفارقت الحياة بسبب كلمات زميلتها المسمومة، وزادت المطالبات بعدها باتخاذ إجراءات قانونية سريعة ومغلظة ضد المتنمرين بالإضافة لضرورة القيام بمبادرات اجتماعية وهى الأهم لحل تلك الظاهرة التي تهدد الأمن والاستقرار في مجتمعنا. ولم تتوقف حملاتنا ضد هذه الجريمة؛ ففي العدد رقم 1630، الصادر بتاريخ 22/6/2023؛ نشرنا موضوعًا بعنوان «في المرج.. قتل صديقه لأنه سخر من طريقة كلامه، فالقاتل هنا اعترف في أقواله أمام النيابة بأنه قتل صديق عمره بسبب تنمر المجني عليه على طريقة نطقه للحروف وتعلثمه في بعض الكلمات، وهو الأمر الذي أحرجه واغضبه خاصة أنه حدث أمام جميع من كانوا في الفرح الذي ذهبا إليه معًا، ليطارده ويقتله باستخدام موس حلاقة كان معه ثم يخفي جثته أعلى العقار الذي يقيمان فيه بالمرج. حياة انتهت وأخرى في طريقها لنهاية مؤسفة سواء حكم عليه بالإعدام أو حتى بالسجن المؤبد، تلك هى ملخص تلك الجريمة التي قد يقول البعض أنها حدثت كثيرًا وما حدث ليس مبررًا لارتكاب الجريمة لكنها بالتأكيد أحد تلك المؤثرات التي دفعت شابًا في مقتبل عمره لقتل صديقه وفقا لأقوال الشهود بطريقة انفعالية شرسة لم تكن من صفاته، لذلك بالتأكيد الأمر يحتاج لدراسة معمقة لكيفية تأثير الكلمة السيئة والتنمر على طبيعة الأشخاص. وفي العدد رقم 1673، الصادر بتاريخ 18/4/2024م، نشرنا موضوعًا عن التنمر، لكن هذه المرة بصورة أبشع، وهو التنمر على «ذوي الهمم»، لم يرحموا دموعهم وتوسلاتهم، فتنمروا واعتدوا عليهم بصورة بشعة مستغلين أنهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، متخيلين أن ضحاياهم لن يجدوا من يدافع عنهم لكن أفكارهم كانت خاطئة واستطاعت العدالة أن تأخذ مجراها في النهاية.. محمد شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة يعيش مع اسرته في إحدى قرى مركز قويسنا بمحافظة المنوفية، حياته عبارة عن مأساة بكل معنى الكلمة، وبسبب ظروف إعاقته التي ليس له دخلا فيها تعرض للتنمر والمضايقات الدائمة من قبل مراهقين وشباب من قريته، كان الأمر بالنسبة له جحيمًا فكلما يكبر في السن تزداد الإساءة إليه ولم يقف معه إلا أفراد أسرته الذين كانوا دائما يدافعون عنه إذا ما حاول أحد أن يتنمر به وزاد الأمر بصورة كبيرة في الفترة الأخيرة؛ أثناء عودته من المدرسة شاهده شابان من قريته اللذان كانا يتنمران عليه كلما شاهداه ولكن هذه المرة لم تكن كسابق المرات فلم يتنمرا عليه بالقول كما كانا يفعلان بل اعتديا عليه وهما يضحكان بسخرية منه ويتلفظان بألفاظ نابية. حاول محمد أن يهرب منهما لكنه لم يستطع أن يفعل شيئا فاستسلم لمصيره في حزن وألم، اخذاه حتى وصلا لحوض ري أجبراه على خلع ملابسه وانزلاه داخل الحوض وهو عارٍ ليبدأ أحدهما تصويره ببث مباشر على الفيس بوك مع أصواتهما وهما يتنمران عليه بعد ذلك طلب أحدهما من الآخر أن ينزل مع محمد في حوض الري ليستحم معه. اقرأ أيضا: مصر.. تجربة رائدة في مواجهة ظاهرة «التنمر» استمرا في تصوير محمد بعض الوقت قبل أن يتركاه ويرحلان عن المكان بعد أن نشرا الفيديو الخاص بالواقعة على الجروبات الخاصة بالقرية على الواتساب وعلى صفحتهما على الفيس بوك، عاد محمد لمنزله وهو في حالة نفسية سيئة نتيجة ما تعرض له، وفي المساء عاد شقيقه الأكبر للمنزل، حاول أن يعرف ما جرى لشقيقه الذي ازدادت حالته النفسية سوءًا إلى حد الانهيار والبكاء، وبعدما شاهد شقيقه الفيديو المسيئ تملكه الغضب، وقرر الذهاب لقسم الشرطة لكي يبلغ عن الإساءة البالغة التي تعرض لها شقيقه، في قسم الشرطة تم التعامل مع البلاغ بكل سرعة وحسم؛ فعقب تقنين الإجراءات ضبط المتهمان اللذين اعترفا بتصوير الطالب بهذه الطريقة بداعي الهزار ليتم اتخاذ الإجراءات القانونية والعرض على النيابة للتحقيق. نشرنا أيضا واقعة غريبة جدا، بطلتها زوجة مكلومة تحملت الكثير من أجل أبنائها، لكن فاض بها الكيل بعدما أصبح زوجها يتنمر عليها ويتعمد إهانتها بلا سبب، جعلها تفقد الثقة في نفسها.. فبكل قسوة أخذ يتنمر عليها أمام أولادها وأسرته، ويناديها ب»القردة»، قررت تلك المسكينة في النهاية من اتخاذ قرارها بالانفصال عنه ورفع دعوى خلع بعد رفضه تطليقها. التنمر ليس مشكلة بسيطة بل يؤدي لكوارث إنسانية، ورغم الجهود القانونية المبذولة لمكافحة التنمر من خلال فرض عقوبات صارمة، إلا أن التصدي لهذه الظاهرة يتطلب تضافر جهود المجتمع بأسره، بدءًا من الأسرة والمؤسسات التعليمية وصولًا إلى وسائل الإعلام، لتعزيز الوعي وتوفير بيئة آمنة وصحية للجميع.