لا يمكن لنا إخراج العدوان الإسرائيلي على غزة من سياقه التاريخي ، بل يأتي كجزء من مشروع ممنهج ، يسعى إلى ترسيخ واقع استعماري بالقوة، وسط صمت دولي يُغذِّي غطرسة الاحتلال، ويمهِّد لمذابح أكثر وحشية ودموية . ولعل الهجوم الأخير والمتكرر، الذي يحوَّل ليالي رمضان إلى جحيم من القصف والدمار، ليس مجرد تصعيد عابر ، بل هو امتداد لاستراتيجية إسرائيلية ، تقوم على التنكيل المستمر بالشعب الفلسطيني .. ثم .. ثم إعادة لهندسة الجغرافيا والديموجرافيا من خلال القتل والتهجير والتدمير المنهجي ، لكل مقومات الحياة. فنكث العهود عقيدة إسرائيلية ثابتة .. والراصد للواقع التاريخي ، يلحظ ان إسرائيل منذ نشأتها ، لم تلتزم يوما بأي اتفاق أو تعهد ، فهي لا ترى في المعاهدات سوى أوراقاً للمساومة ، وكسب الوقت ، قبل ان تبدأ جولة جديدة من البطش والتنكيل .. وأحسب أن الهدن بالنسبة إليها ، ليست إلا استراحة محارب ، تُعقَد حين تحتاج لترتيب أوراقها ، وإعادة التموضع .. ثم .. ثم تستأنف بعدها عمليات القتل والتدمير ، بحجج جديدة وذرائع واهية . فما يحدث مؤخرًا من نكث لوقف إطلاق النار ، يؤكد تلك الحقيقة ، ويثبت أن الاحتلال لا يبحث عن سلام حقيقي ، بقدر ما يسعى إلى سلام مزيَّف ، يقوم على استسلام الضحية ، لا تحقيق العدل. وهنا ينبغي ان ندق علي الناقوس ، لان القادم أسوأ ، خاصة عندما يصبح الصمت ، ضوءًا أخضر لتمرير الجريمة .. فحين يُترك الاحتلال كي يعربد دون حساب ، يصبح العنف قَدَرًا محتومًا .. و .. و تصبح أيضاً المجازر واقعًا متكررًا ، لا رحمة فيه ولا حُرمة ، وهنا المعادلة واضحة .. كلما تواطأ المجتمع الدولي بصمته .. كلما ازداد بطش إسرائيل ، وعلينا الإدراك بأن استمرار التراخي العربي والإسلامي والدولي ، دليل علي أن القادم لن يكون مجرد موجة عدوان جديدة ، بل ربما يكون مرحلة أكثر خطورة .. مرحلة تُعاد فيها رسم المشهد الفلسطيني على وقع الدم والخراب. وبالتالي فإن استمرار هذا النهج العدواني دون رادع ، في ظل التواطؤ الأمريكي ، والتخاذل الأوروبي يعني أن الاحتلال ماضٍ في مشروعه الاستيطاني والإبادي ، دون خشية من محاسبة أو عقاب ، وإذا كان الفلسطينيون اليوم هم الضحية المباشرة ، فإن المنطقة بأسرها ستدفع الثمن لاحقًا ، لأن النيران التي تشتعل في غزة ، لن تبقى محصورة داخل حدودها .. بل .. بل ستمتد لتشعل صراعاً أوسع واخطر وأكثر شراسة .. صراعاً لن يكون أحد بمنأى عن تبعاته .. اكرر لن يكون أحد بمنأى عن تبعاته. .. و .. و من المثير للسخرية ، أن يصبح القاتل قاضياً وضحية في آنٍ واحد .. وها نحن نري الدول التي تتشدق بحقوق الإنسان ، تتجاهل تمامًا ما يحدث في غزة ، بل وتواصل دعم الاحتلال سياسيًا وعسكريًا .. فحين تُرتكب جرائم بحق الفلسطينيين ، يختفي فجأة كل حديث عن القوانين الدولية والحقوقية ، وكأنها لم توضع إلا لحماية القاتل لا الضحية .. وهذه الازدواجية الفاضحة ، ليست مجرد تناقض أخلاقي ، بل هي تواطؤ صريح ، يُشجع إسرائيل على التمادي في عربدتها ، ويؤكد علي أن " الشرعية الدولية " ليست سوى أداة بيد القوى الكبرى ، تُستخدم حين تخدم مصالحهم .. ثم .. ثم تُدفن حينما تتعارض مع أجنداتهم . يا سادة .. غزة هي " جدار الصمود الأخير " في وجه المشروع الاستعماري ، فرغم كل هذا القصف والتنكيل ، لم تنكسر ولم تنحنِ أمام إرهاب منظَّم تمارسه إسرائيل ، فهذه المدينة الصغيرة المحاصرة من كل الجهات ، تثبتت للعالم أنها أكثر من مجرد بقعة جغرافية ، بل هي رمز حيٌّ للمقاومة ، وميدان أخير يختبر فيه الاحتلال حدود جبروته ، فكلما اشتد القصف ازداد صمود أهلها ، وكأنهم يقولون للعالم بأسره : قد تسلبون منا أرواحنا ، لكنكم لن تنتزعوا أبداً إرادتنا. لذا علي الجميع ان يوقن ، اننا امام خيارين لا ثالث لهما : " إما موقف حاسم ، وإما فوضى لن تبقي ولا تذر.. فلم يعد مقبولًا أن يظل العالم متفرجًا على إبادة شعب بأكمله ، لان استمرار هذا العدوان ، وبهذه القساوة ، دون ردٍّ عربي وإسلامي ودولي قوي ، ليس له إلا تفسير واحد ، هو أن المنطقة مقبلة على فوضى عارمة ، فوضي قد تتجاوز فلسطين ، وتمتد إلى ساحات أخرى حيث تتداخل الحسابات الإقليمية ، وتتغير موازين القوى ، فالدم الفلسطيني الذي يُراق اليوم ، ليس مجرد أرقام تُضاف إلى سجل الجرائم الإسرائيلية ، بل هو نذير بانفجار كبير قد يعيد تشكيل خريطة المنطقة بالكامل . من هنا تصبح الضرورة ملحة ، الي أن يتحرك المجتمع الدولي لوقف هذه العربدة الصهيونية ، وإلا فعلي الجميع أن يستعد لتحمل تبعات كارثة ، لا يمكن السيطرة عليها .. أما غزة فقد أثبتت للعالم أجمع ، أنها لا تموت ، بل تتجدد فيها الحياة كل مرة .. وتعود من تحت الركام أكثر قوة .. و .. و كأنها أسطورة طائر الفينيق ، الذي لا يعرف الفناء ، ويولد من رماد جسده المحترق .. اللهم سلم . كاتب المقال: مدير تحرير بوابة أخبار اليوم