ربما يكون هذا التوقيت هو المناسب لإعادة ترتيب أوراق القوة الناعمة المصرية، ترتيب المنظومة كاملة، ولطالما دعا الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ توليه المسئولية إلى الاهتمام بهذه القوة باعتبارها إضافة وعنصرًا رئيسيًا لقدرات الدولة الشاملة، نحن شهود على رغبة رئاسية حقيقية للإصلاح، باقتحام الملفات الشائكة، وإصلاح المؤسسات، وإصلاح المفاهيم، ذهب زمن المسكنات فى علاج أزماتنا، الآن نواجه ونضع الحلول الجذرية وفق رؤية تتسم أولًا بالواقعية، وثانيًا باستخدام الإمكانيات المتاحة، وثالثًا الاعتماد على المؤهلين والمحترفين من «أصحاب الصنعة». عندما يستشعر الرئيس الخطر ويُعبِّر عن قلقه من انحدار المستوى الدرامى الذى يُقدِّم «الهزل» و «الغث» على السمين، هذا التشخيص يقودنا للحلول مباشرة، ويلقى بالمسئولية على أطراف صناعة الدراما، وأيضًا الجمهور الذى ينتقد ويُعبِّر عن سخطه من الابتذال بينما تُحقق هذه النوعية مشاهدات عالية، وهى معادلة مغلوطة؛ لأنه من باب أولى الامتناع ومقاطعة ما نراه سيئًا، أيضًا يرتبط بهذا استسلام واستسهال المؤلفين رافعين-عن غير حق- عبارة الجمهور عايز كده وهى مقولة انهارت تمامًا أمام كثير من الأعمال الجادة التى حققت أكبر نسب مشاهدة. مرة أخرى الاعتراف بالأزمة والتوصيف الدقيق هو بداية طريق الإصلاح، ولكن أين تكمن الأزمة هل الدراما متهم أم مجنى عليه؟! هى بالفعل الاثنان، فهى متهمة بإفساد الذوق العام، ومجنى عليه وقع ضحية، وليسأل صُنّاع الدراما أنفسهم كيف جعلوا من هذه القوة الناعمة متهمًا ومجنيًا عليه فى نفس الوقت، هل هذا هو الشعب المصرى، وهل هذه قضاياه، وهل تُعبِّر الدراما عن اهتماماته وطموحاته، بالتأكيد لا أطالب المبدعين بأعمال وعظ وإرشاد. ولنكن صرحاء: أزمة الدراما المصرية ليست مجرد مسألة تكرار للأعمال التى تعتمد على العنف أو الفساد، بل هى أزمة تتعلق بهوية الفن نفسه، نحن أمام حالة من الانفصال بين الواقع الذى يعيش فيه المواطن المصرى وما يُعرض على الشاشة، دراما اليوم سواء كانت فى رمضان أو فى أى وقت من السنة، تكاد تقتصر على صور نمطية مغلوطة: البلطجية، والمجرمون، والأحداث المأساوية التى تُروّج للعنف وتُعمّق الإحساس باليأس لدى المشاهد، لا أحد يُنكر أن الدراما كان لها دور رئيسى فى بناء شخصية المجتمع المصرى على مر العقود، لكنها اليوم أصبحت مجرد انعكاس مُشوه للواقع. الحقيقة، أن الفن فى أى بلدٍ لا يُعدُّ مجرد ترفيه أو وسيلة للهروب من الواقع، بل هو مرآة حقيقية تعكس فكر وثقافة هذا المجتمع، فما الذى يعكسه الفن المصرى الآن؟ هل يعكس تطلعات الشعب المصرى؟ هل يساهم فى بناء قيم أصيلة؟ أم أنه يغرق فى تكرار لأفكار سلبية لا تُضيف للمشاهد سوى شعور بالإحباط؟ عندما يُنظر إلى المسلسلات المصرية فى السنوات الأخيرة، يتضح أن بعضها ليس فقط بعيدًا عن نقل الواقع المصرى الحى، بل يبدو كأنه ينقل صورة سلبية عن هذا الواقع، ويخلق مشاهد تشبع أذهان الجمهور بمفاهيم معوجة عن العلاقات الإنسانية والعدالة والمجتمع. لقد أصبحت بعض الأعمال الدرامية تُمثّل صورة قاتمة عن المجتمع المصرى، حيث تُروج لأفكار لا تسهم فى تحسين الوعى العام، بل تُغرقه فى قاع من التشاؤم والمغالاة فى تقديم الأزمات. فماذا ننتظر من هذه الأعمال؟ وهل يُمكن أن نُطالب المجتمع المصرى بالتماسك والتعاون وهو يُشاهد أعمالًا تُروّج لتسلط الفساد واستفحال العنف والانتهازية؟ الواقع أن هذا النوع من الفن لن يُقدم أى جديد للمجتمع، بل سيزيد من تعميق الأزمات الاجتماعية والنفسية. من يستفيد من استمرار الوضع الراهن؟ ورغم أن الحلول قد تكون واضحة فى النظر إلى الدراما من زاوية جديدة، إلا أن السؤال الأكبر يبقى: من يستفيد من هذا الوضع الراهن؟ من المؤكد أن هناك مصالح كبيرة متشابكة وراء استمرار هذا النوع من الإنتاج الفنى، فقد أصبحنا نعيش فى عصر تحكمه معايير تجارية بحتة، حيث يكفى أن تنتج عملًا يحتوى على مشاهد عاطفية أو عنف جارف أو تلميحات مثيرة، ليصبح قابلًا للبيع ويجذب الأنظار، وهذا للأسف أصبح جزءًا من لعبة الإنتاج. التغيير ليس مستحيلًا، ولكنه يحتاج إلى رؤية جديدة، إلى إرادة حقيقية لإعادة صياغة ما أصبح جزءًا من موروثنا الفنى، ولعل حديث الرئيس السيسى يدفعنا إلى التفكير فى الحلول الممكنة لهذه الأزمة، وانتهاز الفرصة والدعم الرئاسى للإصلاح. أولًا: يجب أن تعود الدراما المصرية إلى جذورها، نحتاج إلى أعمال تُبرز بطولات الناس العاديين «أهل مصر»، وتعرض قضاياهم الحقيقية دون مبالغات أو تجميل سطحى، العودة إلى الواقع المصرى لا تعنى إغراق المشاهد فى الكآبة، بل تقديم صور حيّة تعكس النضال والتجارب الملهمة والتحديات التى يُواجهها المواطن المصرى فى مجتمعه. ثانيًا: يجب أن يتحمَّل صُنّاع الدراما مسئولية أكبر تجاه تأثير أعمالهم على الجمهور، ليست المهمة هى فقط تقديم مادة مشوقة، بل تكمن المهمة فى تقديم محتوى يسهم فى بناء الوعى الجماعى للمشاهد، ماذا عن المسلسلات التى تُبرز النماذج الإيجابية؟ ماذا عن تلك التى تُروّج للأمل فى وقت يمر فيه الوطن بتحديات اقتصادية واجتماعية؟ ثالثًا: تصحيح معايير الإنتاج الفنى، لا بد من إيجاد ضوابط ومعايير فنية من قِبل الجهات المسئولة، التى تضمن أن يمر المحتوى عبر غربلة فكرية وأخلاقية، لدينا كفاءات فنية على مستوى عالٍ، وما ينقصنا هو الإرادة فى تقديم أعمال لا تُساوم على المبادئ، نحن بحاجة إلى تنقية الساحة من الأعمال التى تتلاعب بعقول الناس وتغرس فيهم صورًا مشوهة. رابعًا: التوجّه نحو التنوع والإبداع.. لا يكفى أن تقتصر الدراما على فئة أو قضية واحدة، يجب أن تشمل أبعادًا مختلفة من الحياة المصرية: من الكوميديا الذكية، إلى الأعمال الاجتماعية العميقة، إلى المسلسلات التاريخية التى تُبرز عراقة هذا البلد، التنوع سيساعد على جذب جمهور أوسع، وسيدفع بالصناعة إلى الأمام. خامسًا: دعم الأجيال الشابة.. إذا كانت الدراما المصرية تسير على الطريق الخاطئ؛ فإن ذلك يعود إلى غياب دعم حقيقى للأجيال الشابة من المبدعين، علينا أن نُولى اهتمامًا خاصًا بالشباب الذين يملكون أفكارًا جديدة، لكنهم فى حاجة إلى منصة لإطلاق إبداعاتهم، هذه الأجيال هى التى ستحمل راية الفن المصرى فى المستقبل، ولذلك يجب توفير الدعم الفنى، والإنتاجى، والتوجيهى لهم. وأخيرًا: الرقابة الإيجابية، إن مفهوم الرقابة فى الفن لا يجب أن يُفهم باعتباره عائقًا أو قيدًا على الإبداع، بل أداة لتوجيهه فى الاتجاه الصحيح، إن وجود لجنة متخصصة تتبنى المراجعة الدقيقة للمحتوى قبل طرحه على الشاشة أمر ضرورى، بشرط أن تكون هذه الرقابة منفتحة على التغيرات الثقافية والاجتماعية، ولكن دون التفريط فى القيم المجتمعية.