توقفنا أمس فى الحكاية التى رواها لى محمود المليجى لكى أصوغها له دراميا فى مسرحية طليعية عند رائحة الحرب التى بدأت تلوح فى الأفق بين من اعتدلوا فى وقفتهم على أثر الزلزال الذى حل بالبلاد، وفى ذروة انقسامهم فوجئوا بجيوش جرارة زحفت عليهم من الخارج وسقط البلد بكل سهولة لأنهم كانوا فى صراع ولم يكونوا مستعدين للغزو المفاجئ، وعندما سألت الأستاذ المليجى عن المصدر الذى قرأ فيه هذه الحكاية، قال «مش فاكر»!! وكان من المفترض أن أكتب النص تلبية لرغبته لكنى تقاعست خوفا من الرقابة التى ستفسر النص بما يحمله من دلالات واسقاطات سياسية، وانشغل المليجى بعدها فى حضور جلسات مجلس الشورى الذى عين به عام 1980، وظل به حتى رحيله فى السادس من يونيو عام 1983. لم يكن عملاق التمثيل محمود المليجى يحب أن أناديه بلقب «أنتونى كوين العرب»، وقرأت على وجهه عدم الارتياح عندما وصفه عبد الله أحمد عبد الله الشهير بميكى ماوس بلقب «مارلون براندو الشرق»، وعندما سألته عن السبب قال «أنتونى كوين ممثل عظيم يعمل فى مناخ فنى أعظم منه، فإذا شبهتنى به فأين أنا من المناخ الذى يعمل هو فيه، يا بنى وراء كل هؤلاء مؤسسات كبرى توفر لهم كل شيء، الممثل فى الغرب مطلوب منه أن يمثل ويبدع ولا يشغل نفسه بشيء آخر، أما الممثل لدينا إذا ما كبر فى السن - مثل حالاتى - يصبح مثل خيل الحكومة»!! وروى لى المليجى حكاية تقرب لذهنى ما يقصده عندما رشحته مارى كوينى للمشاركة فى فيلم «غرام بنت الشيخ» الذى ساهمت فى انتاجه مع جانب إسبانى، وسافر المليجى لتصوير دوره فى اسبانيا، وعند وصوله اتصل بالشركة المنتجة ذاكرا لهم اسمه فضحكوا منه وقالوا: نحن لا نعرف شخصا اسمه محمود المليجى!، فقال: «أنا المرشح لدور إبراهيم» فقالوا: «ولماذا لم تقل ذلك من قبل؟»، واكتشف ان نجوم مصر الكبار لا تعرفهم السينما فى اسبانيا، ولهذا لم يعتنِ به أحد فى الاستديو، ولم يصور شيئا فى اليوم الأول ولا فى اليوم الثانى، وكان يضع الماكياج كاملا ويقف اثنتى عشرة ساعة تحت الاضواء التى تولد حرارة شديدة، وأوقفه عامل بالاستديو عندما أراد ان يجلس على أحد المقاعد وأفهمه أنها للنجوم ! وشاهد فى اليوم الثالث المخرج الإيطالى «فرنوتشو» الذى يعرفه من القاهرة فشكا له سوء المعاملة وعلم منه أنه سيقلد نجمًا إسبانيًا كبيرًا وهذا هو كل دوره، وجاء النجم الإسبانى الكبير والمليجى يشاهد تمثيله للدور، وعندما طلب منه تقليد الدور قال للمخرج: سوف أؤديه بمفهومى، فضحك المخرج بسخرية وهو يقول: «دعنا نرى عبقريتك أمام نجمنا الكبير فى المشهد المشترك بينكما»، وأدى المليجى دوره بطريقة رائعة جعلت الاستديو كله يصفق له والنجم الإسبانى مبهور به، وجاء له العامل الذى منعه من الجلوس بكرسى عليه اسمه، ووجد خارج الاستديو سيارة خاصة تنتظره لكنه تجاهل سائقها وعاد للفندق بسيارة اجرة، أراد أن يعطيهم درسا فى كيفية معاملة الفنان المصرى. اقرأ أيضًا| شخصيات لا تنسى.. أنتوني كوين العرب «1- 2» اتذكر أن يوسف وهبى بك قال لى بالحرف الواحد: «محمود المليجى هو أعظم ممثل عربى شاهدته فى حياتى، ولا أبالغ إذ قلت إنه أعظم منى موهبة، بل أعظم من كل الممثلين الذين تعاملت معهم طوال رحلتى الفنية الطويلة»، نفس الكلام قاله لى المخرج الكبير يوسف شاهين عندما وصف المليجى بعد تعامله معه فى فيلم «الأرض» وفيلم «إسكندرية ليه» وقال «المليجى ممثل عبقرى جعلنى أبكى من روعة الأداء وصدق المعايشة، وكانت نظرات عينيه تخيفنى»، ولنعود لشخصية «محمد أبو سويلم» التى جسدها محمود المليجى فى فيلم «الأرض» لنتلمس عبقريته التى لا تقل عن عبقرية أى نجم عالمى وهو يؤدى منولوج ابتلع فيه الشاشة ووجوه يحيى شاهين وعزت العلايلى وحمدى أحمد وصلاح السعدنى تحملق فى مونولوجه المؤثر وهو يتكلم عن رجولة «الرجالة»! داعبته ذات مرة عندما قلت له «شاهدناك بشعر جميل فى افلامك الأولى.. وفجأة سرح الصلع فى رأسك وخيل لنا أنك كنت ترتدى فى البداية باروكة»، ضحك المليجى وهو يقول: «لم أضع على رأسى باروكة فى أى زمن ما، ففى بداية مشوارى الفنى كان لى صديق من خارج الوسط الفنى تعودت أن ألتقيه فى بار بشارع الألفى، وذات ليلة دخل البار رجل بيده سلة وهو ينادى على الجمبرى المشوى، فاشترينا منه السلة وظللنا نأكل ما بها، وعند خروجنا فى الصباح من باب البار، شعرت بشيء غير طبيعى بمعدتى وبعض التقلصات البسيطة ووجدت نفسى مندفعا بطريقة لاإرادية نحو رجل عجوز افترش الرصيف بسلة ليمون، ودون وعى منى أخذت فى شق حبات الليمون وعصرها بيدى فى فمى - ليمونة وراء الأخرى - وفى مساء نفس اليوم أخبرونى أن صديقى مات بالتسمم من الجمبرى الذى أكلناه، ففزعت وحزنت عليه بشدة، ولاحظت بعدها أننى كلما وضعت «المشط» فى رأسى يتساقط معه شعرى بسهولة، فذهبت إلى طبيب أمراض جلدية وقصصت عليه ما جرى معى، وقال لى بعد أن أجرينا الفحوصات والتحاليل «لقد أنقذك الله من الموت بفضل الليمون الذى أكلته فى الليلة المشئومة»، وعلمت من الطبيب أن تساقط شعرى بهذه السرعة كان نتيجة لبقايا من التسمم الذى حدث لى وقضى على صديقى بالموت!» ■■■ لم يصنع محمود المليجى نفسه من فراغ.. فوراء نجوميته الطاغية رحلة كفاح طويلة بدأها فى عام 1927 عندما أعلنت الفنانة عزيزة أمير عن حاجتها لوجوه جديدة لفيلم «ليلى» فتقدم ضمن من تقدموا للاختبار، واختارت مجموعة منهم هى وزوجها مصطفى الشريعى ووعدتهم بأنها سوف تتصل بهم فى الوقت المناسب، وفى هذه الأثناء كان المليجى طالبا بالمدرسة الخديوية التى أسس ناظرها فرقة لهواة التمثيل أصبح المليجى رئيسا لها وقدم من خلالها عددا من المسرحيات العالمية وشجعه زملاؤه على الاشتراك فى فرقة رمسيس ضمن مجموعة من الكومبارس مقابل عشرة قروش يوميا، إلا أن المرحلة المهمة فى حياته بدأت عندما استأجرت المدرسة مسرح الازبكية لتعرض مسرحية «الذهب» وشاهدته فاطمة رشدى أثناء العرض فأعجبت بموهبته واعتقدت أنه ممثل محترف وأن الفرقة استعانت به لتضمن نجاح العرض، ولم يمضِ وقت حتى بعثت اليه لتلحقه بفرقتها بمرتب شهرى قدره أربعة جنيهات وقدم أول أدواره فى مسرحية «667 زيتون»، وقدم بعدها عدة مسرحيات لفرقة فاطمة رشدى من بينها «الزوجة العذراء - على بك الكبير - يوليوس قيصر- حدث ذات ليلة - الولادة»، وفى عام 1933 قدم أول أدواره السينمائية فى فيلم «الزواج» مع فاطمة رشدى وكان دورا كوميديا ولكن الفيلم لم يحظ بالنجاح المتوقع له مما جعله يقدم استقالته من فرقة فاطمة رشدى، وأخذ يتنقل من فرقة لفرقة، وانهالت عليه عروض السينما التى منحته لقب «شرير الشاشة» الذى تخلص من نمطيته لأدوار تحمل ابعادا تتسم بالعمق مثلما رأيناه فى «الأرض - العصفور - عودة الابن الضال - إسكندرية ليه - أيوب»، وكان يقول لى دائما إنه يتمنى أن يموت أثناء عمله على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا، ولا يأتيه الموت وهو فى مرض على الفراش، يريد أن يموت واقفا على قدميه وحقق الله أمنيته عندما انتهى من تصوير أحد مشاهد فيلم «أيوب» سقط على الأرض بفنجان القهوة الذى كان فى يده، حمله عمر الشريف وأجلسه على الكرسى ولكنه كان قد فارق الحياة، انهمرت الدموع من هول الصدمة. رحل أنتونى كوين العرب تاركا لنا 750 فيلما و320 مسرحية وكمًّا من المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. وغدا نلتقى مع شخصية أخرى.. لا تنسى.