حفل الأسبوع الماضي بتطورات كبيرة في ملف العدوان الإسرائيلي على غزة.. وتسارعت وتيرة تلك التطورات خلال زيارة لرئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، حيث التقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والذي أطلق بدوره تصريحات صدمت الكثيرين وهددت مكانة الولاياتالمتحدة تقليديا كدولة راعية للسلام في الشرق الأوسط. أظهر ترامب لنتنياهو دعما كبيرا، إذ قال إن الولاياتالمتحدة ستأخذ غزة، وأن التهجير لايزال هو الحل رغم أن مصر والأردن عارضتا استقبال الفلسطينيين، ومن ثم ربما يذهبون إلى أماكن أخرى.. ورد على سؤال بشأن خطوته المزعومة وما إذا كان سيحتاج لإرسال الجيش الأمريكي إلى غزة لتنفيذ خطته بالاستيلاء على إقليم ذي سيادة (بحسب نص السؤال).. وأجاب «ربما».. لكن فى الحقيقة لم يكن ذلك مراد نتنياهو من الزيارة على الإطلاق. فنتنياهو يعرف جيدا أن تصريح ترامب معناه التراجع عن تهجير الفلسطينيين.. رغم أنه أكدذلك المعنى أكثر من مرة خلال اللقاءات مع الصحفيين، عاد وتراجع عن هذه التأكيدات خلال المؤتمر الصحفي مع نتنياهو وقال إن الدولتين مصر والأردن تعارضان ذلك، وبالتالى اعترف برفضهما دون تكرار كلمته «ستفعلان ذلك».. وكانت هذه أول صدمة لنتنياهو.. أما الصدمة الثانية فهى إصرار أبداه ترامب على استئناف صفقة التهدئة بمراحلها الثلاث.. هذه المراحل الثلاث لكل منها عقبة كبرى.. أما عقبة المرحلة الأولى فكان إقناع إسرائيل أصلا بوقف عدوانها.. وفى الحقيقة لم تقتنع لكنها أذعنت لتوجيهات ترامب.. أما المرحلة الثانية فى الصفقة فعقبتها الأساسية الاتفاق على خطة لليوم التالى وترغب إسرائيل فيها بأن تنسحب حركة حماس تماما من المشهد السياسي بالقطاع.. وهو أمر ترفضه حماس.. أما عقبة المرحلة الثالثة فهو الاتفاق على إعادة إعمار القطاع.. والذي يتوقع أن تساوم به إسرائيل كآخر ورقة فى يديها للضغط لإخراج حماس من المستقبل السياسي للقطاع. ترامب يريد جليا إتمام الصفقة.. وقد أشارت مقالة كتبها الدكتور بيتر بلووم الأستاذ بجامعة إيسيكس البريطانية في موقع «كومن دريمز دوت أورج» كيف إن شغف ترامب كقطب عقاري كان يلوح في ذهنه وهو يتحدث خلال المؤتمر الصحفي عن جمال منطقة غزة وبدا أنه يرى فيها فرصة استثمارية لا تعوض. لكن نتنياهو كان يأمل من خلال زيارته أن يقنع ترامب بعدم الذهاب للمرحلة الثانية من الصفقة.. كان يأمل فى أن يسمح له باستئناف الحرب لاسيما بعد المشاهد التي استفزته في تسليم الأسرى الإسرائيليين لدى حماس.. مرة تلو الأخرى.. والتي بدا فيها أن حماس لا تزال موجودة كمقاومة أرغمته على وقف الحرب لتسلم أسراه، لكن الأهم: كنخبة سياسية قادرة على التصرف والقرار والتفاوض. ◄ اقرأ أيضًا | اتفاق غزة مهدد بالانهيار في ماذا يحدث؟ | فيديو ◄ رد فعل نتنياهو حاول نتنياهو أن يخفي إحباطه من اضطراره لإرسال وفده إلى قطر لاستئناف مفاوضات المرحلة الثانية. وهو الذي كان أرجأ سفر الوفد على أمل أن يسمح له ترامب باستئناف الحرب.. وأفادت التقارير أن نتنياهو لم يعط الوفد صلاحيات القرار والتنازل وأنه فقط وجه بسفره لإظهار النية الصادقة أمام ضغوط ترامب باستئناف التفاوض. واستخدمت في البيان الإسرائيلي كلمة «ضغوط» للإشارة إلى موقف البيت الأبيض من نتنياهو. لم يربح نتنياهو فعليا شيئا من زيارته سوى بعض التصريحات الصادمة التي سرعان ما تخلى عنها ترامب شخصيا في موضوع التهجير والسيطرة على قطاع غزة وكذلك فى رفضه القاطع (فى الأبواب المغلقة) باستئناف الحرب رغم التصريح علنا بأنه «لا يضمن استمرار اتفاق وقف إطلاق النار». أكثر من ذلك، فكانت إهانة شخصية تلقاها نتنياهو قبل ساعات قليلة من لقاء الرجلين فى البيت الأبيض، إذ نقل موقع أكسيوس عن مصدر مقرب من ترامب أن الرئيس الأمريكي «لا يحب بيبي (بنيامين نتنياهو) ولا يثق فيه» كما لم ينس له مبادرته السريعة لتهنئة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن إبان فوزه فى الانتخابات عام 2020 بعد نتائج شكك فيها ترامب.. وهى تهنئة يبدو أن ترامب أخذها على محمل شخصي واعتبرها تنم عن خيانة للخدمات التى قدمها لإسرائيل خلال فترة حكمه بين 2016 و2020. ◄ فكر ترامب والواقع أن منهج التناقض هو المنهج المفضل للرئيس الأمريكي إذ يجعله دائما شخصا يصعب التنبؤ بقراراته.. ومن ثم يحتفظ بكل الخيارات متاحة حتى اللحظة الأخيرة قبل إعلان قراره، وأحيانا يغطى ترامب التخبط والضبابية فى موقفه، باستخدام سلوك دبلوماسي غامض يعتمد الرسالة وعكسها. ولم تكن تصريحاته عن غزة إلا أحد الأمثلة على ذلك التخبط.. ففي حين شكك فى استمرار الصفقة وقال «إنها ليست حربنا»، شدد مبعوثه للمنطقة بسعي واشنطن للعمل على إتمام الصفقة والإفراج عن كل الأسرى.. وفيما يتعلق بمستقبل غزة، وهو قضية محورية لنتنياهو للمضي قدما فى الصفقة، تجاهل ترامب تعقد المشهد وظن أن الحلول سهلة وبسيطة وتفتقد لشجاعة التنفيذ.. وتحدث عن نقل الفلسطينيين للخارج.. لكن الواقع له معطيات مختلفة تماما. وإذا كان ترامب قد سجل فى أجندة قراراته قبل عودته للسلطة السعي للحصول على قناة بنما وجرينلاند ثم ضم إليهما على سبيل السخرية كندا، إلا أن غزة لم تكن على أجندة اهتماماته لكى يضمها للولايات المتحدة.. ومن قبل انتخابه لم يرغب ترامب إلا فى وقف الحرب.. وهذا يتعلق ببعد محوري في فكره، يؤشر إلى أن كل ما قيل كان على سبيل الضغط السياسي وليس أكثر. فالرجل بصفته تاجرا هو كاره للحروب والنزاعات التى تعطل التجارة وأسعار السلع وسلاسل الإمداد واستقرار الأسواق.. وكان ترامب هو من بدأ التفاوض لإخراج القوات الأمريكية من أفغانستان (وأتم بايدن خطوة الانسحاب).. وكان الرجل وراء حسر دور وعدد القوات الأمريكية فى العراق.. كما وعد قبل انتخابه بوقف حرب أوكرانيا، وكذلك تعهد فى الأيام الأخيرة لحملته بوقف حرب غزة. إذن، فمسألة إرسال قوات للخارج لكى تخوض قتالا للسيطرة على إقليم ذي سيادة أمر غير وارد.. حتى أن مسألة ضم جرينلاند وقناة بنما لم يشار فيها حتى الآن لدور محتمل للجيش الأمريكي. وكل ذلك يؤكد على أن كلامه كان من باب الضغوط وليس الخطط المستقرة التى بت فيها مع مستشاريه واتخذ القرارات النهائية بشأنها.. والسؤال هو لماذا تراجع؟ ◄ تراجع ترامب أحدثت تصريحات ترامب بشأن غزة زلزالا امتدت توابعه للعالم أجمع وفوجئ الرئيس الأمريكي برد فعل داخلى ودولى واقليمي لم يحسب له حساب، أما فى الداخل، فقد حوصر أعضاء إدارته فى المؤتمرات الصحفية بالأسئلة التى تطلب توضيحات حول ما يقوله البيت الأبيض! لاسيما وقد شهدت البلاد فى الشهور التى سبقت الانتخابات مظاهرات حاشدة منددة بالعدوان الإسرائيلي على غزة. واضطر وزراؤه للتخفيف من وطأة تصريحاته وربما للفت نظره بأنه يغامر باستعداء حلفاء مهمين فى الشرق الأوسط وأولهم مصر والأردن. أما دوليا، فكانت التصريحات مناسبة لتنفيس القادة والزعماء فى العالم عن غضبهم من ترامب.. وإلى جانب إدانات أعدائه، فقد استهجن الزعماء الأوروبيون ما قيل ورفضوه ونددوا به.. وهم الذين يشهدون الآن فترة توتر بالغة مع ترامب بسبب الخلاف حول أفق حرب أوكرانيا، أما إقليما فكان الأمر أكثر حدة. ◄ مصر القيادة أدارت مصر بدقة واحتراف موجة غضب عربية وصاغتها فى رسائل للجانب الأمريكي تهدد بأن ترامب الذي يرغب فى السلام على وشك هدمه فى المنطقة. وبعد رسالة وقعت من وزراء الخارجية العرب لنظيرهم الأمريكي مارك روبيو يرفضون فيها التصريحات الأمريكية، ولم تلق النتائج المرجوة، كشفت التقارير عن رسالة تم نقلها للجانب الأمريكى وبشرت ترامب بأنه سيكون الرئيس الأمريكى الذي ستلغى فى عهده اتفاقية سلام أيقونية صيغت قبل نحو خمسين عاما، وأن التهجير مرفوض تماما، وهو يعنى انتهاء السلام بين مصر وإسرائيل.. ربما كانت هذه هى الرسالة التى أفاقت واشنطن، فمصر لا تهدد إلا ونفذت. وخرج الرئيس الأمريكي بعدها ليصرح انه «ليس فى عجلة من أمره» بخصوص غزة، أى أن كل مقترحاته بخصوص غزة يمكن تأجيلها لإشعار آخر.. وأصدرت إسرائيل لمصر بيانا تعلن فيه التزامها المطلق باتفاق كامب ديفيد للسلام.. وبدا التأدب فى اللهجة الإسرائيلية واضحا.. فإسرائيل التى ضربت عرض الحائط بالقانون الدولي وتلاعبت بالعالم أجمع وفرضت إرادتها على الجميع - لا تجرؤ على المواجهة مع مصر.. وترامب يعلم أن آخر ما تريده أمريكا هو خسارة حليف مهم لها مثل مصر.. ولماذا تخسرها؟ من أجل حفنة من اليمين المنفلت الذي يقود إسرائيل ويحاول قيادة أمريكا أيضا؟! ربما لا يمكن رؤية سبب حقيقي لتراجع ترامب إلا الموقف المصري القوى، حتى أن نتنياهو بنفسه أدرك أن ترامب لا يستطيع فرض خطة التهجير، فدعا فى أحاديثه الصحفية من واشنطن إلى فتح باب الهجرة الطوعية للفلسطينيين ظنا منه بأنهم سيلوذون جميعا بالفرار من القطاع المحطم، دون أن ينتبه زعيم الاحتلال إلى مشاهد عودة النازحين إلى «صحراء» الشمال المنكوب فى القطاع.. فهم حتى لم يفضلوا البقاء فى الجنوب مع بعض من أطلال الحياة وعادوا للعيش فى ركام منازلهم فى رحلة رددوا خلالها تكبيرات العيد. ◄ اللحظة المناسبة إن مصر وبحق، تخوض التفاوض بدلا من الفلسطينيين، ونيابة عنهم، تقاتل سياسيا ودبلوماسيا وتعرض سلامها مع إسرائيل للإلغاء مقابل الحفاظ على الفلسطينيين داخل أراضيهم على أن يحكم القطاع قوى سياسية فلسطينية دون الاحتلال.. ولم تكن التطورات تلك إلا دليلا إضافيا على أن مصر هى وبحق زعيمة وقائدة فى المنطقة العربية، مهما حاول البعض من النيل من ذلك الدور الريادي والتشكيك فى تأثيرات أزمتنا الاقتصادية على ريادتنا العربية. لا شك أن ترامب يحب إسرائيل رغم عدم تفضيله لنتنياهو كزعيم سياسي لها.. ولا شك أن الإسرائيليين متوحدون فى ثقافتهم حول الاحتلال الاستيطاني واغتصاب الأراضي العربية.. ولا شك أنهم ظنوا أن العدوان على غزة وقتل مظاهر الحياة فيها وجعلها مكانا مستحيلا للعيش - سيساعدهم فى تحقيق حلمهم بالسيطرة على القطاع وتهجير سكانه منه.. بحجة هجمات 7 أكتوبر.. لكنهم يبدو أنهم استفاقوا إلى أن اللحظة التاريخية غير مناسبة.. فهناك وحوش يطلق عليهم الجيش المصري يقفون لهم بالمرصاد.. لن يسمح لهم ذلك الجيش الجسور بنقل الفلسطينيين إلى مصر أو لأى مكان آخر.. ومن ثم إفراغ القطاع والاستيلاء عليه وقتل حلم قيام دولة فلسطينية، وأخيرا، في حين أن الإسرائيليين سيواصلون عبر الزمن محاولاتهم، فإن علينا كمصريين أن نتأكد دوما أن كل لحظة هى غير مناسبة للإسرائيليين.