تابع مئات الملايين من المشاهدين حول العالم المشادة التى وقعت في البيت الأبيض قبل نحو أسبوع بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الأوكرانى فلوديمير زيلينسكي، وبين مؤيد ومعارض للموقف الأمريكي الجديد من الحرب، فإن ما حدث بالمكتب البيضاوي يكشف عن أمور هامة لعل أولها أن الولاياتالمتحدة باتت لا تشعر بالحياء فى تخليها علانية عما تروج له من قيم فضلى ومثلى. لم تكن المشادة الكلامية التي حدثت بين الرجلين وسط ذهول الوفد الأوكراني على نحو خاص، مسبوقة فى حدتها أو فى «تدنيها»، فلا يخفى على أحد الآن أن الولاياتالمتحدة قد حفزت بقوة على قيام هذه الحرب، لأسباب عديدة، منها ما هو معروف ومنها ما تكشف عنه الأيام تباعا، فبداية من المناورات بالأسلحة الاستراتيجية عند بحر البلطيق، ثم تجاهل مسألة تقديم ضمانات أمنية لموسكو، ثم التسليح العلني للجيش الأوكراني وإرسال مدربين عسكريين بريطانيين حتى من قبل اندلاع الحرب عند مناطق شرق أوكرانيا، كلها أمور دقت بها واشنطن طبول الحرب بدقة بحيث تكون الضربة الأولى هى فعليا من الجانب الروسي، لكن بعد أن تكون أمريكا أتمت نقل كميات من الأسلحة الى الجانب الأوكراني وأعادت انتشار جيشها فى منطقة شرق أوروبا، واستعدت لمعركة استنزاف الجيش الروسي، مثل ما شهدته أمريكا نفسها فى أفغانستان على مدى 20 عاما. ترامب نفسه قال لزيلينسكي خلال المشادة: «لقد مكناكم لتكونوا أقوياء، كل أوراق اللعب معنا، وإذا غادرنا فلا أوراق معكم»، وبعد أن حشدت واشنطن الصفوف الغربية السياسية وراء كييف خلال الحرب، تحولت أوروبا من شريك اقتصادي لروسيا يحتفظ معها بعلاقات سلام وتعاون إلى عدو يقوم بتسليح خصمها فى معركة ليس للأوروبيين ناقة أو جمل فيها، فلا أوكرانيا مهمة للأوروبيين ولا الأوروبيين أنفسهم كان لديهم مخاوف أمنية من روسيا، بل إن قبول أوكرانيا فى الاتحاد الأوروبى أمر مستبعد برفض بعض الأعضاء بشكل حاسم لهذا الأمر، كما أن لوائح الاتحاد الأوروبى تجعل من قبول أوكرانيا احتمالا مستبعدا على الأقل فى الوقت الحالى نظرا لتراجع معدلات الشفافية فى حكومتها وتفشى الفساد. ◄ البراجماتية الشديدة والآن تحولت السياسة فى أمريكا على يد ترامب، ولعل أول الملاحظات هو الوقاحة الأمريكية وعدم الاستحياء فى التخلى علانية عن «الحليف الأوكراني» الذى ضحى بكل شيء لينال رضاء الأمريكيين ودعمهم له فى الحرب ضد روسيا التي لم تكن لتحدث لولا سيناريو دقيق محكم لاستدراج روسيا لهذه المعركة. أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالبراجماتية الشديدة التى تنتهجها السياسة الخارجية الأمريكية والتى تقوم على المصالح بشكل جوهري، سواء اتسقت مع القيم الليبرالية أو لم تتسق، وربما يظن البعض أن إدارة ترامب هى من قرر وقف دعم أوكرانيا صاحبة القضية، التى تقاتل من أجل تحرير أرضها من جار طاغٍ ظالم محتل، لا يؤمن بقيم الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان، .إلخ، وربما يظن البعض أن موقف الإدارة السابقة برئاسة جو بايدن كان يدافع عن القيم - فى دعمه أوكرانيا- مقارنة بموقف إدارة ترامب الذى يتبنى مبدأ المصالح، لكن فى الحقيقة، فإن إدارة بايدن لا تختلف عن إدارة ترامب من حيث البراجماتية والمصالح، وهم بعيدون فى سياساتهما كل البعد عن القيم التى لطالما تروج لها الولاياتالمتحدة بوصفها دعائم قوتها الناعمة. ◄ اقرأ أيضًا | سفير أوكرانيا لدى بريطانيا: الولاياتالمتحدة تحت قيادة ترامب تدمر النظام العالمي ◄ أكبر دليل أما الدليل الطاغى والصارخ، الذي شاء الله أن يحدث بالتزامن مع حرب أوكرانيا، ليفضح كل الادعاءات الغربية ويضربها فى مقتل وينسف الأسس التى قامت عليها ويسحب شرعية الحديث عنها لعقود قادمة، فهو العدوان الإرهابي الإسرائيلي في غزة. دعمت الولاياتالمتحدة طرفين في حربين منفصلتين لكنهما ذوا موقفين متعارضين. وقدمت لهما السلاح والمال والدعم الإعلامى الدولى والدبلوماسى والسياسي، لكن هذه المعايير المزدوجة كانت وبحق فاضحة لكل الادعاءات الأمريكية والشعارات الرنانة، وبعد أن صورت إدارة بايدن السابقة أوكرانيا على أنها دولة خضعت لاحتلال جار محتل، ومن ثم فهى تستحق دعم كل الشعوب الحرة، سقطت الإدارة ذاتها فى اختبار غزة الحاسم، وعلى النقيض من موقفها من حرب أوكرانيا، دعمت إدارة بايدن هذه المرة إسرائيل، وقدمت لها كل الدعم العسكرى والسياسى والدبلوماسى والإعلامي، ليظهر جليا كم الانحياز الذى يتخطى القيم ولا يعترف إلا بالمصالح، فإسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة تمثل مصلحة استراتيجية وسياسية وبالنسبة للإدارات الأمريكية فهى تمثل حليفا هاما للوصول أو البقاء فى الحكم. ◄ ليس رجل سلام وبالعودة للمشادة الكلامية التى حدثت بين ترامب وزيلينسكي، بدا الرئيس الأمريكى وكأنه رجل يدعو إلى السلام ويحث الرئيس الأوكرانى على وقف الحرب وتجنب إراقة المزيد من الدماء. كما بدا فى لقائه متحديا الرغبة الأوروبية فى استمرار دعم كييف أمام روسيا. ومرة أخرى، يبدو كم المعايير المزدوجة التى باتت تجرى فى عروق ساسة أمريكا مع دمائهم الباردة تجاه الضحايا الأبرياء. ففى مقابل وقف دعمه لأوكرانيا لإجبارها على وقف الحرب، قرر ترامب الإفراج عن قنابل لإسرائيل كان بايدن قد جمد شحنها لتل أبيب. علاوة على ذلك قرر ترامب تخفيف إجراءات شن ضربات خارجية بالنسبة للجيش الأمريكى بما يعزز من احتمالات الانفلات فى أى مواجهة، كما ان ترامب لا يفزع لأمن حلفائه الأوروبيين فى مواجهة انتقام محتمل من روسيا، ولا يأبه لموقفهم ولا حتى للاستقرار السياسى بدول القارة وهم حلفاء أساسيون للولايات المتحدة. وقال تقرير نشرته مجلة فورين بوليسى فى وقت سابق، إنه لدى الرئيس الأمريكى سلطة كبيرة لاستخدام القوة العسكرية حتى فى غياب تفويض من الكونجرس، وحتى عندما ينتهك هذا الإجراء القانون الدولي. ومن خلال التدخلات العسكرية فى الشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر 2023، قامت إدارة بايدن بتقويض المزيد من الحواجز التى تحد من سلطات الحرب الرئاسية، ورغم الشعار المُتكرر للرئيس المنتخب دونالد ترامب «لا حروب جديدة» وادعاءاته بأن الولاياتالمتحدة كانت فى حالة سلام خلال إدارته الأولى، إلا أن واشنطن شاركت فى صراعات جديدة ووسعت وعمقت صراعات قائمة دون تفويض جديد من الكونجرس خلال قيادته بين 2017 و2021. وفى تقرير آخر نشره فورين بوليسى سنتر، فإن ترامب الذى يردد دوما أن قيادته القوية منعت نشوب الحرب خلال رئاسته، فإن هذا الادعاء ليس له أساس من الصحة، فبعض النزاعات التى عانى منها خليفته بايدن خلال فترة رئاسته هى نتيجة مباشرة للسياسات التى تم تنفيذها خلال فترة ترامب فى البيت الأبيض. ناهيك عن الوقت الذى كاد فيه تصرف ترامب الاستعراضى أن يجر الولاياتالمتحدة إلى صراع مع كوريا الشمالية فى 2017، وأول عمل فى السياسة الخارجية الذى انتقد ترامب إدارة بايدن من أجله كان انسحاب الولاياتالمتحدة من أفغانستان فى أغسطس 2021. والحقيقة هى أن بايدن كان يتبع خطة الإدارات السابقة، حيث لم يكن لديه خيار سوى تنفيذ اتفاق ترامب مع طالبان فى فبراير 2020. ◄ تعهد طالبان هذا الاتفاق، الذى تم دون مشاركة الحكومة الأفغانية، شمل التزام الولاياتالمتحدة بالانسحاب العسكرى من أفغانستان مقابل تعهد طالبان بعدم مهاجمة القوات الأمريكية. لم يكن هناك أى متطلبات مقابلة لمنع طالبان من مهاجمة قوات الحكومة الأفغانية، ولم يكن هناك آلية لتنفيذ هذا الاتفاق، كما أن الاتفاق سمح بالإفراج عن 5000 مقاتل من طالبان الذين عادوا بعد ذلك إلى جبهة القتال. لكن ربما ما يُنسى فى أغلب الأحيان عن سنوات ترامب فى البيت الأبيض هو مدى قرب الولاياتالمتحدة من الحرب مع كوريا الشمالية. فى يوليو 2017، حيث طورت بيونج يانج صاروخًا باليستيًا عابرًا للقارات (ICBM) قادرًا على الوصول إلى الولاياتالمتحدة، وهو أمر تعهد ترامب، أثناء حملته الانتخابية، أنه لن يحدث أبدًا. وبينما نصحت القيادة العسكرية باتخاذ تدابير دفاعية هادئة وإشارات عسكرية، لجأ ترامب إلى تويتر، موجهًا إهانة إلى كيم جونج أون بوصفه «رجل الصواريخ الصغير» ووعد قائلًا: «النار والغضب كما لم يرها العالم من قبل»، لكن تهديداته تجاه كوريا الشمالية لم تقتصر على التصريحات التصعيدية فقط. بل أمر ترامب بإرسال ثلاث مجموعات قتالية من حاملة الطائرات إلى المنطقة، وأجرى العديد من الهجمات الجوية المحاكاة ضد البلاد. وكانت المناقشات داخل البيت الأبيض حول الهجوم النووى الأمريكى ضد قوات صواريخ بيونج يانج قد تقدمت إلى درجة أن وزير الدفاع جيم ماتيس كان يُنقل إلى كاتدرائية واشنطن الوطنية فى طريقه إلى المنزل من البنتاغون، من أجل الصلاة طلبًا للتوجيه أثناء تحضيره لخطط «لإحراق مليونين من الأشخاص»، كانت تلك أزمة كان من الممكن أن تتصاعد بسهولة لو لم يكن ترامب قد انخدع بسلسلة من الوعود الغامضة وفرصة لقاء الزعيم الكورى الشمالى فى ثلاث قمم إعلامية. فى هذه المرة، أقنعه حبه للكاميرات والإيمان بأن القمم كانت فى حد ذاتها ذات مغزى، بتخفيف الضغط على كوريا الشمالية وبقبول التهديد النووى الذى يشكله كيم الآن على أمريكا. ◄ الانتشار النووي كما أن إدارة ترامب للتهديد المتعلق بالانتشار النووى الإيرانى تثير أيضًا تساؤلات حول فكرة أن عودته إلى البيت الأبيض ستكون خالية من الصراعات. ففى مايو 2018، انسحب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران - «الاتفاق النووى الإيراني» - دون أن يكون لديه خطة بديلة بخلاف فرض العقوبات للحد من تطوير برنامج الأسلحة النووية الكامن فى طهران، ونتيجة لذلك، أصبحت إيران أقرب من أى وقت مضى إلى القدرة على تطوير الأسلحة النووية. وكانت استجابة ترامب لهذا الأمر هى دعم الفكرة القائلة بأن إسرائيل يجب أن تدمر مسبقًا قدرات إيران النووية قبل أن تتمكن من تطوير القدرة على الوصول إلى الولاياتالمتحدة. من أجل نجاح هذا الهجوم، من المرجح أن يتطلب الأمر هجومًا مشتركًا بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل على نطاق واسع. أما كيفية تعامل إدارة ترامب الثانية مع التهديدات المتعلقة بإيرانوكوريا الشمالية والتهديد الصينى لتايوان، وحرب أوكرانيا، هى أمور غير قابلة للتنبؤ. ومع ذلك، ما هو مؤكد هو أن سجل ترامب فى ولايته الأولى لا يضمن السلام والأمن فى السنوات الأربع القادمة.