قبل 190 عامًا تحديدًا فى عام 1834 وصلت إلى ميناء الإسكندرية سفينة على ظهرها دبلوماسى جاء فى مهمة خاصة إلى مصر اسمه وليام هودجسون، كان هذا هوالأمريكى الرسمى الأول الذى هبط على أرض مصر، كانت المهمة المعلنة للدبلوماسى الأمريكى هى مقابلة محمد على باشا والتعرف عليه باسم الولاياتالمتحدة، لكن المهمة السرية التى كلفه بها وزير الخارجية الأمريكى وقتها لويس ماكلين هى كتابة تقرير سرى عن كل شيء فى مصر سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وكيف يمكن أن تتطور العلاقات بين مصر والولاياتالمتحدة لخدمة مصالح واشنطن فى ظل تسارع وتنامى الدور المصرى فى الشرق الشرق الأوسط فيما بعد بعيدًا عن العثمانيين. التقى هودجسون بالباشا مرتين ورحب الباشا بمبادرة الولاياتالمتحدة وعبر عن استعداده للتعاون مع الأمريكيين لخدمة العلاقات المشتركة بين البلدين ثم استأذن هودجسون فى القيام بجولة موسعة فى القاهرة وفى كافة أرجاء مصر للتعرف على البلد أو بمعنى آخر كتابة تقريره السرى الذى سيرفعه إلى وزارة الخارجية فى واشنطن. زار هودجسون أغلب المصانع الحديثة التى أقامها الباشا وعلى رأسها مصانع غزل القطن ثم قام بجولة فى صعيد مصر عبر النيل فزار أغلب مدن الصعيد واستمرت جولة هودجسون أربعة أشهر ليعود إلى الإسكندرية فى نوفمبر 1834 ويغادر منها إلى الولاياتالمتحدة ولم يكتف هودجسون بكتابة تقرير واحد بل كتب تقريرين فيهما كل صغيرة وكبيرة عن مصر سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا واستقرتقريرا هودجسون السريين فى خزائن الخارجية الأمريكية كما يذكر دكتور لينوار رايت فى كتابه (سياسة الولاياتالمتحدة إزاء مصر من 1830 إلى 1914) بين الأمريكى الأول وليام هودجسون الذى جاء فى العلن يحمل مبادرة صداقة وسرًا يكتب التقارير عن مصر والأمريكى الأخير دونالد ترامب الذى لايتوقف عن توجيه التهديدات بغطرسة جرت أحداث كثيرة وعظمى فى مسار العلاقات المصرية / الأمريكية لم تؤثر فقط فى الشرق الأوسط بل فى العالم ومازالت سواء كان هناك توافق بين البلدين أو دخلا فى صدام. لايأتى استعراض مسار العلاقات المصرية / الأمريكية من باب السرد التاريخى لكن استكشاف المحطات الرئيسية فى هذه العلاقات يعطى رؤية مستقبلية لما هو قادم خاصة أن مصر لم تتعامل مع السياسات الأمريكية كأمر مسلم به بل حافظت دائمًا على استقلال قرارها السياسى بل فى كثير من هذه المحطات أوقفت الجموح الأمريكى عند حده فى الشرق الأوسط والعالم حتى فى أعلى درجات التوافق بين القاهرةوواشنطن تم لجم الطلبات الأمريكية التى تتعارض مع استقلال القرارالسياسى والأمن القومى المصرى. يكفى أن طوال مراحل هذه العلاقات رفضت القاهرة أى تواجد عسكرى أمريكى على الأراضى المصرية وهو عكس ما حدث فى كثير من دول الشرق الأوسط التى تهافت بعضها على الحضور العسكرى الأمريكى على أراضيها لدرجة التبرع ببناء قواعد عسكرية وإهدائها لواشنطن. يمكن ملاحظة أمر آخر فى مسار هذه العلاقات ومنذ لحظة التأسيس الأولى وقبل أن تكون الولاياتالمتحدة قوة عظمى أن الوجود الحضارى المصرى شغل مساحة كبيرة فى العقل الأمريكى تفوق على ماهو سياسى وحاولت واشنطن بدهاء إخفاء هذا الشغف باللامبالاة السياسية ولكن الواقع كان يثبت العكس. بعد التقريرين الذى كتبهما الأمريكى الأول هودجسون تلكأت واشنطن فى توثيق الروابط السياسية مع مصر ويعود هذا إلى أنها كانت تمد أقواسها الامبراطورية إلى مجالها الحيوى الأقرب قبل أن تعبر الأطلنطى وتأتى إلى الشرق الأوسط بحضور كامل عقب الحرب العالمية الثانية، رغم التلكؤ السياسى الذى حدث فى البدايات نجد أن هناك هجومًا أمريكيًا على مصر بكل الوسائل عدا السياسية فوصلت مئات الإرساليات وأنشئت المدارس الأمريكية والمراكز الطبية وبلغ هذا النشاط الأمريكى حدًا جعل الكنيسة الوطنية المصرية تتصدى له خاصة فى الصعيد لتحد منه. لم تكتف الولاياتالمتحدة فى تلك الفترة بالتدخل فى المجتمع المصرى عن طريق إرساليتها ومدارسها بل كان من الواضح أن الوجود الحضارى المصرى شكل عقدة نفسية فى العقل الأمريكى فأنشئ مايسمى بصندوق اكتشاف مصر فى بوسطن رغم أن فكرة هذا الصندوق بريطانية فى الأساس لكن النخبة الأمريكية حولته إلى شأن أمريكى وبلغ عدد أفرع هذا الصندوق مع بدايات القرن العشرين فى كافة الولاياتالأمريكية 80 فرعًا وحظى الصندوق وكل فروعه بتمويلات ضخمة من النخبة والحكومة الأمريكية من أجل جمع كل ما يتعلق بالحضارة المصرية قديمًا وحديثًا. هذا غير تأسيس جمعية تسجيل الآثار المصرية التى حازت هى الأخرى على تمويلات مستمرة وضخمة وتدفقت على مصر مئات البعثات الأمريكية للتنقيب والكشف عن الآثار المصرية مما شكل فى النهاية أكبر مدرسة لعلم المصريات فى العالم بقيادة أمريكية لذلك لم يكن مستغربًا أن يصبح بمتحف المتروبوليتان للفنون فى نيويورك أكبر قسم عن الحضارة المصرية خارج مصر. لم يكن هذا التتبع والولع بمصر أمرًا عابرًا فى العقل الأمريكى بل وصل إلى الأمريكى الأخير دونالد ترامب فى أشهر حوار بينه وبين والرئيس الصينى شى بينج أثناء زيارة ترامب لبكين فى نوفمبر 2017 فلأول مرة يتفاخر رئيس دولة بحضارة أخرى فى مواجهة مضيفه حيث استشهد ترامب بعراقة الحضارة المصرية وتميزها عن الحضارة الصينية وأنها تمتد لثمانية آلاف عام وفى القمة العربية الإسلامية الأمريكية التى أقيمت فى نفس العام بالسعودية فاجأ ترامب فى كلمته الجميع بشرح مطول عن أهمية الحضارة المصرية وإنجازاتها وليس ترامب فقط من تشغله مصر وحضارتها، بل العديد من المحيطين به فى إدارته الحالية وعلى رأسهم أيلون ماسك الأقرب إلى ترامب. بيدو أن العقل الأمريكى مازال حتى اللحظة تحت تأثير الانبهار بمصر وحضارتها الذى يصل فى بعض الأحيان إلى مرحلة العقدة النفسية والسعى الى السطو على هذه الحضارة. تعتبر الحرب العالمية الثانية هى حد فاصل فى طبيعة العلاقات المصرية / الأمريكية فقد أنهت واشنطن مراحل استكشاف مصر التى امتدت على مدار قرن وبعد نهاية الحرب وانتصارها وتفردها بقيادة الغرب فى مواجهة الاتحاد السوفيتى بدأ الوجه السياسى لواشنطن هو الحاكم فى هذه العلاقة معتبرة أن مصر هى أساس كافة تحركاتها فى الشرق الأوسط خاصة مع بروز القضية الفلسطينية على الساحة. لعل الوصف الأفضل للحالة الأمريكية السياسية فى تعاملها مع مصر بعد الحرب العالمية الثانية هو ما قدمه الباحث الأمريكى جيفرى أرونسن فى عنوان دراسته " واشنطن تخرج من الظل. " المؤشرات الأولية للخروج الأمريكى من الظل والظهور على الساحة السياسية المصرية والشرق الأوسط كان بعد الحرب العالمية الثانية بشهور قليلة لكنه ظهورا مشتركا عندما تشكلت اللجنة الأنجلو/ أمريكية مناصفة من أعضاء مجلس العموم والكونجرس لبحث موضوع فلسطين والهجرة اليهودية وزارت اللجنة مصر وفلسطين وعقدت فى مصرعددًا من اللقاءات لبيان طبيعة الوضع فى فلسطين واستطلاع الموقف المصرى مما يحدث حتى ترفع تقرير للرئيس الأمريكى وقتها هارى ترومان. انحصرت لقاءات اللجنة بمصر مع شخصيات سياسية رسمية مصرية عدا لقاء واحد عقده القسم الأمريكى من اللجنة مع حسن البنا مرشد جماعة الإخوان بتوصية إنجليزية، الغريب أن اللجنة لم تذكر فى تقريرها هذا اللقاء وما دار فيه ولعل هذا اللقاء مع مرشد الجماعة الفاشية هو لقاء تأسيس العلاقة الحرام بين واشنطن والإخوان ثم الاستخدام فيما بعد من قبل واشنطن للجماعة الفاشية فى محاربة الدولة الوطنية المصرية إلى الآن هذا غير استخدام الإدارات المتعاقبة فى البيت الأبيض للجماعة الفاشية فى مهمات تحقق المصالح الأمريكية من أفغانستان السبعينيات إلى مايسمى الربيع العربى فى الألفينات. رغم العداء الذى يحمله ترامب لباراك أوباما ووزيرته هيلارى كلينتون واعتبرهما رعاة جماعة الإخوان وأعلن بوضوح فى الانتخابات الأمريكية 2016 أن أول ماسيفعله وضع هذه الجماعة على قوائم الإرهاب لكن بعد دخوله البيت الأبيض فى ولايته الأولى صمت تمامًا عن ما أعلنه.. بالتأكيد صمت بعد أن اطلع على حجم الخدمات التى تقدمها الجماعة الفاشية لواشنطن. الظهور المنفرد للسياسة الأمريكية فى مصر جاء بعد اللجنة الأنجلو/ الأمريكية بوقت قليل بتعيين س .بانكس السفير الأمريكى السابق فى القاهرة كعضو مجلس إدارة فى شركة قناة السويس كأول أمريكى يعين فى إدارة الشركة العالمية الخاضعة للنفوذ الأوروبى وقتها وكانت شركة قناة السويس دولة داخل الدولة فى مصر. بدأت آلة السياسة والاستخبارات الأمريكية تستكشف طبيعة القوى السياسية المصرية النافذة فى الشارع المصرى وكيف ستتعامل معها وكيف ستؤثر على العلاقات المصرية / الأمريكية فى المستقبل، الغريب أن واشنطن لم تخش قوى اليسار الممثلة فى التنظيمات الشيوعية المنتشرة فى هذه الفترة وتمارس نوعًا من المقاومة ضد الملكية والاحتلال أو وضعت جماعة الإخوان الفاشية فى حساباتها بل من الواضح أن اللقاء التأسيسى بين مرشد الإخوان واللجنة الأنجلو/أمريكية وضع الجماعة الفاشية فى خانة الحلفاء. وتطلعنا تقارير وزارة الخارجية الأمريكية ووثيقة للأمن القومى عرضت على الرئيس الأمريكى هارى ترومان طبيعة القوى التى تخشاها واشنطن وترى فيها أكبر تهديد للعلاقات المصرية/الأمريكية أو بمعنى آخرالتى ستتصدى لمحاولة الهيمنة الأمريكية على مصر والشرق الأوسط ، اعتبرت واشنطن أن النزعة القومية المصرية وإحساس المصريين بهويتهم تشكل أكبر خطر على انسجام العلاقات المصرية / الأمريكية. عند مراقبة مسار العلاقات المصرية / الأمريكية نجد أن واشنطن وحتى الآن لم تتخلص من أمرين أثرا بشكل كبير فى عدم وصول هذه العلاقات لدرجة من الاستقرار أو خروج هذه العلاقات بين البلدين من حالة الشد والجذب المستمرة. أول الأمرين العقدة النفسية التى تكونت فى البدايات من الوجود الحضارى المصرى، والثانى نظرة العداء الشديدة التى ترى بها واشنطن الروح القومية المصرية معتبراها تهديدًا لمصالحها مع مصر وفى الشرق الأوسط ، بالنسبة للعقدة نجد أن كل محاولات السطو على الحضارة المصرية أو العمل على سحب نسبة الحضارة المصرية من مصر تنطلق هجماتها من واشنطن وبشكل منظم إنما بشكل غير رسمى لكنها تلقى كل رعاية وتمويل من النخبة الأمريكية السياسية والاجتماعية ويكفى جماعات الأفروسنتريك ومئات الأفلام السينمائية الأمريكية والوثائقيات التى تصب فى اتجاه محاولات السطو على الحضارة المصرية هذا غير أن هناك شخصيات أمريكية وعلى رأسهم أيلون ماسك الرجل القوى فى إدارة ترامب يتبنى هذه الأفكار الخرافية ويفصح عنها. حرك الأمر الثانى واشنطن لكى تدعم كل ما تراه من قوى بعيدة عن روح القومية المصرية بل وتعاديها فتندفع بقوة لترعى اليسار المعولم بشكل رسمى أو من خلال مؤسسات غير رسمية مثل "مجتمع مفتوح " باسم حقوق الإنسان وتمول بسخاء تنظيمات غامضة تتخفى وراء قناع اليسار من أجل إشاعة الفوضى تحت مسمى الحريات. يأتى بعد ذلك التحالف المفضوح بين الولاياتالمتحدة والفاشية الإخوانية فى إطلاق مايسمى بالربيع العربى وبالتأكيد وصلت العلاقة بين واشنطن والفاشية الإخوانية لدرجة التحالف لأن واشنطن تعلم جيدا حجم العداء الذى تحمله الفاشية الإخوانية للقومية المصرية ومفهوم الدولة الوطنية هل تبقى مايمكن بحثه فى العلاقات المصرية / الأمريكية ؟ولماذا بكل ما يفعله ترامب قد يكون الأمريكى الأخير؟ وأخيرا ماهى أفق العلاقات فى ظل الغطرسة والاضطراب داخليًا وخارجيًا الذى تشهده منظومة الحكم الترامبية ؟ .. إنها أسئلة تحتاج إلى مزيد من الإجابات فى وقت آخر.