محمد أبو زيد غريبٌ أمر الشعر، يبدو كخزان مشاعر يسافر عبر الزمن بكل تفانٍ، دون أن يفقد جزءاً من حمولته، لو قرأناه بعد عشر سنوات أو أكثر نستعيد المشاعر نفسها التي ضاعت منا في زحام الأيام ووطأة العمر، بصخبها وألمها وبهجتها، ونقف أمامها مذهولين، كمن ينظر فى المرآة ويرى نفسه لأول مرة، متسائلاً مصدوماً: مَن هذا؟ كمن وجد صورة لنفسه طفلاً له لم يرها من قبل، في تأمل جميع ملامحها متسائلاً: هل هذا أنا؟ حين أعدت الآن قراءة قصيدتي «سيقول الأشرار إنني أتحدث عن ميرفت عبد العزيز بالتحديد»، تزاحمت الذكريات القديمة، عربدت داخلي مشاعر فارقتها من سنين، تراكمت الأسئلة فوق رأسي: أين ذهب هذا الشخص الذي كتب هذه القصيدة، أين ذهبت هذه الانشغالات، من أين جاءت هذه الأفكار؟ كيف تغيرتُ إلى هذه الدرجة؟ القصيدة قصيدتي، والانشغالات انشغالاتي، والأفكار أفكاري، لكن قبل 20 عاماً أنا فقط من تغيَّر، أو لعلها يد الزمن الذى ترك علاماته فى روحي، وألقانى بعيداً بانشغالات جديدة وأفكار مختلفة، لكن رغم كل ذلك، تظل هذه القصيدة واحدة من أقرب قصائدى إلى قلبي، ربما ليست أفضلها، ربما ليست أجودها على أية حال ليس من حق الشاعر الحكم على قصائده بالجودة، ولا أن يضع أمام إحداها أفعل تفضيل ما دام فى نيته أن يكتب شيئاً آخر. لكنها شكلت جزءاً من تجربتى الشعرية بالكامل، وكانت بملامحها وانشغالاتها علامة بارزة فيه. نُشِرَت القصيدة فى ديوان الثانى«قوم جلوس حولهم ماء» الصادر عن دار شرقيات فى العام 2006، ضمن قسم اسمه «كم جناحاً لك يا ميرفت؟» ضم إلى جوار هذه القصيدة ثلاث قصائد أخرى هى «ثم سيتساءل الأشرار: ومن هى ميرفت عبد العزيز؟»، و«حتى يرتاح الأشرار»، و«الجستابو»، وكما هو واضح فالقصائد جميعها تدور حول شخصية فتاة اسمها ميرفت عبد العزيز. كان السؤال الأبرز الذى طاردني، كلما قرأ أحد الديوان أو حتى تصفحه، أن يسألنى «من هى ميرفت عبد العزيز؟»، ثم يلمِّح إلى أنها شخصية حقيقية أو قصة حب قديمة، وكنت أرد فى كل مرة أنه لا يوجد أحد يحمل اسم ميرفت عبد العزيز، وكنت صادقاً فى هذا، فلم أعرف طوال عمرى شخصاً يحمل هذا الاسم. ومن الأشياء الطريفة المرتبطة بهذا الأمر، أنه قبل صدور الديوان فكرت أن أنشر القصيدة فى إحدى الصحف الأدبية ذائعة الصيت وقتها، وذهبت إلى الجريدة وسلمتها باليد، وسألنى المحرر عندما قرأ عنوان القصيدة: هل هى شخصية حقيقية؟ فأجبته بالنفي، فأخبرنى أنه أراد أن يتأكد، وفهمت من حديثه معى أنه ربما نشر أحدهم قصيدة تحدثت عن شخص بعينه، ما تسبب فى مشكلة للجريدة، ثم فوجئت بعد أسبوعين بالقصيدة منشورة فى الجريدة، وقد حذفوا الاسم من العنوان، ليكون هكذا «سيقول الأشرار أننى أتحدث عن.. بالتحديد.» ارتبط الاسم بتجربتى فى الكتابة بعد ذلك دون أن أقصد، لا أدَّعى أننى خططت لهذا منذ البداية حين كتبت القصيدة، أو حين تطورت فكرة القصيدة فأصبحت ثلاثاً، أو حين قررت أن أضع قسماً كاملاً فى الديوان يضم أربع قصائد عن شخصية خيالية، لكنى فكرت وقتها فى خلق شخصية هى بمثابة المرأة الرسولة، التى يصفها الشعراء فى قصائدهم، لكنها فى الوقت ذاته تحمل همومهم الشخصية وهواجسهم، بدأت القصائد بشكلها المتتالى كأنها بكاء على أطلال عصري، يركب شاعره المترو ويجلس على المقهى ويعانى من المشاكل الحياتية المعاصرة لكل أبناء جيله، ومن ثم ففى القصيدة الثانية «من هى ميرفت عبد العزيز»، ثمة إشارات لكل الفتيات اللائى يمكن أن يكتب الشعراء قصائدهم فيهن من زمننا بهمومهن واهتماماتهن. كان الاستقبال الطيب للديوان، وردود الفعل المتفاعلة مع «قصائد ميرفت»، حافزاً، لأن تكون حاضرة فى دواوينى التالية، فحضرت فى ديوانى التالى «مديح الغابة» فى قصيدة «كما يليق بميرفت عبد العزيز»، وفى الديوان الذى يليه «طاعون يضع ساقاً فوق الأخرى وينظر للسماء»، حضرت فى قصيدة «حتى لا يعتقد الأولاد فى روض الفرج أننى سأغتاب تنورة من شبرا»، وفى ديوان «مدهامتان» حضرت فى قصيدتين هما «نعناعة فى فستان عائشة» وبعد ثلاثة دواوين متتالية؛ لم يعد بإمكانى قول المزيد من أجلك يا ميرفت»، لكن كان لديّ المزيد لأقوله فى ديوانى التالى «مقدمة فى الغياب» فى قصيدة «ميرفت عبد العزيز تقابل الغريب» وكنت أنا هذا الغريب حيث كتبتها وأنا خارج مصر، أما الظهور الأخير لها فقد كان فى الديوان التالى «سوداء وجميلة» فى قصيدة «ميرفت عبد العزيز ترتدى الحجاب»، لتحتجب بعدها شعرياً. بدأ الأمر كلعبة غير مقصودة، ثم تطور ليصبح لعبة شعرية تستحق أن تستمر، صرت أفكر فى كل ديوان فى قصيدة ميرفت، وكيف أكمل بناء هذا العالم الذى بدأ يتشكَّل بالتوالي، ووجدت نفسى مع ديوان تلو الآخر مندفعاً للبحث عنها، ووجدت معالم شخصيتها تتضح أمامي، وحين اكتملت فاجأتنى بظهورها روائياً فى روايتى «عنكبوت فى القلب»، وكأنها طوال هذه السنوات منذ ظهورها فى قصيدة «سيقول الأشرار أننى أتحدث عن ميرفت عبد العزيز بالتحديد»، وحتى ظهورها الأخير كانت فى رحلة مخاض، وتكوّن شعرى لملامح شخصيتها، وتأكيداً لإبراز ملامح هذه الرحلة، عمدت فى كل فصل من فصول الرواية يتحدث عن ميرفت، أن أبدأه بمقطع من قصيدة عنها من داووينى المختلفة. كان ظهورها فى الرواية خفيفاً أيضاً كقصيدة، فتاة عادية مثل أى فتاة يمكن أن تراها فى الشارع، لكنها تمر بأمور غرائبية، ثم تنتهى بأن تختفى فى مشهد فانتازي، كما يليق بشخصية قادمة من الشعر، ليظل بطل الرواية يبحث عن أثرها بقية الرواية، كما كنت أفعل فى قصائدي. مشهد النهاية الغرائبى استدعيته مجدداً فى روايتى التالية «ملحمة رأس الكلب»، كمشهد فانتازى تحفيزى تراه بطلة الرواية من نافذتها فيحفز طاقتها السحرية، تقول الرواية: «كل ما كانت تريده لبنى فى هذه اللحظة هو إشارة، إشارة صغيرة من رب السموات والأرضين السبع أنها تملك القدرة على السحر، وكل ما قامت به هو فتح الشباك الذى يطل على الشارع، وعندها رأت السحر مجسماً أمامها. كانت جارتها التى تسكن فى البناية المقابلة منذ ثلاثة شهور، ميرفت عبد العزيز، الفتاة غريبة الأطوار، تخرج إلى البلكونة فى اللحظة نفسها وهى تضع عنكبوتاً فوق كتفها، تحرك يديها كما يفعل المايسترو، لا، بل بحركة يدها تزحزح الغرفة من مكانها، بحركة يد أخرى تدفعها لأعلي، رأت لبنى الغرفة وهى تتحرك، رأتها وهى ترتفع، رأتها وهى تطير، رأتها وهى تختفى تماماً فى السماء، عندها أدركت لبنى أن هذه هى إشارتها. أن السحر قد مسَّ روحها وجسدها فارتجفت». كان هذا آخر ما كتبت عن ميرفت عبد العزيز، وبدا لى هذا المشهد كتلويحة وداع لشخصية عاشت معى فى كتابتى قرابة 17 عاماً، وشكلت جزءاً من أفكارى ورؤاى وما أود قوله. ربما تكون شخصية ميرفت عبد العزيز تطوَّرت عبر النصوص طوال كل هذه السنوات، وربما أيضا تكون ميرفت القصيدة الأولى التى كانت بمثابة حبيبة للشاعر يخاف عليها من الأشرار، ليست هى ميرفت القصيدة الأخيرة التى قررت أن ترتدى الحجاب لكنها نسيت كل شيء ولم يبقَ فى ذاكرتها إلا ظلال حياة سابقة، فقد تشكلت عبر السنوات، وأخذت ظلالاً من شخصيات مختلفة، حتى أصبح لها شكلها الخاص، وشخصيتها المستقلة، وربما لهذا لم تكن فى رواية «عنكبوت فى القلب» تعرف بدايتها الحقيقية، وهذا خلق ثلاث «ميرفتات»: ميرفت الفلسطينية، وميرفت الجنوبية، وميرفت السكندرية، لكن فيها جميعا تبدأ مع بداية الكون، وتكون الحياة: «فى البدء لم يكن هناك شيء. فقط، الشمس والقمر والليل والنهار والفصول والرياح والشعر والكتاب وميرفت عبد العزيز، لكن ميرفت لم تكن تحب الآيس كريم ولا الزومبى ولا الشعر، ولا تقرأه حتى من باب المجاملة»، فميرفت الشخصية القادمة من الشعر لا تحب الشعر، لأنها تشبه عامة الناس، الذين نراهم يومياً، رغم أن فى حياتهم من الغرائبية ما يجعلهم قصيدة مدهشة، تماماً مثل ميرفت التى «لم تحب شيئاً فى حياتها مثل العناكب والقطط الضالة والتماسيح وآثار الأقدام الحافية على الرمال ومشاهدة الكتاكيت الصغيرة، وبنسات الشعر الملونة». لم تظهر ميرفت فى ديوانيّ التاليين «جحيم»، أو «فوات الأوان»، كأنها مع مشهد طيرانها واختفائها فى السماء، قد اختفت فعلاً من عالمي، كأنها تجهزت كل تلك السنوات لذلك المشهد. لا أخفى أن نفسى تراودنى أحياناً أن أستعيدها مجدداً، لكنها تبدو لى غريبة. انظر إليها من بعيد. بحنين لا ريب لكنها نظرة استغراب، كأنها شخص انفصل عنى ولم أعد أعرفه، كأنها تحررت مني، كأنها ليست مألوفة لى ولم تعش معى سنوات طوالاً، وترتبط باسمي، كابن خيالى لي، ك» «بنت أفكاري»، فعلاً كما يقول التعبير الدارج. يعيدنى هذا مرة أخرى إلى القصيدة الأولى لميرفت، وأجواء كتابتها التى تبدو بعيدة الآن، لكنى أتذكرها فور أن أعيد قراءة القصيدة. لا أذكر كيف بدأت الفكرة، لكنى أذكر مصدر الصور الشعرية المتتالية فى النص التى تأخذنى فى رحلة فورية إلى الماضي، تشبه آلة الزمن لأتذكر أناساً ووجوها وشوارع وحكايات وكتباً قرأتها وأفلاماً شاهدتها وأغنيات سمعتها، وأحداث سياسية واقتصادية واجتماعية عشتها، وقصص حب فشلت فيها، وجملاً قيلت أمامى فأثرت فيّ وربما زعزعتنى وأخرى دفعتنى للأمام. كنت قد أنهيت دراستى الجامعية، وبدأت العمل صحافياً فى صحيفة الشرق الأوسط، أحاول تلمس خطواتى الأولى فى المدينة الصاخبة، أخوض مصاعبها المعتادة على شخص قادم من الجنوب، أتنقل بين شوارعها ومقاهيها ومظاهراتها. ثم كتبت القصيدة عن شخصية افتراضية، وحملتها كل همومى وأسئلتي. لم أكتب القصيدة عن فتاة اسمها ميرفت عبد العزيز، لأنى لم أقابل فى حياتى أحداً اسمه ميرفت، ربما كان الاسم متداولاً بكثرة فى مرحلة زمنية سابقة، لكنه الآن أصبح نادراً، وأكثر من مرة أبحث عن شخص باسم ميرفت عبد العزيز على الإنترنت، وكانت تظهر لى شخصية ربما تكون فى الستين من عمرها. أتذكر الآن أننى حين اخترت الاسم حرصت أن يكون اسماً عادياً غير ملفت، يمكن أن تحمله أية فتاة، كما أن اسم الأب يكون مشابها لأسماء ملايين المصريين، الذين يحرصون على أن يكون اسمهم مرتبطاً بأحد أسماء الله الحسني. واختياره جاء بالصدفة عندما ذكرت صديقة أمامى أنها فى طفولتها كانت تحلم أن اسمها «ميرفت»، أما اسم الأب، فهو الاسم الأوسط لأحد الأصدقاء. كنت سعيداً بالقصيدة بعد أن انتهيت منها، وحدث أن مررت من أمام مقهى زهرة البستان، ووجدت الشاعر ياسر الزيات جالساً هناك كعادته وقتها، فسلّمت عليه، وحين سألنى عن جديدى الشعري، عرضتها عليّ، فتأملها كثيراً، ثم سألني: «هل تحب فتاة من فلسطين؟». أعتقد أن سؤاله كان بسبب الإشارات إلى فلسطين فى القصيدة. والحقيقة أن القصيدة، أو مجموعة القصائد المتتالية، كانت محملة بجميع انشغالاتى العاطفية والفكرية والسياسية كما فى القصيدة الثالثة حين أقول «الوطن أقسى من الموت يا ميرفت»، مع إشارات إلى ناجى العلى وغرناطة. وأنا أكتب هذه الشهادة، فكرت أن أسأل «تشات جى بى تي» و«جيميني» من هى ميرفت عبد العزيز؟ وكانت إجابتهما متقاربة، إنها شخصية خيالية موجودة فى دواوين محمد أبوزيد. ارتبطت الشخصية بتجربتي، ربما كانت سبباً لنميمة فى لحظة ما، لكنها أيضاً كانت محفزاً فى بعض الأحيان للبعض ليقرأني، ومن المواقف الطريفة أن صديقة أخبرتنى أنها قرأت روايتى «عنكبوت فى القلب»، لأن اسم بطلة الرواية على اسم أمها. وحين أعدت الآن قراءة القصيدة، التى لم أقرأها منذ زمن، توقفت طويلاً، هاجمتنى الذكريات «كجلمود صخر حط السيل من عل» كما يقول امرؤ القيس، وجدتنى أمام مرآة الزمن التى لا ترحم، كأننى أقابل نفسى شاباً مرة أخري، كأننى أقابل ابناً ضالاً خرج منذ سنين طويلة، ودق الباب، وحين فتحت، نظرت فى عينيه وقلت: لماذا تأخرت؟