عجائز وشباب يرتادون المقاهي الشعبية والكافيهات الراقية، يدخنون الشيشة أو الجوزة كما يطلق عليها الأجداد القدامى، ينفثون دخانها الكثيف باستمتاع وتلذذ، لا يتوقفون عن المطالبة بحجر معسل آخر ليمنحهم الدفء والاسترخاء، تتنوع طلباتهم بين المعسل القص والسلوم وحتى النكهات الجديدة التى غزت أسواق الدخان، كمعسل الفواكه والكابتشينو والنعناع. مئات المدخنين استبدلوا السجائر التي ترتفع أسعارها بين الحين والآخر بالمعسل، فزيادة سعر المعسل ضعيفة ولا تؤثر كثيرا على جيوبهم، فحجر واحد قد يكلفهم ما بين 10 و15 جنيهًا. ◄ 13 مليون دولار أرباح تصديره كل ثلاثة شهور ◄ أحجار الزينة ولفافات القماش أغرب طرق التهريب ولم يكن المصريون وحدهم من يعشقون حجر المعسل أو البورى الممزوج بالعسل الأسود، فكثير من الدول العربية تتلقف إنتاج مصر من المعسل وتحديدًا ما تصدّره الشركة الشرقية للدخان ما جعل هذه الشركة تحقق أرباحًا هائلة العام الماضى طبقا لتصريحات مسئوليها. ◄ المعسل الملوكي يعتقد الكثيرون أن المصريين عرفوا تدخين المعسل في العصور الحديثة إلا أن دخوله لمصر كان ملكيا، فبحسب المصادر التاريخية أهدى السلطان العثمانى أول شيشة للوالى محمد على باشا، ومنذ اليوم الأول لتدخينها وقع فى غرام الشيشة خاصة أنه كان من كبار تجار الدخان يقول الدكتور محمد سرحان، أستاذ التاريخ العثمانى: عرف المصريون المعسل والدخان قبل دخول محمد على للأراضى المصرية، حيث كانوا يزرعون التبغ بعد فيضان النيل اعتمادًا على الطمى بالوجه القبلى، وكان تجار الدخان ينقسمون بين سبع طوائف أشهرهم تجار التبغ الملفوف بالقاهرة، مشيرًا إلى أن التدخين كان شيئًا أساسيًا لدى المصريين كالمأكل والمشرب، مما لفت انتباه علماء الحملة الفرنسية ومنهم سيمون جرار الذى وصف زراعة وتجفيف أوراق التبغ لدى فلاحى الفيوم. ويضيف سرحان: مع مجىء الاحتلال البريطانى لمصر أصدر الخديو توفيق قرارًا بمنع زراعة التبغ وأقر غرامة كبيرة لمخالفى القرار، إلا أن صناعة السجائر تطورت وبدأ الكثير من المستثمرين الأجانب يجدون مصر أرضا خصبة لتلك الصناعة، ومنهم الأرمن واليونانيون الذين تفننوا فى صناعة المعسل وامتلكوا 20 مصنعًا لإنتاج السجائر والمعسل بالقاهرة والإسكندرية وحتى فى الأقاليم كمدينة الزقازيق وكان أشهرهم ماتوسيان صاحب فكرة تصنيع سيجارة كليوباترا الشعبية وكذلك سركسيان وغيرهما. ◄ صناعة أصيلة يقف «على» ممسكًا بأوراق التبغ الجافة بعد قصها لقطع صغيرة يقوم بفردها فى الهواء قبل إدخالها ماكينة الفرم، لا يعبأ برائحة التبغ القوية فاستنشاقها يوميًا يجعله يعيش حالة من النشوة والخدر اللذيذ، يسارع بإدخالها الماكينة حيث تقوم بتحويل الأوراق الصلبة لقطع صغيرة قبل مرحلة «التعسيل» أى تحويلها للمعسل، يتفاخر «على» بكونه واحدًا من أمهر صناع المعسل فى المصنع الذى يتجاوز عمره 70 عامًا. وبعد فرم الأوراق لقطع صغيرة يسارع على ذو الخمسين عامًا بتجفيفها فى أطباق واسعة بالهواء ليتخلص من الرطوبة، يعاونه فى العمل أحمد (30 عامًا)، المشرف على عملية وزن التبغ قبل تعسيله وتدوين ذلك بكراسة صغيرة، فسر الخلطة جرامات محسوبة. يقول على: بعد تجفيف أوراق التبغ تتم تغطيته بالبلاستيك لبدء عملية التخمير لضمان سهولة التقطيع، وعادة تستغرق هذه العملية عدة أيام، ثم تأتى مرحلة التعسيل وفيها تتم إضافة العسل الأسود بعد غليه فى درجة حرارة عالية على أوراق التبغ المفرومة، مشيرًا إلى أن هناك مصانع تستخدم السكر المقطر بدلا من العسل، ثم نضيف الجلسرين الطبى بنسب محددة ليحافظ على رطوبته وقوامه. وعن أسعار المعسل يقول: تزداد أسعار المعسل من وقت لآخر لكنها بالطبع زيادة بسيطة مقارنة بأسعار السجائر، ويباع الكيس 70 جرامًا بين 15 و20 جنيهًا، أما العبوة النصف كيلو فتتراوح بين 100 و110 جنيهات. ◄ قص وسلوم وعن أشهر أنواع المعسل المعروفة فى السوق المصرى يقول «رشاد.ب» صاحب مصنع معسل: هناك عدة أنواع من المعسل الشعبية فى مصر أشهرها القص والسلوم والزغلول، وهناك فروقات بينهم، فالمعسل القص يعتمد على التبغ الوارد من الهند وإيطاليا أو بعض دول إفريقيا مثل كينيا مما يجعله شديد الحرارة ويفضله كبار السن وعشاق التدخين، كما يتم خلطه بنسبة كبيرة من العسل الأسود ونسبة أقل من الجلسرين، ما يجعل لونه داكنًا، أما السلوم فتكون نسبة مكوناته أقل لذا فهو أخف حرارة على الصدر، والكثير من المدخنين بالدول العربية يطلبونه بالاسم، فضلا عن أنه الأفضل للمبتدئين فى التدخين. ويوضح رشاد: معسل الزغلول هو الأفضل على الإطلاق حيث يتم تصنيعه من تبغ ذى جودة عالية وتضاف له نكهات المختلفة كالفواكه والنعناع والكابتشينو وتقبل عليه النساء المدخنان، كما يعشقه الأجانب حيث لا يمثل ضررًا كبيرًا على الصدر ومخاطره أقل مقارنة بالأنواع الأخرى، إلا أن أكثر ما يهدد الصناعة هو الغش التجارى وزيادة ورش «بير السلم» التى تقلد العلامات التجارية الشهيرة كالشركة الشرقية للدخان مستغلة أنها بعيدة عن أعين الجهات الرقابية من وزارتى الصحة والبيئة، كذلك الرقابة الصناعية والجمارك، حيث تقوم بعض الورش والمقاهى بخلط التبغ بكمية من نشارة الخشب مع عسل أسود مغشوش ◄ شهرة واسعة من جانبه، يقول إبراهيم إمبابى، رئيس شعبة الدخان باتحاد الصناعات: المعسل أحد مصادر الدخل القومى لمصر، حيث يتم تصدير كميات كبيرة منه، فخلال كل ثلاثة أشهر تصل أرباح تصدير المعسل والسجائر بين 12 و13 مليون دولار، ووصلت شهرته لكل دول العالم خاصة أوروبا وأمريكا اللاتينية والدول العربية، وتأتي ليبيا على رأس القائمة حيث تستورد ملايين الأطنان منه، كما أنها تعد بوابة دخول المعسل المصري لدول المغرب العربي خصوصا تونس والجزائر، ثم السعودية التي تحتل المركز الثاني في استيراده من مصر، وهي أيضا بوابة دخوله لدول الخليج كالإمارات وعُمان، مشيرا إلى أنه رغم وجود مصانع بالإمارات لتصنيعه إلا أن جودة المعسل المصري تتفوق على نظيره الإماراتي. أما السودان فتأتي في المركز الثالث، وتعد بوابة عبور المعسل المصري إلى القارة السمراء، فهناك دول إفريقية كثيرة تنتظره على أحر من الجمر. وعن أعداد المصانع يقول: وصل عددها إلى 51 مصنعًا مرخصًا، إذ إنه محظور استخراج تراخيص عمل جديدة للمصانع، والمشكلة الوحيدة التى تواجه هذه الصناعة هى المصانع غير المرخصة التى تقلِّد علامات المصانع المرخصة وتكبدها خسائر بالملايين، فقد تقدر خسارة الشركة الشرقية للدخان 60 مليار جنيه سنويًا. ◄ اتفاقيات التجارة لا يدخل المعسل المصري ضمن اتفاقيات التجارة الخارجية، ويقول هنا هاني سعيد، صاحب مصنع معسل: يعد المعسل المصري الأفضل على مستوي العالم وهناك مصانع تخطى عمرها 120 عاما ومنها النخلة والنصر قبل اندماجها في الشركة الشرقية للدخان، وهذه الشهرة تولدت مع دخول محمد علي لمصر، وحظي المعسل الأسود وهو القص والسلوم بشهرة كبيرة، ما جعل الطلب على استيراده متزايدًا، وأشهر أنواعه معسل مصنع الوردة بشبين الكوم، إلا أن عدم وجود المعسل ضمن بنود اتفاقيات التجارة الحرة بين مصر والدول الأخرى يحرمنا من التغلغل في أسواق أكثر، مشيرًا إلى أن تهريب المعسل المصري عبر حدود الدول التي لا تربطنا معها اتفاقيات رسمية يحرمنا من حصد مكاسب أكبر. ويضيف سعيد: يقوم مصنعي بتصدير كمية كبيرة من المعسل ألمانيا فهي واحدة من الدول الأوروبية التي تضع شروطا صارمة لقبول شحنة من المعسل، حيث تفحص عينة منها في معامل الجودة وإذا طابقت مواصفات الجودة فإنها تبدأ في الاستيراد، إلا أن إبرام دول أخرى اتفاقيات تجارية تتيح لها الدخول في الأسواق العالمية يعود بالأثر السلبي علينا، مشيرًا إلى أن معسل القص والسلوم هو الأكثر جودة مقارنة بالمعسل التركي فتركيا تمتاز بجودة عالية في معسل الفواكه والنكهات الجديدة فقط. يتابع: كما أن معسل مصر براند عالمي، إذ وصل إلى أسواق متنوعة منها السوق الروسية والأمريكية رغم أن الولاياتالمتحدة أصبحت تضم مصنعا كبيرا للزغلول الأسود يملكه أحد اللبنانيين وينتج معسل «الستار باز»، لكن لا يزال النوع المصري يحظي بشعبية كبيرة. ◄ طرق مختلفة وعن طرق تهريب المعسل المصري يقول مصدر، طلب عدم ذكر اسمه: تختلف طرق تهريب المعسل عبر الموانئ البحرية والحدود، فالمعسل من البضائع التي ليس لها إعفاءات جمركية، فيتفنن المهربون في استحداث عدة وسائل لتهريبه، منها التهريب عبر إطارات السيارات، وفي إحدى الحالات تم ضبط طن معسل ماركة زغلول وتفاحتين موجود بمخازن سرية بجسم شاحنة أردنية مغادرة إلى ميناء العقبة، وكذلك أسفل كابينة القيادة، وبصندوق العدة، وبالطبع فإن ذلك التهرب يكبد الدولة خسائر فادحة. وتعتبر لفافات القماش من الطرق الغريبة لتهريبه، وكذا داخل أحجار الزينة، حيث يضع المهربون كمية من المعسل تصل ل500 جرام داخل كل حجر، كذلك داخل عبوات كريمات الشعر ومستحضرات التجميل، فضلا عن طفايات الحريق والفازات، حيث يتم تفريغها من الداخل ووضع المعسل بداخلها.