عمرو سعيد مضت خمسون عامًا على وفاة أم كلثوم، وما زالت كالنجمة العالية البعيدة، لا يمكن مقارنتها بمطرب أو مطربة. إنها العظمة ذاتها، وأكبر دليل على إمكانية وصول الإنسانية إلى درجة الكمال.. صارت أم كلثوم أسطورة فى حياتها، وترسخَّت أسطورتها بعد رحيلها، إذ ألهمت أجيالاً وراء أجيال، لكن يبقى السؤال: هل مجرد الاستمتاع والتلذذ بأغانيها هو الغاية المنشودة، أم أن هناك ما هو أعمق يدعونا للتأمل؟ وهل كانت الموهبة وحدها كافية لصنع مجدها، أم أن هناك عوامل أخرى ساهمت فى صعودها؟ وكيف يمكن بعد خمسين عامًا على رحيلها أن نستعيد سحرها ونقدمه لجيل لم يعرف أغنية تمتد لساعات، بل اعتاد على أغانٍ خاطفة؟ والأهم؛ كيف يمكن أن يكون الاحتفاء بذكراها اليوم مختلفًا عن مجرد إعادة إذاعة حفلاتها؟ هنا يتحدث كتَّاب صارت أم كلثوم بطلة فى أعمالهم ورواياتهم عن موهبتها وعبقريتها فى إدارتها، وكيف صارت «كوكب الشرق» وملكة متوجة على عرش الغناء العربى. يرى الكاتب شريف صالح، صاحب رواية «مجانين أم كلثوم» الصادرة حديثًا، أن النجاح لم يكن وليد الموهبة فقط، بل العديد من العوامل المساعدة التى لعبت دورًا محوريًا. يقول: «هناك مواهب كبيرة لا تصل إلى شىء، هذا ليس نفيًا لموهبتها الإعجازية وقدرة صوتها على الوصول إلى ست عشرة درجة نغمية، وامتلاكها لقوة الصوت والمساحة العريضة والمرونة والحس الدرامى التعبيرى. لكن العوامل المساعدة لا تقل أهمية؛ بدءًا من أب داعم ومشجع برغم أصوله الريفية لم يتردد فى المجىء بها إلى القاهرة وتوفير أفضل الملابس لها، وأهم العازفين لتشكيل تختها. مرورًا بأساتذة عظام، خصوصًا أربعة، وهم أستاذها الشيخ أبو العلا محمد الذى روض صوتها العفى وأكسبه طاقته التعبيرية بسبب ولعه بالقصائد وعنه ورثت ذلك، ثم الشيخ زكريا أحمد الذى شجعها أيضًا على الاستقرار فى القاهرة وساعدها فى تقديم حفلاتها الأولى بعلاقاته، ثم محمد القصبجى الذى أسس أول تخت لها وتولى قيادته لعشرين عامًا، وقدم لها نقلة موسيقية غير مسبوقة، ورابعهم أحمد رامى شاعرها المفضل ومستشارها الأمين والوحيد الذى استمر معها منذ البداية إلى النهاية. يضاف إلى ذلك ذكاؤها المهنى اللافت فى تشييد اسمها وجعله مؤسسة قائمة بذاتها برغم التقلبات السياسية وتغيرات المجتمع المتسارعة، واستعانتها بأفضل المواهب فى كل عصر كى تعبر عن حساسيته، لذلك أغانى البدايات تختلف جذريًا عن النهايات. والسبب الرابع قوة إرادتها الفولاذية كامرأة وضعت فنها وجمهورها فوق أى اعتبار آخر، أما السبب الأخير فيتمثل فى تعبيرها الفريد عن كافة عواطف شعبها الروحية والقومية والذاتية، بصورة مثالية». ظاهرة فنية «الموهبة وحدها لا تخلق المعجزة» هكذا اتفق الباحث كريم جمال صاحب كتاب «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى» مع رأى شريف صالح، وأكمل: «بالطبع لم تقم تلك الأسطورة على فرادة الصوت والموهبة فقط، بل تحولت أم كلثوم إلى ظاهرة فنية كاسحة فى عصرها، وأهم العوامل بجوار صوتها الفريد هى شخصيتها الفنية، وسيطرتها على محيطها الفنى والإنسانى، وتسخير كل الطاقات المتاحة حولها لخدمة مشروعها، دون الدخول فى متاهات المعارك الصحفية، أو الانشغال بالحياة الشخصية على حساب نتاجها الغنائى، وكذلك هناك عامل الثقافة العامة، وتوسيع مداركها الشعرية دائمًا، والاستفادة من دوائرها الثقافية والرغبة فى توسط دائرة النخبة المصرية المثقفة». وأضاف: «أيضاً هناك اشتباك أم كلثوم مع واقعها المصرى، وعدم وقوفها بعيدًا عن الأحداث السياسية فقد ساعد ذلك بلا شك فى ترسيخ صورة مقدسة لأم كلثوم، باعتبارها نموذجًا فريدًا فى البيئة الفنية المصرية، واعتبارها صورة نسائية مثالية للقومية المصرية، وربما بعد ذلك للقومية العربية فى زمن المد العروبى والناصرى». شخصية منفتحة أما د. أحمد يوسف على أستاذ النقد الأدبى والبلاغة، فيشير إلى أن سر عبقرية أم كلثوم هو وعيها الكبير بالتحولات الاجتماعية والثقافية التى مر بها المجتمع المصرى، وقدرتها على الاستجابة بصدق لمتطلبات هذه التغيرات. ويكمل: «الفكر والفن والثقافة مزيج عجيب صقل موهبة أم كلثوم وبلورها وحافظ عليها عبر السنين. وكانت مصادر هذه الثقافة متنوعة، كما رأينا فى حالات مثل أحمد رامى وطلعت حرب ومصطفى عبد الرازق وكبار الكتاب الصحفيين. كما كانت صلتها بالتراث الشعرى فى عصور ازدهاره وانتظامها فى قراءة عيون القصائد عند البحترى والمتنبى والشريف الرضى ومهيار وأبى فراس الحمدانى موازياً لحرصها على قراءة كتاب الأغانى وهو سفر عظيم فى تاريخ الغناء العربى، وقد مكَّنها من ذلك حفظ القرآن الكريم وترتيله ترتيلاً صحيحاً حسب أصول القراءات. لذلك توجهتْ منذ البداية إلى غناء القصائد والتواشيح، وكانت لها صلة قوية بكتابين هما علامة فى البيان العربى؛ أعنى الأيام لطه حسين والشوقيات التى صارت عنواناً لديوان شوقى». الشخصية الكلثومية ويرى صاحب رواية «زيارة أخيرة لأم كلثوم» الكاتب على عطا، أن هناك عوامل خارجية لعبت دورًا فى ترسيخ مكانة أم كلثوم. يقول: «الشخصية الكلثومية إذا جاز التعبير هى نتاج ما هو أوسع وأعمق من الموهبة وعناصر الدعم التى تشكَّلت من كوكبة كتَّاب وموسيقيين ومثقفين فضلاً عن الظرف التاريخى والجغرافى المحلى الذى بدأ منه الانطلاق إلى العالم بأسره والتأثير فى أجيال متتالية إلى مدى غير معلوم». فنانة الشعب ويحدثنا الكاتب الصحفى والروائى محمد بركة عن قدرة «فنانة الشعب» على إدارة موهبتها قائلًا: «قد تمتلك نجاحاً ولكنَّ صنع أسطورة يتطلب ما هو أكثر من موهبة؛ لأنه عند الحديث عن أم كلثوم نحن لا نتحدث عن مجرد قصة نجاح ولكن أسطورة صُنعت من طبقات عديدة وعوامل مختلفة، وعلى سبيل المثال من ضمن هذه العوامل هالة الغموض التى أحاطت بحياتها الخاصة، حيث رفعت شعار ممنوع الاقتراب أو التصوير. كانت أم كلثوم التطبيق الحرفى لكلمة (نجمة) أى البعد عن متناول البشر.. تطل عليهم من السماء، ونلمح أيضاً تركيزها الشديد على بناء هرم عظيم من المجد، بحيث تدهس أى شىء آخر يعوقها عن بلوغ المجد، فسوف تلاحظ أنها لم تكن تريد النجاح بل تريد المجد ودفعت ثمناً باهظاً لذلك، فأصبحت شهوة المجد أقوى لديها من غريزة الأمومة على سبيل المثال، فقد ضحت بالحب والزواج والإنجاب وتكوين أسرة، وتحولت لماكينة منضبطة تحصد المجد ولا شىء غيره.. رواية «حانة الست» التى صدرت قبل أربعة أعوام مهَّدت الطريق وفتحت المجال لأعمال كثيرة للغاية تفتش فى الوجه الإنسانى المسكوت عنه والقصة المحجوبة لأم كلثوم، إذ حاولت تنحية الأسطورة جانباً والتعامل مع أم كلثوم الإنسانة». وعن أسطورة «كوكب الشرق» يقول بركة: «حوَّلتْ أم كلثوم كل شىء فى حياتها إلى مادة تتغذَّى عليها لبناء أسطورتها وحصد المجد، تحول كل شىء إلى سلم يقربها من المجد المنشود. كانت كل الأسلحة بالنسبة لها مشروعة، حتى لو كان هذا السلاح هو استغلال مشاعر الآخرين والعزف على أوتارها». إحياء الماضى وحول أفضل الطرق لإعادة إحياء إرث أم كلثوم، يقول كريم جمال: «هناك خلط شائع بين تسجيلات أم كلثوم الغنائية وبين حفلاتها المسرحية، فلثومة أغانٍ قصيرة لا تتعدى عشر دقائق، مثل أغانيها فى الأفلام وبعض أغانيها الوطنية، وحتى أغانيها العاطفية، وتسجيلاتها الإذاعية لا تتجاوز نصف الساعة، وهناك نسخ تجارية على شبكة الإنترنت تحت عنوان «نسخ قصيرة». ربما تكون تلك التسجيلات مدخل للأجيال الجديدة للتعرف على السيدة حتى لو بشكل بسيط، وأيضاً هناك بعض الأغانى القديمة لأم كلثوم عادت إلى الواجهة بعد انتشارها على منصات التواصل الاجتماعى مثل أغنية «فى نور محياك» التى تحولت إلى - تريند - خاصةً عند الأجيال التى لم تتجاوز العشرين عامًا، وهذا مؤشر قوى على وجود تواصل حى بين الست والأجيال الجديدة». يستدرك: «لكن اسمح لى أن أقول، إن التطويل والإعادة فى الغناء ليس عيبًا، وقصر المدة أو سرعة الغناء ليس دليلاً على تقدم حضارة أو تغير الأجيال أبدًا، نعم إيقاع وآليات العصر تغيرت، لكن ما زالت هناك أوبرات عالمية تُعزَف إلى اليوم وتطول مدتها عن أربع ساعات، فالعمل الجيد يبقى ويستمر مسموعًا حتى مع تغير شكل العصر وإيقاعه». فى الوعى العام أما على عطا فيرى أن إحياء ذكراها يحدث تلقائياً، وإلا كيف نفسِّر ارتباط أجيال لم تعاصرها بأغنيات قدمتها يقترب عمر بعضها من مائة عام. ويضيف: «ومع ذلك يبقى أن تلتفت وزارة الثقافة إلى أهمية تنظيم فعاليات تقدم خلالها أغنيات أم كلثوم، وترعى المواهب الواعدة فى الموسيقى والغناء». وعن الطريقة التى يفضلها للاحتفاء باليوبيل الذهبى لذكرى رحيل أم كلثوم يقول: «الاحتفاء بثومة أمر لا يخص مصر وحدها، بل هو شأن عربى من المحيط إلى الخليج، وهو أيضا شأن إنسانى بما أن تأثير كوكب الشرق بلغ العالمية، وهو ما لم يتحقق بالغناء إلا عبرها وعبر مجموعة من الموسيقيين تجلت مواهبهم معها بالذات، ومنهم القصبجى والسنباطى وعبد الوهاب وصولاً إلى الموجى وبليغ». بينما يعزز د. أحمد يوسف هذا الطرح فيقول: «لا ينبغى تذكر أم كلثوم فى المناسبات بل من الضرورى أن تكون حاضرة فى وعينا الفكرى والموسيقى والغنائى كل الأوقات وأن نقدمها للأجيال بوصفها رائدة من رواد الفكر والفن والثقافة فى مصر مثل طه حسين والعقاد والحكيم ونجيب محفوظ، وأن نتيح تقديم قصائدها الوطنية والدينية والتاريخية والعاطفية». ويبرهن شريف صالح على تربع أم كلثوم على القمة.. حية وحاضرة بقوة وخارج المقارنة. لذلك يظهر تحفظه على تعبير «إحياء» وإنما يفضل مفهوم «تجديد» المشروع الكلثومى بكل ما يعنيه من قيم قومية وجمالية وفنية. ويكمل: «هذا التجديد يتمثل فى تقديم سيرتها بطريقة قصصية جذابة فى المناهج التعليمية بوصفها أعظم سيدة مصرية فى القرن العشرين، والتركيز على كفاحها ودورها الراسخ فى خدمة وطنها. وإطلاق فرقة غنائية باسمها تجوب كافة مدن مصر والدول العربية وإطلاق مسابقة راقية باسمها للغناء الكلاسيكى». وجه إنسانى وفى نقطة جديدة يتحدث محمد بركة عن كيفية ربط صوت «قيثارة الشرق» بالأجيال الجديدة: «هناك خطأ تقليدى نقع فيه أحيانًا، حيث نتصور أن صوتها سيصل تلقائيًا إلى الأجيال الجديدة بما أنها أسطورة. لا. هذا خطأ قاتل، فالأجيال الجديدة لها آلياتها وأساطيرها الخاصة. لذلك، لا بد من إعادة تقديم أم كلثوم للجيل الجديد بأدواته المعاصرة، ومن بينها وسائل التواصل الاجتماعى. فى رواية «حانة الست» اخترت أن أحكى قصة أم كلثوم بشكل متخيل، مركزًا على جانبها الإنسانى وليس على سرديتها الرسمية التقليدية. من خلال الرواية، يستطيع القارئ أن يكتشف أن تقديم الوجه الإنسانى لأم كلثوم هو ما سيجعلها قريبة من قلوب الجيل الجديد.. والفكرة هنا هى أن إبراز الوجه الإنسانى لأم كلثوم يوصل للناس عبقريتها؛ بما يحمله هذا الوجه من ضعف وهشاشة وغضب وغيرة، وغيرها من المشاعر الإنسانية المتناقضة. ذلك ما يُبرز عظمتها كمطربة استثنائية وفريدة. أما أم كلثوم التى تُحاط بهالة من القداسة، فستظل بعيدة عن الأجيال الجديدة التى لا تريد المزيد من المقدسات فى حياتها». بين الأرشيف وإعادة التقديم مع إعلان وزارة الثقافة أن عام 2025 سيكون «عام أم كلثوم»، تتعدد الرؤى حول أفضل الطرق للاحتفاء باليوبيل الذهبى لرحيلها، بحيث لا يكون مجرد استعادة تقليدية لإرثها، بل إعادة تقديمه بشكل يواكب العصر. يرى كريم جمال أن أفضل طريقة للحفاوة بالست هى تخصيص لجنة تتولى البحث عن مفقوداتها الغنائية وإعادة أرشفة تسجيلاتها الإذاعية، بالإضافة إلى بث بعض الحفلات التى لم تُذع إلا نادرًا، والبحث فى أرشيف التلفزيون المصرى عن حفلاتها المصورة والمفقودة بحجة أنها تالفة أو غير صالحة للعرض، والعمل على ترميمها رقميًا لتصبح متاحة من جديد. بينما يقترح د. أحمد يوسف الاحتفال بما صدر عنها من كتب فى مصر والعالم، وإعادة نشر سيرتها، وأن يعاد تقديم المسلسل المعروف الذى كتبه محفوظ عبد الرحمن وأخرجته إنعام محمد على، وكذلك أفلامها الستة التى لا تزال تحمل قيمة تاريخية وفنية. يعلق: «لقد أصدرت عنها كتاباً اسمه «أم كلثوم الشعر والغناء» ركزت فيه على سمات عبقريتها فى الغناء واختيار النصوص». الدور المجتمعى فى الختام يقدم كريم جمال لمحة من ملحمة بناء أسطورة «شهيدة العشق الإلهى» قائلًا: «قداسة أم كلثوم ودورها فى التأثير على الجماهير لم يكن وليد مرحلة معينة، ولا يمكن بحال من الأحوال اختصار دورها المجتمعى بعد ثورة يوليو 1952، فظهور أم كلثوم وارتباطها بالنخبة المصرية التى تشكلت فى أعقاب ثورة 1919 ساعد فى تكوين تلك الهالة المقدسة التى أحاطت بها بعد ثورة 1952، ولكن المهم والأكيد أن ذلك الدور كان مرتبطًا برغبة داخلية لديها فى تصدر للمشهد، وأن يكون لها دور مجتمعى يوازى دورها الفنى الفارق، كما أن النخبة المصرية السياسية ساعدت فى بلورة ذلك الدور وتأطيره، سواء كان ذلك قبل ثورة 1952 حين مُنِحت أم كلثوم وسام الكمال من الملك فاروق عام 1944، أو حتى بعد الثورة وصولاً إلى دورها المركزى فى تخطى الهزيمة النفسية والمعنوية بعد كارثة 1967».