عاجل- استقرار سعر السبيكة الذهبية وزن 5 جرامات اليوم الأحد 19    أسعار الفاكهة في أسواق أسوان اليوم الأحد 19 أكتوبر 2025    اليوم طقس خريفي مائل للبرودة صباحًا والعظمى بالقاهرة 30 درجة    فاضل 64 يومًا.. الشتاء يبدأ رسميًا 21 ديسمبر ويستمر 88 يومًا و23 ساعة    مصرع شابين في حادث تصادم مأساوي بطريق قليوب قرب مزلقان العادلي    رئيس «تصديري الحاصلات الزراعية»: النباتات الطبية والعطرية أهم القطاعات التصديرية الواعدة (صور)    شرطة نيويورك: متظاهرون كثيرون يشاركون في الاحتجاجات    «الخارجية» تنظم ندوة بمناسبة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان    سعر الدولار الآن أمام الجنيه بالبنك المركزي المصري والبنوك الأخرى قبل بداية تعاملات الأحد 19 أكتوبر 2025    محافظ الجيزة يتابع التزام مواقف سيارات السرفيس والنقل بالتعريفة الجديدة    موعد بدء امتحانات نصف العام واختبارات شهر أكتوبر 2025    أطول تلاتة في الجونة.. احمد مجدي يمازح أحمد السعدني وخالد سليم    بافرح لما راجل يديني مصحف.. منة شلبي: «الساحر» نقطة تحول في حياتي.. ولا اعترف بلقب النجمة    دعاء الفجر| اللهم جبرًا يتعجب له أهل الأرض وأهل السماء    نقيب الصحفيين: بلاغ لوزير الداخلية ووقائع التحقيق مع الزميل محمد طاهر «انتهاك صريح لقانون النقابة»    خالد الغندور: بيراميدز زعيم القارة الأفريقية بلا منازع واستعاد هيبة دوري الأبطال    بوني يقود إنتر لانتصار ثمين على روما في كلاسيكو الكالتشيو    أحمد سعد يغادر إلى ألمانيا بطائرته الخاصة استعدادًا لحفله المنتظر    أحمد العوضي يدخل قلوب الجمهور بعد استجابته لحلم طفلة محاربة للسرطان: "أوامرك يا ليلى"    فتح فصل ثانوي مزدوج جديد لتخصص استخلاص وتصنيع الزيوت النباتية في مطروح    وفاة ضابط شرطة في حادث مأساوي على طريق الإسماعيلية الصحراوي    زيلينسكي: ترامب لم يعطني ردًا حاسمًا لصواريخ توماهوك    «العمل العربية» تشارك في الدورة ال72 للجنة الإقليمية بالصحة العالمية    التعليم توضح الفئات المستفيدة من أجهزة التابلت 2025-2026.. من هم؟ (إجراءات وضوابط التسليم)    رئيس مصلحة الجمارك يتفقد قرية البضائع بمطار القاهرة    توابع زيادة البنزين، ارتفاع جديد في أسعار الجبن الأبيض والرومي والشيدر بالأسواق    وزارة السياحة والآثار تنفي التقدّم ببلاغ ضد أحد الصحفيين    موعد مباراة منتخب المغرب ضد الأرجنتين في نهائي كأس العالم للشباب والقنوات الناقلة    شبانة: أداء اليمين أمام مجلس الشيوخ مسئولية لخدمة الوطن والمواطن    عملوها الرجالة.. منتخب مصر تتوج بكأس العالم للكرة الطائرة جلوس    نتنياهو يعلن نيته الترشح مجددًا لرئاسة الوزراء في الانتخابات المقبلة    مصرع عروسين اختناقًا بالغاز داخل شقتهما ليلة الزفاف بمدينة بدر    نتنياهو: الحرب ستنتهي بعد تنفيذ المرحلة الثانية بما يشمل نزع سلاح حماس    أتلتيكو مدريد ينتصر على أوساسونا بالدوري    زيكو: بطولتي الاولى جاءت أمام فريق صعب ودائم الوصول للنهائيات    إصابة 10 أشخاص بينهم أطفال في هجوم كلب مسعور بقرية سيلا في الفيوم    تفاصيل محاكمة المتهمين في قضية خلية مدينة نصر    أحمد ربيع: نحاول عمل كل شيء لإسعاد جماهير الزمالك    اتحاد الكرة يهنئ نادي بيراميدز بعد التتويج بكأس السوبر الإفريقي    مكافأة على سجله الأسود بخدمة الانقلاب .. قاضى الإعدامات المجرم "عصام فريد" رئيسًا ل"مجلس شيوخ العسكر" ؟!    ذات يوم مع زويل    الخارجية الأميركية تزعم نية حماس شن هجوم واسع ضد مواطني غزة وتحذر من انتهاك وقف إطلاق النار    وائل جسار: فخور بوجودي في مصر الحبيبة وتحية كبيرة للجيش المصري    ياسر جلال: أقسم بالله السيسي ومعاونوه ناس بتحب البلد بجد وهذا موقف الرئيس من تقديم شخصيته في الاختيار    المستشار الألماني: الاتحاد الأوروبي ليس في وضع يسمح له بالتأثير على الشرق الأوسط حتى لو أراد ذلك    محمود سعد يكشف دعاء السيدة نفيسة لفك الكرب: جاءتني الألطاف تسعى بالفرج    الاحتلال يشن حملة مداهمات واعتقالات في الضفة الغربية    لا مزيد من الإحراج.. طرق فعالة للتخلص من رائحة القمامة في المطبخ    الطعام جزء واحد من المشكلة.. مهيجات القولون العصبي (انتبه لها)    فوائد شرب القرفة باللبن في المساء    أتلتيكو مدريد يتخطى أوساسونا في الدوري الإسباني    أخبار 24 ساعة.. زيادة مخصصات تكافل وكرامة بنسبة 22.7% لتصل إلى 54 مليار جنيه    برج الثور.. رمز القوة والثبات بين الإصرار والعناد    هل يجوز للزوجة أن تأخذ من مال زوجها دون علمه؟.. أمين الفتوى يوضح    توجيهات عاجلة من وكيل صحة الدقهلية لرفع كفاءة مستشفى جمصة المركزي    "الإفتاء" توضح حكم الاحتفال بآل البيت    مواقيت الصلاة اليوم السبت 18 أكتوبر 2025 في محافظة المنيا    أعضاء مجلس الشيوخ يؤدون اليمين الدستورية.. اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الارتحال فى بلاد الله للرحيل بين السطور ..ذاكرة شعبية تستعصى على الموت
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 13 - 02 - 2025


د. مسعود شومان
هذا كاتب ينتمى إلى جنس الكُتَّاب الحدائق، حيث تنوع الأشجار، والثمار، والظلال، وسوف أتوقف عند شجرة واحدة فى حديقته الملآى بالطعوم؛ شجرة تستمد أغصانها من العرق الشعبى، ومن قيم وعادات وتقاليد الجماعة الشعبية، فرحلة الكاتب الكبير محمد جبريل ومحطاتها المتعددة تستحق وقفاتٍ حول منجزه الغزير كماً وكيفاً، لكن شجرته الموسومة بالشعبية لم يتوقف عندها ناظر، ولم يتفيأ بظلها عارف، بداية من اللمحات التى تشير إليها عناوين كتبه، وهى على تنوعها بين الدراسات والمقالات والقصص والروايات تعكس قدرته على الولوج فى العوالم شديدة المصرية، بما فيها من معان عميقة لمفهوم الهوية وتجذرها على مستويى الإبداع الفردى، والإبداع الشعبى الذى أنتجته جماعتنا الشعبية ذات السمات والمواصفات القيمية والجمالية، من هنا وجب الإشارة بداية إلى عدد من العناوين / المفاتيح التى تسر لنا ببعض أسرار عوالمه، فمن مؤلفاته فى مجالى كتابة المقالات والدراسات: مصر فى قصص كتابها المعاصرين- مصر.. من يريدها بسوء - قراءة فى شخصيات مصرية- مصر المكان، دراسة فى القصة والرواية - ملامح مصرية - الصوت الهامس يعلو، دراسة نقدية سوسيولوجية، ولا يقتصر الأمر عند الدراسات والمقالات التى تذاكر وجه مصر وشخصياتها، لكنه يغوص بعمقٍ فى سبائك ناسها وإبداعهم الشعبى من سيرٍ وأمثال وتعابير شعبية لنجد هذه الكتابات التى تقف منقبة عن الجذر الشعبى فى أرواح وإبداع المصريين، ومنها: البطل فى الوجدان الشعبى المصرى- مصر الأسماء والأمثال والتعبيرات، وتمتد غصون هذه الشجرة العفية لنرى امتدادها فى عددٍ من المجموعات والمختارات القصصية منها: سوق العيد - حارة اليهود، وتتمدد الأغصان معلنة عن جذرها فى عددٍ من كتب السيرة، كسيرته الذاتية التى تتمثل فى حكاياته عن جزيرة فاروس، أو سيرة المكان كما فى كتابه البديع: الحنين إلى بحرى، ويأتى غصنه الباسق المستلهم لعادات وتقاليد المكان، وتاريخ وكرامات أوليائه متمثلاً فى رواياته التى لم تلقِ ما تستحق من متابعاتٍ نقدية، ومنها رباعية بحري: أبو العباس- ياقوت العرش – البوصيرى - على تمراز، إنه غصن سكندرى تخرج منه فروع روايات: المينا الشرقية- صيد العصارى - أهل البحر- صخرة فى الأنفوشى.
أيامه القاهرية، ومصادره الفولكلورية
إن القارئ لمجمل أعمال محمد جبريل، خاصة ما يتعلق بسيرته الذاتية سيجده كثير الترحال فى المكان، وقد أجبرته ظروفه الحياتية على التنقل من مكان لمكان، ومن سمات ثقافية وملامح فولكلورية مغايرة، وبين هذه المراوحات تربت العين ووعت الأذن التمايزات والتماثلات، وتربى وعيه كإثنوجرافى يصف ما ترسخ فى مخيلته، ولو تأملنا بعضا مما كتبه فى «أيامى القاهرية» لأدركنا معنى الكنز الذى وقع عليه وكان أحد أهم روافده الفولكلورية، اسمعه وهو يقول: «صعبت علىّ نفسى، وأزمعت أن أترك شقة الأسرة فعلا فى أحياء الإسكندرية المختلفة، أولاها فى شارع صغير متفرع من شارع السيالة.
حجرة بلا طابق، ما يسمى بالطابق المسحور، تدخل إليها بإحناء جسدك، وتخلو من الماء والكهرباء، فهى للنوم فقط، وإذا أردت الذهاب إلى دورة المياه، فبوسعك الذهاب إلى مسجد المسيرى القريب، وإذا احتجت شيئاً يسهل تحقيقه، فعليك أن تلجأ إلى الجيران، وكانوا من أسر الصيادين، والعاملين فى المراكب والميناء.
وكانت معظم رؤيتى للنساء، فغالبية أوقات الرجال فى العمل، أو على القهاوى»، ويدرك جبريل الملامح الإنسانية والمكانية بما تتضمن من مفرداتٍ تتعلق بالمهن ولغاتها ومفرداتها وعاداتها، لذا فقد كانت الفترة التى قضاها فى عالم بحري: السيالة والأنفوشى ورأس التين «مدخلاً لحياة مغايرة فى العادات والتقاليد والقيم والسلوكيات اليومية، العلاقات المتشددة والمتسامحة، والظروف الاقتصادية القاسية، وسطوة المعلمين، والتعامل مع المجهول، وهناك تعلم مفردات بيئة الصيادين: البلانس، الفلوكة، الجندل، السنارة، الغزل، الطراحة، الجرافة، النوة، الحلقة، الشروة، البوغاز، الشرد، الطياب» هكذا انتقل جبريل من بيئة الموظفين التى عاشها فى كنف أسرته لبيئة الصيادين حيث يقف على شاطئ البحر، يرقب صيادى الجرافة والطراحة والسنارة، ويتردد مع صديقه على الميناء الغربية، متجولاً بين الشون والمخازن والحاويات والصناديق والأجولة، يتأمل البواخر، كما يرقب حركة البيع والشراء فى حلقة السمك، يحيى الموالد وحلقات الذكر فى «أبو العباس» والبوصيرى وياقوت العرش ونصر الدين، واختار المذاكرة فى صحن مسجد أبى العباس، وعرف قهاوى الصيادين، وأماكن تجمعاتهم، من هنا تشكلت ذاكرته المكانية بمن فيها من بشر ومهن ولهجات، وتكونت فسيفساء لوحته المصرية التى تعج بالعناصر الفولكلورية التى تتمثل فى المفردات اللغوية – طريقة الأداء – العادات والتقاليد- منظومة القيم – الأدوات – الصناعات والمهن- بعض النصوص الشعرية والحكائية، وإذا تأملنا بين سطور حكاياته سنجد المقهى أحد مصادر انطلاقه وتعرفه إلى هذه التفاصيل الفولكلورية، وقد تعلمنا فى الدرس الميدانى أن القراءات الاستطلاعية والملاحظات الميدانية من أماكن التجمعات كالأسواق والمقاهى، وقد كانت المقهى من منطلقات محمد جبريل لملاحظة وجمع جزءٍ مهم من مخزونه المعرفى، يقول جبريل: «جلست على قهوة الزردونى فى شارع السيالة، وتعرفت إلى تعامل الصيادين مع البحر، ومع مشايخ الحلقة، ومع بعضهم البعض.
حتى مفردات الكلام والأزياء وزحام القهاوى أشهر الشتاء، وخلوها أشهر الصيف.. ذلك كله وفر لى مادة خصبة، أفدت منها فى تناولى لأبعاد الحياة فى المنطقة التى ظلت فى داخلى، حتى بعد أن تركتها وسافرت إلى مدن فى الشرق والغرب، فظلت منطقة بحرى مثل جبل المغناطيس فى الحكاية الشهيرة، تتجه إليها - بمناسبة وبلا مناسبة - تصوراته وسرحاته ولحظات التذكر! تختلف نمطية الحياة بين كل حى وآخر، لكن نمطية الحياة فى بحرى تختلف عما تعرفت إليه فى أحياء الإسكندرية الأخرى بصورة مؤكدة. أصارحك بأن الإسراف فى الترحيب بى من جيران غرفة الطابق السحرى، كان هو الباعث - لا سواه - لأن ألملم أشيائى، وأهجر الحجرة الصغيرة».
وبالرغم من انتقاله مكانياً من الإسكندرية، ومن مكمن عشقه وتشكل ذاكرته للإقامة فى حى مصر الجديدة فى أواخر السبعينيات، إلا أنه لم يكتب حرفاً عن هذه الإقامة الطويلة، وخلت كتاباته من اسم ميدان أو شارع أو حديقة، أو أى ملمح يشى بمكانية مصر الجديدة، بينما كانت الإسكندرية هى الشخصية الرئيسة فى معظم ما كتب، وهو ما نطالعه فى سيرته الذاتية حين يقول: «وفى الحنين إلى أماكن الطفولة والصبا والشباب الباكر.
أغمض العينين أحياناً، أتخيل أنى لو فتحتهما فسيطالعنى ميدان المساجد وأبو العباس والبوصيرى وياقوت العرش وعلى تمراز والخمس فوانيس والكورنيش وشارع الميدان والحلقة وميدان المنشية وسراى رأس التين واللعب فى الشارع الخلفى، ملامح ثبتت فى الذاكرة، لم يغيبها الزمن».
وضمن رصده الاجتماعى والثقافى يتوقف أمام مقهى المسيرى الشهير بمدينة دمنهور، تلك المقهى التى أتاحت لعشرات المواهب من أبناء البحيرة أن تصل أصواتهم إلى مركزية القاهرة: محمد صدقى، فتحى سعيد، عبد القادر حميدة، رجب البنا، خيرى شلبى، وغيرهم.
وتردد على قهوة المسيرى عدد كبير من نجوم الفكر والأدب: توفيق الحكيم، يحيى حقي، محمود تيمور، محمد مندور، زكريا الحجاوى، يوسف السباعى، محمود البدوى، وغيره، كان المسيرى - فى قهوته - صاحب الرأى الأخير، والحاسم. أما عائد القهوة، فقد كان يكفل له مستوى طيباً من المعيشة يفوق ما كفلته له وظيفة السباعى، ويواصل رصده لحالة عدد من الكتاب المهمين قائلا: "كان محمد حافظ رجب بائع لب، والمسيرى صاحب قهوة، والأطمس نجاراً، فهم - إن جاز التعبير - موظفون أصحاب مهن، وكانت «الحرية» هى الميزة الأولى لهم جميعاً عند أنفسهم، يتساوون من حيث هم فنانون، مع سواهم من الأدباء، بصرف النظر عن مكانتهم الاجتماعية، كل منهم حر فى نفسه. فلما أغلقوا محالهم، وأصبحوا موظفين حكوميين - للأسف - فى غرفة الأرشيف الخشبية تحددت مكانتهم الوظيفية والاجتماعية - والأدبية أيضاً المقُتطعة من حديقة مجلس الفنون والآداب».
ارتحالات ثقافية فى السواحل والبادية
كانت معرفة محمد جبريل الفولكلورية قارة فى الإسكندرية، ومستقرة فى «حى بحرى»، وحين انتقل ليعيش القاهرة عاش التراث فى الكتب، وظل ما وعته ذاكرته وما تواترت عليه كتاباته يقوم على استلهام وتوظيف العناصر الشعبية السكندرية إلى أن جاء صيف 1970 فقرر أن يحقق حلماً طالما تمناه ليبدأ رحلة فى الزمان والمكان المصرى ويتعرف إلى ما لم يكن تعرف إليه من قبل، محاولا مجاوزة المدينة الساحلية والعاصمة إلى مدن وقرى، لم تغادر صورها الخيال الذى يهبه السماع والقراءة والمشاهدة فى الأماكن المغلقة، وتحقيقا للحلم فقد سافر إلى الوجه البحرى والصعيد ومدن السواحل والبادية، حينها تفهم أكثر نصيحة العظيم يحيى حقى بأن الكتابة عن وردة فى صورة، تختلف تماما عما لو كانت الوردة فى حديقة، فالكاتب - فى الحديقة - يلامس الوردة بأصابعه، يتشممها بأنفه، يحتويها بعينيه، يحيا التجربة على الطبيعة، وهذا جوهر آليات التجربة الميدانية التى تتركز فى الملاحظة المباشرة والملاحظة بالمشاركة، وهى من آليات العمل للباحث المتخصص، الأمر الذى أتاح لمحمد جبريل أن يدخل هذا العالم ممتلكا التجربة والمعرفة.
البطل الشعبى فى الوجدان المصرى
خاض محمد جبريل طريقه المعرفى بحثاً عن امتلاك ملامح لهويته التى لا تنفصل عن هوية مصر التى عشقها وكتب فى ذلك الكثير، ثم خاض تجربة حياتية وميدانية أتاحتها له انحيازاته الثقافية، وعمله الصحفى فى التعرف على عدد من العناصر الفولكلورية التى تشكل مرتكزات للهوية، الأمر الذى سنلمحه بكثافة فى أعماله القصصية والروائية، وهو ما يمكن تصنيفه بالعمل الميدانى، FEILED WORK لكنه لم يقتصر على ذلك فقام بما يمكن تسميته بالعمل المكتبى فى حقل الدراسات الشعبية DESK WORK، وقد كان نتاج هذه الخبرات كتابة البطل الشعبى فى الوجدان المصرى الذى قدم فيه خلاصة رؤاه للبطل بين صورته التاريخية والشعبية، حيث لاحظ أن هناك شخصيات فى التاريخ لم تكن مثلما عرفناها فى المرويات الشعبية، فالوجدان الشعبى يضفى على البطل مجموعة من السمات التى لم تكن فيه، أو يضعه فى زمن غير الذى كان فيه، فعنترة بن شداد عاش فى الجاهلية بينما الوجدان الشعبى جعله يعيش فى عصر الإسلام كى يدافع عنه، وإذا نظرنا إلى أدهم الشرقاوى نجده فى المحصلة النهائية مجرماً، مطارداً، لكن الوجدان الشعبى حوله لبطل مقاوم لمجرد تحديه للسلطة، فضلاً عن قدرة المخيلة الشعبية على الإضافة والحذف بما يتسق مع منظومة قيمها وتصورها عن أبطالها، وهو ما نجده فى شخصية ابن عروس الذى نسبت إليه مجموعة من المربعات والحكايات التى جعلت منه حكيماً عظيماً، رغم تواتر الحكايات التى تشير إلى كونه كان لصاً وقاطع طريق، فالوجدان الشعبى له رؤاه التى تفارق السرد التاريخى، وبالرغم من هذه المفارقات بين الإبداع الشعبى والتاريخ فإن القارئ لابد وأن يلتفت للإبداع وجوهره وقدرة الجماعة الشعبية على إزاحة التاريخ لرسم الشخصيات التى تتسم عندها بالبطولة.
حيث يقول: «فالثابت - تاريخيا - أن عنترة كان واحداً من الفرسان الذين يعتز بهم العرب فى العصر الجاهلي، لنجد أن الوجدان الشعبى أضاف إلى سيرة حياته ملامح البطل الذى دافع عن حبه وعن حقه فى الحرية والمساواة، ويشير جبريل إلى أن الهلالية لم تكن - على حد تعبير رائد الدراسات الشعبية عبد الحميد يونس - سوى أهل شغب.
قليلا ما يهدون. يقطعون الطريق على السفر حجاجاً وتجاراً ويكرهون النظام أيا كان مصدره، والسلب عندهم غنيمة مشروعة تقضى بها خلقيتهم ويقوم عليها مجتمعهم. بحيث صاروا خصوم الدولة النظامية، أما الظاهر بيبرس فإن بداية التحقق الفعلى لمكانته البطولية حين قتل قائده العظيم المظفر قطز.
بعد أن دحر المغول فى موقعة عين جالوت، كما أن الظاهر بيبرس إذا تأملنا تاريخه سنجده قد خان قطز وقتله واستولى على الحكم، إلا أن الوجدان الشعبى قد رفعه لمكانة عالية، وأما السيد البدوي.
فثمة ظلال على سيرة حياته. تخالف ما ألف الرواة الشعبيون على ترديده، وفى هذا السياق يُذكرنا محمد جبريل بكتابات محمد فهمى عبد اللطيف وسعيد عبد الفتاح عاشور ولويس عوض وغيرهم التى تشير إلى أن ابن عروس وأدهم الشرقاوى وياسين وبهية ومتولى وغيرهم ممن وضعهم الوجدان الشعبى فى مكانة متفوقة قد ارتكبوا جرائم كالقتل والسطو والخطف والزنا ومقاومة السلطة.. إلخ. وهنا يتوقف محمد جبريل أمام تصور الجماعة الشعبية لسيرها وما فيها من أبطال حيث يرى أن السيرة الشعبية ليست مجرد رواية ما حدث. وإنما رواية ما كان يجب أن يحدث.
أو ما يتمنى الوجدان الشعبى أن يحدث من رغبة فى تغيير الواقع إلى اصطناع التاريخ الذى يريده. فالأنواع الأدبية والفنية الشعبية تعد تسجيلاً شفاهياً لحياة الجماعة الشعبية، وفيه استطاعت أن تضيف إليه، وتحذف منه ربما لتملأ الفجوات التاريخية التى عبرها التاريخ الرسمى للجماعة الشعبية وممارساتها.
استلهام وتوظيف الشخصيات الصوفية والنصوص الشعبية
تمثل رباعية بحرى نسيجاً سردياً كبيراً لعوالم التصوف بما تشعه من ملامح شعبية، حيث المكان هو منطلقه، فمن مجمع المساجد والأضرحة بالإسكندرية يتخمر الحدث الروائى لنجد عالَمًا روائيًّا رحبًا تداعب الأنوف فيه رائحةُ المِلح واليود والطحالب والأعشاب قادمةً من الميناء الشرقى، وتُصغى فيه الأُذن إلى صوت البحر وأغانى صياديه، فالرباعية سردية غنائية تعتمد المكان وناسه كتئكة لحكاياتِ سكان «بحرى»، ويهيمن على هذا العالم الروائى التجليات الصوفية التى لا تخلو من سرد للوقائع والأحداث التاريخية والواقعية التى تستدعى جزءاً مهماً من الحضور الشعبى، ولا نسعى هنا لإمساك محمد جبريل متلبسا بارتكاب التناص، لكن الرباعية حاشدة بخبرات وتجليات بحاجة إلى متابعة نقدية عميقة، حيث سنجد استدعاء لحكايات جنيات البحر FAIRY TALES، وتمتلئ رباعية بحرى باستدعاء النصوص الشعبية الأصلية ومنها الموال الخماسى الأعرج – ورد هذا الموال فى كتاب ميلاد واصف، قصة الموال – الذى أبدعته الجماعة الشعبية ليكون غصنه الرابع بلا قافية، وهو ما يعد سلماً لرباط/ غطاء الموال، والأعرج هو أكثر الأشكال الخماسية ترديداً فى عرف الجماعة الشعبية وبين أبنائها من الموالة، ويطلق عليه بعضهم الموال الخماسى نسبة إلى عدد أغصانه، بينما يشير له بعض الموالة ب «موال خمس زهرات»، ويطلقون عليه أيضا «الموال الأعرج»، لأن قوافيه الثلاث الأول تكون من جناس واحد، والقفل الرابع «حر» من قوافى الثلاثة الأول، بينما القفل الخامس فيكون على نفس قافية وجناس الأقفال الثلاثة الأول، ويسير على المخطط التالى :(ا/ا/ا/ب/ا)، وهو النموذج الذى ورد بنصه فى ص 23 من الجزء الخاص بأبى العباس:
قاعد على الرمل وحدى فى عز ضهريه
الشمس قدحت دماغى يا نارى يا عينيه
ومن هوا البحر ما شعرتش بحنيه
تلسعنى نار الجفا تحرقنى أتلوى
يا حلو عطفك لروحى ضل شمسيه
والاستشهادات كثيرة ومعظمها ليست مجموعة ميدانياً لكنها وردت من مصادر كتابية من خلال معرفة جبريل وتتبعه لعدد من الكتب المهمة المعنية بالدراسات الشعبية، وتحتاج الأعمال السردية للكاتب الكبير محمد جبريل لدراسات مُعمقة فى مصادرها الشعبية المكتوبة والميدانية لنعثر على معمله الفني، وقدرته الفائقة على توليف الذاكرة الشعبية ضمن أعماله السردية التى تعد مصدراً جمالياً، ووثيقة ثرية لحفظ عناصر التراث والمأثور الشعبى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.