عامر تمام حالة من الإرباك تسبب فيها الإعلان عن إرسال كوريا الشمالية نحو عشرة آلاف جندى إلى روسيا للمشاركة فى القتال ضد القوات الأوكرانية، هذه الخطوة رغم توقعها لكنها أربكت حسابات الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، خاصة بعد أن أعقبها إقرار موسكو وبيونج يانج اتفاقية دفاع مشترك. لا يمكن عزل اتفاقية الدفاع المشترك بين موسكو وبيونج يانج عن التطورات فى آسيا خلال السنوات الماضية، لاسيما سعى الولايات المتحدة لخلق تحالفات أمنية وسياسية مناهضة للصين وبالطبع حليفتها كوريا الشمالية. اقرأ أيضًا | هدنة تحت النار: تصعيد ميداني بين حزب الله وإسرائيل وحراك دبلوماسي متشابك خلال سنوات قليلة، أقامت واشنطن عدة تحالفات موجهة ضد الصين منها أكواس الذى ضم أمريكا وأستراليا والمملكة المتحدة بشأن برنامج الغواصات العاملة بالدفع النووى، بالإضافة إلى تحالف كواد الأمنى السياسى الذى يضم أمريكاوالهند وأستراليا واليابان. وفى ذات الإطار فعلت واشنطن اتفاقية دفاع مشترك مع الفلبين وأقامت بمقتضاها أربع قواعد عسكرية إحداها قريبة من تايوان التى تعتبرها الصين جزءًا من أراضيها. هذه التحركات من الولايات المتحدة تأتى ضمن رغبة أمريكية فى تكرار تجربة حلف شمال الأطلنطى (الناتو) فى آسيا، وإقامة ناتو آسيوى لاحتواء الصين على غرار ما حدث عام 1949 وإنشاء حلف الناتو لاحتواء الاتحاد السوفيتى آنذاك. التحالفات الأمنية التى أقامتها واشنطن فى آسيا وسعيها لإنشاء تحالف أكبر تحت مسمى الناتو الآسيوى، دفع كوريا الشمالية لإقامة تحالف مع روسيا الحليف القديم للاتحاد السوفيتى، الذى دعمها بشكل كبير خلال الحرب شبه الجزيرة الكورية فى خمسينيات القرن الماضى. لا يمكن فصل هذه التحالف عن التحركات الأمريكية ضد الصين، فهو ما كان له أن يحدث إذا واجه فيتو من بكين الحليف الموثوق لكوريا الشمالية والداعم الاقتصادى والسياسى الأول لها. وهذا يشير إلى أن الاتفاق تم بموافقة إن لم يكن برعاية كاملة من بكين لدعم بوتين فى مواجهة الغرب، كما يمكن أن يكون بمثابة ورقة تلوح بها الصين ضد الولايات المتحدة وتحذرها من أن تحركاتها فى آسيا قد تشكل خطرًا على مصالحها ومصالح حلفائها. هذا التحالف بين موسكو وبيونج يانج يمكن اعتباره مؤقتًا وربطه بالحرب الأوكرانية، لكن حال استمرار أمريكا فى السعى لإنشاء ناتو آسيوى، فإن قادة الحزب الشيوعى الذين يرفضون سياسة التحالفات العسكرية ويسعون إلى الشراكات الاستراتيجية والاقتصادية ربما يجدون أنفسهم مجبرون على الانضمام له، وهو الأمر الذى سيؤثر بشكل كبير على توازنات القوى فى آسيا، ويشكل تهديدًا كبيرًا للاستقرار فى هذه المنطقة المهمة والحيوية. لا شك أن انضمام كوريا الشمالية إلى الحرب الأوكرانية، بالإضافة إلى الدعم الاقتصادى الذى تقدمه بكينلروسيا هو أحد نتائج السياسات الخاطئة لإدارة بايدن، والتى دفعت كافة الدول المترددة أو المتخوفة من سياسة أمريكا المتغطرسة إلى الاصطفاف ضدها، الأمر الذى يزيد من صعوبة هزيمة روسيا فى أوكرانيا، ويطيل أمد الحرب ويستنزف أمريكا وحلفائها الذين لا يقبلون خروج موسكو منتصرة من هذه الحرب، كما أنه يفشل الجهود الأمريكية الرامية لاحتواء الصين. ربما يكون هذا الملف هو أحد الملفات الصعبة بالنسبة لإدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب، والذى يسعى إلى فك التحالفات الأمنية التى تسببت فيها سياسة سلفه بايدن. حيث يتعين على ترامب أن يعطى الأولوية القصوى لتعطيل الشراكة العسكرية الناشئة بين روسياوكوريا الشمالية، ومنع توسعها لتشمل دول أخرى مثل الصين وربما إيران التى تربطها علاقات وثيقة بموسكو وبكين، لكن تحقيق مثل هذا الهدف يتطلب تغييرات جذرية فى سياسات واشنطن تجاه البلدين. حتى ينجح ترامب فى هذه المهمة عليه أن يتخذ مجموعة من الخطوات الصعبة والمؤلمة منها إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية وإعادة التواصل مع نظام بيونج يانج وربما حتى إقامة علاقات دبلوماسية معها وهو ما يعد اعترافًا ببرنامجها النووى، كما أنه عليه أن يؤجل أو يعلق خطط إنشاء ناتو آسيوى. تسعى الولايات المتحدة إلى احتواء الصين مستخدمة نفس السياسة التى استخدمتها منذ عشرات السنوات لاحتواء الاتحاد السوفيتى، دون أن تأخذ فى الاعتبار التغييرات السياسية والأمنية التى طرأت على العالم، وتعلم الصين التى انضمت لأمريكا وقتها فى احتواء الاتحاد السوفيتى من هذا الدرس. رغم إثبات سياسة بايدن الخاصة بإضعاف روسيا واحتواء الصين معا فشلها، ربما يسعى ترامب الذى يراهن على علاقاته القوية مع بوتين على سياسة أخرى تشمل خلق تحالفات من العديد من الدول لاحتواء الصين، وهو الذى عبر عنه أستاذ العلوم السياسية جون ميرشايمر فى كتابه «مأساة سياسات القوة العظمى» بقوله: «هناك بالفعل أدلة قوية على أن دولًا مثل الهند واليابان وروسيا، فضلًا عن قوى أصغر مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وفيتنام، تشعر بالقلق إزاء صعود الصين وتبحث عن سبل لاحتوائها. وفى النهاية، سوف تنضم هذه الدول إلى تحالف متوازن بقيادة الولايات المتحدة لكبح صعود الصين، تماما كما انضمت بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان، وفى النهاية الصين، إلى الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة لاحتواء الاتحاد السوفييتى». هذه الرؤية كانت ممكنة حال عدم قيام بايدن بإشعال الحرب الأوكرانية التى جمعت خصوم الولايات المتحدة، كما أنها تحتاج لجهد كبير لإقناع غالبية الدول فى آسيا التى تتردد فى الدخول فى تحالف لحصار الصين بسبب ارتباطها معها بمصالح اقتصادية كبرى لن تستطيع الولايات المتحدة تعويضها حال خسارتها.