أعلم، سيدي القاضي، أن القانون لن ينصفنى، وأن من كتبه لم يأخذ فى الاعتبار تبدل الأحوال وتغير الأزمان. رغم ذلك، أقمت دعواى على أمل أن ترأف بحالى وأن تمنحنى لقب أم ولو بكلمة بين سطور حكمك. فهذا كافٍ لى لأحتضن أبناء أخى ما تبقى لى فى الحياة. كانت جلسة عاصفة فى محكمة الأسرة بالمعادي، فتاة وعجوز فى مواجهة بعضهما أمام القاضى. كل منهما يتمسك بحقه ويعدد أسبابه المنطقية للمحكمة على أمل أن ينتصر على الآخر ويحظى بحضانة الطفلين بعد وفاة والديهما فى حادث طريق. أعدت الفتاة نفسها جيدًا لتلك اللحظة، قررت المواجهة على أمل أن يرأف بحالها القاضى ويمنحها حقها ولو يومين لرؤية أبناء أخيها. لقد شرحت للقاضي كل شىء، وقصت له أنها هى من كانت تربى وتعلم وتطعم وتكسو أبناء أخيها، بعد أن قرر والداهما السفر للعمل بالخارج وترك طفليهما معها فى القاهرة. قالت الفتاة للقاضى: «عذرًا سيدى القاضى، أؤمن أن القانون يجب أن يحترم، وأنه سيف على رقاب الجميع، لكننا تعلمنا أن له روحًا يمنحها القاضى لبعض البشر عندما يرى أن مواده لا تنصفهم. لذلك أقمت دعواى لأخبرك أننى أستحق أن أكون حاضنة لأبناء أخى، أكثر من تلك العجوز التى وافقت على سفر ابنتها مع زوجها وترك الطفلين لى وعمرهما لم يتجاوز العامين، بل ورفضت أن يقيموا معها». ◄ اقرأ أيضًا | المحكمة تلزم أب بدفع 36 ألف جنيه مصروفات دراسية لابنته سنوات مرت سيدي القاضي، وأنا الأب والأم لهما، تجاوز عمرى الثلاثين ورفضت الارتباط من أجلهما.. سخرت حياتي لخدمتهما، ليس بعد سفر والديهما فقط، بل كنت لهما الملاذ الآمن منذ الولادة.. بعد ان تفرغت زوجة أخرى، رحمها الله، لعملها، كانت تُلقى بمسئوليتهما عليّ، تسافر وتتركهما لى. وهكذا أخى، حتى شعرت أنهما أبنائى ولا أستطيع أن أتخلى عنهما ولو للحظة واحدة. أعلم، سيدى القاضى، أن القانون لا يخير الأبناء بين عم وجدة، بل بين أبوين فقط ليختار أحدهما. لكنى على أمل أن يمنحنى هذا القانون روحه، ليدع أبنائى يختارون بينى وبين تلك العجوز، لو حدث ذلك، أدرك تمامًا أنهم سيختاروننى. فأنا ما زلت لهما الأم والأب والعمة والخالة وكل شىء فى حياتهما. دعنى أسأل تلك السيدة الواقفة أمامي: ماذا تعرفين عن أحلام الصغيرين؟ هل قص لكِ أحدهما شيئًا عن مستقبله؟ هل شاركتهما فى أمنياتهما؟ هل بكيتِ من أجل شفائهما بعد مرضهما يومًا من الأيام؟ كل هذا أنا فعلته معهما، وأنتِ كنتِ تعيشين حياة مع زوج يصغركِ بعشرين عامًا. انظر، سيدى القاضى، إلى هذه الصور التي تجمعنى بهما. دقق جيدًا، ستجد أننى منذ نعومة أظافرهما وأنا معهما. تلك الصورة لحنان الابنة الكبرى وهى تلعب معى وعمرها لم يتجاوز 6 أشهر، وهذه لآدم وهو يجرى أمامى فى إحدى الحدائق، وتلك لى وأنا أنام بجوارهما وقت تعبهما فى أحد المستشفيات. كان أخى، رحمه الله، يوصينى بأبنائه، يرانى دائمًا أننى الأم لهما. فزوجته تهوى السفر، وعملها كله خارج مصر، لم تعرف شيئًا عن تربية أولادها أو تعليمهم أو حتى إطعامهم وكسوتهم. تحملت مسئوليتهما وعشت معهما فى الشقة، وتخليت عن كونى امرأة تحتاج إلى رجل بجوارها ألقيت هذا الحلم خلف ظهرى وأشبعت نفسى بهذين الطفلين اللذين ملآ عليّ حياتى. انتهت الفتاة من مرافعتها، تمنت أن يصدر القاضي حكمًا لصالحها، وأن يكسر قيود القانون ويمنحها حق حضانة أبناء شقيقها، أو على الأقل يومين لرؤيتهما. استمع القاضي بعدها إلى جدة الطفلين، لم تتحدث كثيرًا، اكتفت عبر محاميها بطلب رفض الدعوى وتطبيق مواد القانون بأحقيتها فى حضانة طفلى ابنتها، وقدمت ما يفيد أنها تعيش بمفردها وقادرة على تربيتهما والإنفاق عليهما. ليرفع القاضى الجلسة ويصدر حكمه برفض الدعوى وأحقية الجدة فى حضانة الطفلين.