لم تقل تطورات الأسبوع الماضي في سرعتها وحدتها عن الفترة السابقة فى الأزمة المشتعلة التي تعيشها المنطقة وتحبس لها أنفاسها منذ 7 أكتوبر 2023، لكن تطورات الأسبوع الماضي بشكل خاص كانت وبحق منعطفا قويا في مسار الأحداث. قبل نحو عشرة أيام، أعلنت حركة حماس عزمها وقف تسليم الأسرى الذين كان مقررًا الإفراج عنهم السبت التالى حتى تلتزم إسرائيل ببنود الاتفاق وأولها تنفيذ الجزء المتعلق بالبروتوكول الإنساني، من إدخال خيم متنقلة وكرافانات ومعدات رفع الحطام، وما إن ظهر هذا الإعلان حتى بدا أمام الجميع بأن الفرصة سنحت لرئيس الوزراء الإسرائيلي وأئمة اليمين المنفلت باستئناف الحرب مرة أخرى، فهذا ما كانوا يرجونه بشدة، وهذا هو عز الطلب الذي ذهب نتنياهو إلى واشنطن محاولًا إقناع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب به، وهذا هو ما رفضه ترامب رغم حبه واعتزازه بإسرائيل والتزامه تجاهها، وظهر أمام الجميع كيف التقط اليمين الإسرائيلي أنفاسه ووجدها الفرصة التاريخية، فترامب الآن هو نفسه يهدد حماس إذا لم تفرج عن الأسرى، بالكامل، فى الموعد المحدد، ستفتح عليها أبواب الجحيم. ◄ فرصة صعبة لكن الوضع تبدل فى إسرائيل، ورغم النشوة الأولى لنتنياهو بأن الفرصة أخيرًا حانت لاستئناف الحرب، إلا أن بعض الأصوات العاقلة علا صوتها، من بينها تحذير رئيس الشاباك الذي قال فى أعقاب محادثات أمنية مطولة إنه لا يحبذ فكرة العودة الى الحرب مرة أخرى فى غزة إذ سينذر ذلك ب«سيناريو مخيف»، دون المزيد من التفاصيل، وبعده ظهر الموقف الرسمي فى تل أبيب والملتزم بإتمام الصفقة وفق ما تم الاتفاق عليه، والتعهد بإدخال مستلزمات البروتوكول الإنساني للقطاع. وفي محاولة لتفسير ذلك التحول، نشر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى تحليلًا بعنوان «ترامب أعطى الضوء الأخضر لاستئناف الحرب فى غزة.. لكن هل يريد ذلك نتنياهو الآن؟!»، وقال التحليل إن نتنياهو أمضى 15 شهرًا يقاتل فى القطاع دون أن يستطيع أن يهزم الوجود العسكري لحماس أو أن يحرر الأسرى أو أن يحدد خطة واقعية لليوم التالي بعد أشهر من القصف العنيف، وقد ظهر ذلك جليا خلال جولات تبادل الأسرى التى سمحت بها الصفقة. وبالتالى فإذا كان نتنياهو ينوي المضي مجددًا في هذه الحرب، فسيكون عليه أن يقنع الإسرائيليين بأهداف قابلة للتحقيق والتنفيذ، وكذلك أن يقدم لهم سيناريو واقعيًا للفوز فى هذه الحرب، هذا ما كتبه الباحث ديفيد ماكوفسكي الزميل البارز بمعهد واشنطن، لكن هذا لا يمكن أن يكون «السيناريو المخيف» الذي حذر منه رئيس الشاباك، فما هو ذلك السيناريو؟! ◄ السيناريو المخيف طوال أشهر الحرب كان نتنياهو معلنا تمسكه بالأهداف السالف ذكرها، حتى مع علمه باستحالتها تقريبا، بينما فى الحقيقة كان ينفذ هدفًا أسمى وهو جعل سبل الحياة فى القطاع مستحيلة بالنسبة لأهله، وهو فى نظره نصف الطريق من أجل إتمام التهجير والاستيلاء على الأرض، وهو مطلب تقليدي للصهاينة، حتى إنه خلال الأيام الأخيرة كان يدعو هو وأعضاء حكومته لفتح باب الهجرة الطوعية، بظنهما أن الفلسطينيين سيفضلون ترك أراضيهم المدمرة على العيش فيها، وهو ما نقضه أهل القطاع بشكل واضح عندما فضلوا العودة للشمال المنكوب على البقاء فى جنوب القطاع حيث أطلال حياة، إذًا، فطوال ال15 شهرًا من الحملة الإرهابية، كان نتنياهو ويمينه المُحرض من قتلة الأطفال، يريدون تدمير القطاع بأكمله من أجل إفراغه من مظاهر الحياة، مع التقديرات المدسوسة بين وقت وآخر بأن القطاع سيحتاج لسنوات طويلة جدا من أجل أن يعود صالحا للسكن، لكن آمال الإسرائيليين تحطمت بشكل واضح فى الأيام الأخيرة بسبب الموقف المصري القوى والتاريخي والرادع، وهو الذي هدد بأن التهجير يعنى نهاية السلام بين مصر وإسرائيل، ويعنى أن اتفاق كامب ديفيد الأيقوني سيشهد نهايته بعد خمسة عقود. حاول البيت الأبيض بقيادة دونالد ترامب الضغط على قوة ومتانة الموقف المصري، عبر التلفيق وبأسلوب الكمين، بأن الموقف الأردني أمكن استقطابه وتأمين موافقته على «المهاترات الترامبية» بتهجير الفلسطينيين لمصر والأردن، وبعد أن ظن العاهل الأردني أن موقفه خلال لقائه بترامب في البيت الأبيض لم يكن واضحًا أو أن ترامب تحدث بلهجة توحي بتوافق الرؤى، لم يعجب ذلك العاهل الأردني، وما إن خرج من المكان وعاد لمقره، نشر على حسابه الرسمي بمنصة إكس عدة منشورات متتالية تؤكد وتشدد على الموقف الأردني الرافض للتهجير، والمتضامن مع مصر، والمؤيد للخطة العربية التى تصيغها مصر. حتى أن المتحدثة باسم البيت الأبيض أوضحت في مؤتمر صحفي لاحق بأن الموقف الأردني رافض لخطة ترامب. ◄ الثبات المصري ولا يبدو ما حدث فى البيت الأبيض إلا أحد الأسباب الإضافية لمزيد من الإيضاح للموقف المصرى، إذ كشفت مصادر رفيعة عن أن الرئيس عبد الفتاح السيسي لن يلتقي الرئيس الأمريكي إذا كان ملف التهجير على طاولة المناقشات، وهو موقف سياسي فريد، أضاف مزيدًا من البريق للموقف المصري التاريخي والمشرف الحالى من الأزمة، وفي مسعاها لتفسير ما حدث، حاولت صحف مثل «وول ستريت جورنال» التشكيك فى أصالة القرار، وقالت إنه من أجل الشعبية، لكن الحقيقة أنهم لا يعرفون أن المصريين وبحق هم على قلب رجل واحد عندما يتعلق الأمر ببلادهم. «وول ستريت جورنال» تحدثت عن مفردات «النخبة» و«الشعبية» لأن هذه هى مفردات نظمهم فى الغرب، حيث تؤخذ المواقف بناء على شعبيتها ويتجنب متخذ القرار إغضاب المشاركين فى استطلاعات الرأى! لكن عندما يتعلق الأمر بمصر، فإن الوضع جد مُختلف، فالمصريون أظهروا كيف أن الأصالة والشجاعة والتوكل على الله دون التواكل هى مفردات تكوينهم الجينى، وكيف في وقت الشدة يصبحون كالبنيان المرصوص، يقاتلون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم. ◄ مواقف كاشفة ما حدث فى الأيام الأخيرة وبحق، هو فرصة لإعادة النظر فى أمور عديدة، أولها أننا لسنا ضعفاء، ولم تنل الأزمة الاقتصادية من قوتنا، أو من قرارنا، أو من سيادتنا، كما أن مصر لاتزال هي قلب العروبة النابض، وكما قال الشاعر: «أنا إن قدر الإله مماتي، لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي»، فمصر هى القادرة على لم الشمل العربي وتقديم رؤى صحيحة وحلول واقعية للقضايا والتحديات فى المنطقة، هي فرصة لنا للإحساس كيف أننا نعيش بكرامة فى وطن يحميه جيش من أهله على استعداد للموت في سبيل وطنه، فرصة للنظر إلى قوتنا التى ردعت إسرائيل عن المواجهة معنا رغم دعم منقطع النظير ستتلقاه من أمريكا، وأكثر من ذلك فرصة للاستمتاع بفكرة تحدي المصريين لأقوى دولة فى العالم في وقت يقودها فيه رجل ذو تخبط وتشتت مزمن فى رؤيته السياسية، وهي فرصة كذلك للنظر كيف أننا كنا حريصين على إعلان موقفنا على الملأ دون أى غموض أو شبهة تقديم تنازلات. لكن الأمر لا يتوقف على ذلك، فقد قدمت التطورات تفسيرًا لماذا لم نغامر بجيشنا فى مناطق أخرى ونُسارع لاستخدامه فى حل خلافات أخرى مع دول؟ لماذا لم نسقط فى كمائن معارك تستنزف جيشنا وتسليحه، مثل روسيا في أوكرانيا أو أمريكا في أفغانستان؟ وكيف أن جيشنا هو بالأساس للأرض والدفاع عنها فيما نترك للسياسة فرصة حل الخلافات الأخرى؟.. ما حدث أثبت أصالة الشعب المصري وحكمة قيادته وعدم استعداد مصر لبيع قضايا العرب أو المساومة عليها، وأن القيادة والزعامة الإقليمية ليست بالمال، بل بالأمانة والإخلاص وقبل ذلك بالقوة الشديدة والرادعة، وهذه الفرصة التاريخية وبحق هى توثيق لدورنا كجيل يحيي هذه اللحظات، فى دعم القضية، واستعداده للموت دفاعًا عن بقاء الفلسطينيين فى أراضيهم. ◄ الواقع رغم كل ذلك، من السذاجة أن يفكر المرء فى أن القوة المصرية التى ظهرت فى أبهى صورها لن تثير الضغائن والأحقاد عند أعداء مصر أو حتى حلفائها، فالقوة عند البعض تظهر الضعف عند البعض الأخر، والردع بين طرفي مواجهة يظهر لكل منهما ما يتحسبه من الآخر، ويعتقد محللون أن الولاياتالمتحدة لن تنسى لمصر هذا الموقف الذي تحدتها فيه، وأن الرد سيكون بضغوط كبيرة لا قبل للمصريين بها، لكن التقدير الآخر يعتبر أن هذا الكلام مجرد من الواقع، فالولاياتالمتحدة لم تكن فى شراكتها وتحالفها مع مصر من قبل، من باب حب مصر والمصريين، بل من باب المصلحة المتبادلة، وكانت العلاقات بين البلدين قد شهدت مراحل من القوة والضعف، التوافق والخلاف، بعضه كان جليا ظاهرا، والآخر مستترا خلف الأبواب، ومع ذلك فقد كان فى كل مرة أسباب تجاوز الخلافات والمضي قدما فى الشراكة الاستراتيجية هي الأقوى. ◄ أحلك الأوقات أما أحلك أوقات الخلاف الظاهر فكان عندما رفضت مصر إرسال قوات للمشاركة فى حرب العراق عام 2003، ورفضت ونددت بالعدوان على البلاد وإسقاط الرئيس الراحل صدام حسين، وقد استتبع ذلك فترة من الضغوط التى مورست على مصر بذريعة ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وذلك بكم منقطع النظير من البجاحة السياسية، إذ تبنت هذه الضغوط نفس الحكومة التى أدانتها صور موثقة لانتهاكات عديدة فى حرب العراق، كما تم اقتحام السفارة الأمريكية فى القاهرة عام 2012 ورفع علم داعش هناك إبان حكم الجماعة المحظورة، وقد تسبب ذلك فى أزمة لكن دون أن تطول، أما الرغبة الجماهيرية العريضة التى أطاحت بحكم الإخوان فى مصر في 30 يونيو 2013، فقد تركت بصمتها على الإدارة الأمريكية التى كانت حليفة لهذا الجماعة وتسبب ذلك أيضًا ببعض التوترات، لكن فى كل مرة كانت أسباب تجاوز الخلافات أقوى من أسباب انهيار العلاقات الاستراتيجية، قد تعيد أمريكا النظر فى الأمر، لكنها إذا خططت لإضعاف مصر على المدى الطويل من أجل كسر إرادتها وانتهاك سيادتها، فسيحدث ذلك فى الوقت الذي ستستثمر فيه مصر مع أطراف دولية أخرى لمزيد من القوة. ◄ للزمن والتاريخ أثبتت الأزمة التاريخية عدة أمور هامة، أولها أن مصر لا تعتدي على أحد أو تستقوي على أحد لكنها تحارب وفق عقيدة قتالية ثابتة لا تتغير، وثانيها أن اتفاق كامب ديفيد للسلام عام 1979 لم يفصل مصر عن قضاياها ولم يحيّد أقوى دولة عربية عن القيام بدورها فى الصراع العربي الإسرائيلي، وثالثها أنه رغم اتفاق السلام، لم ينفتح الشعب المصري على بلد عدوانى ولن تتغير عقيدتنا ضده فهو العدو الأول لنا وللعرب والمسلمين، وأخيرًا، إن مصر وإن لم تستطع ردع النكبة الأولى فى تهجير عام 1948، لكنها الوحيدة الآن من بين دول المنطقة التى منعته بحكمتها وقوة سواعدها.