الطائف مدينة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، ولها حضورها العمراني والبشري، وأهلها يعملون في الزراعة والصناعة والتجارة والصيد وتربية النحل، وسكانها من العرب البائدة قديمًا أقوام كثيرون، منهم عَبْدُ ضَخْمٍ والعماليق وثمود. وعلى طول تاريخها الطويل أخرجت الطائف فنانين وأدباء وشعراء، أسهموا في إثراء الموسيقى والغناء والشعر العربي في عصوره المختلفة، إلا أن المرأة الشاعرة التي ظهرت في هذا المناخ الثقافي المتميز لم تحظ أعمالها بالدراسة والرصد والمتابعة، وهو ما أخذه على عاتقه الشاعر الدكتور فوزي خضر في كتابه الجديد "شاعرات الطائف بين الإقامة والترحال"، الذي صدر عن نادي الطائف الأدبي 2017، ليؤكد أنه بالرغم من كثرة أسماء الشعراء، فإنه لم يبرز اسم شاعرة إلا حينما أتيح للمرأة أن تعبر عن مشاعرها، من خلال الصحافة وأنشطتها الثقافية. وقد رصد الباحث في كتابه عددًا من شاعرات الطائف، سواء اللواتي صدر لهن ديوان شعر أو أكثر، أو اللواتي لم يصدر لهن ديوان بعد. ويقول الباحث: توجد شاعرات في الطائف تجرأت منهن من نشرت بعض قصائدها على "فيس بوك"، ثم لم تكرر المحاولة، وكثيرات أحجمن عن الإعلان عن قولهن الشعر، وربما كانت منهن من وهبت ملكة الإبداع الشعري، ولو كن تشجعن ونشرن قصائدهن فربما كان الرصيد الأدبي للمرأة في الطائف قد زاد كثيرًا. وقد تحصل الباحث على عدد من قصائد بعض الشاعرات لم يرغب في نشرها بالكتاب، احترامًا لرغبة الشاعرة، أو رغبة ذويها، لكنه رصد ثلاث قصائد نشرت لثلاث شاعرات من الطائف، هن: سلطانة العبدالله، وسَرَّة الصقير، وشاعرة أخرى أورد قصيدتها "كلية العلم"، لكنه لم يعرف من هي. ومن القصائد المفردة إلى الدواوين الشعرية المطبوعة، حيث نجد الشاعرة لطيفة قاري (مبدعة عملاقة في أنشودة العطاء)، يقول عنها فوزي خضر إن لها إنتاجًا شعريًا متميزًا أتاح لها أن تحظى بمكان بارز على خريطة الشعر السعودي المعاصر، وصارت معروفة لدى القارئ العربي حين تخطت قصائدها حدود المحلية، واطلع على شعرها القراء في الدول العربية. ويتوقف الباحث فى ديوانها "تكابد لبلابها والأسماء لا تكفي لعصفورين"، وهو ديوان ينقسم إلى قسمين كما يدل عنوانه، عند موسيقى الشعر فيه، وفي معظم الدواوين الأخرى التي يدرسها لشاعرات الطائف، حيث لاحظ أن قصائد الديوان لا تخرج عن النظام العروضي المتعارف عليه في النسق العمودي. كما أنها تتبع شكل التفعيلة في قصائد أخرى. ومن الأشكال الموسيقية التي درسها وتوقف عندها الباحث موسيقى التكرار التي لاحظها بكثافة عند الشاعرة، مما جعله يؤكد أن "التكرار بهذه الكثافة عند لطيفة قاري ليس حلية موسيقية تستخدمها الشاعرة، لكنه يقوم بوظيفة أساسية في التماسك العضوي والبناء الدرامي في القصيدة"، ويضرب مثلًا في ذلك بقصيدتها "الضلّيل" وقصيدتها "شناشيل بغداد". والباحث يخلص في نهاية بحثه في ديوان لطيفة قاري إلى أنها استخدمت لغة أخّاذة، وأبدعت تصويرًا فنيًا متفردًا، امتاز بابتكار صور شعرية باهرة. وعن الجانب الموسيقي، قال إنها أبدعت إبداعًا متميزًا في ظواهره الموسيقية المختلفة، مشيرا إلى أنه اكتفى بدراسة ظاهرة واحدة تمثلت في التكرار، بوصفه ملمحًا نغميًا لافتًا في قصائدها منح شعرها شخصية موسيقية متفردة لم تتحقق لغيرها في ميدان الإبداع الشعري، وعبرت بصدق عن تجربتها الأدبية بوسائل فنية متميزة أهّلتها لاتخاذ مكانتها الرفيعة بين الشاعرات العربيات في هذا العصر. أما الشاعرة لطيفة العصيمي، فقد أصدرت ديوانًا بعنوان "بلابل الشوق"، يضم بين دفتيه سبعًا وعشرين قصيدة، منها أربع قصائد تفعيلية، وثلاث وعشرون قصيدة بيتية، وصدرت الديوان بديباجة، وختمته بشكر كل من ساعدها. يقول فوزي خضر: لعل أكثر القصائد ظرفًا في هذا المجال قصيدة "قصة المطبخ" التي يمكن استقبالها بظاهر معناها، كما يمكن استقبالها بوصفها قصيدة رمزية، فالقطة والمطبخ والقطط التي في الحارة جميعها رموز لأشخاص وأمكنة، وهو يثبت القصيدة كاملة، ويجئ في مطلعها: بيضاء تدخل جوف خدري .. وتجوب بيتي دون أمري وإذا دخلتُ بمطبخي .. سارت أمامي قيد شبرِ في مطبخي بيت لها .. سكنٌ .. تعيش به كقصرِ ويرى "خضر" أن لطيفة بنت سعود العصيمي تمتلك ناصية اللغة، والقدرة على التعبير عن مشاعر متدفقة، ورسم صور فنية متفردة، وهي تحتاج إلى أن تضع تلك الطاقة في التعبير عن مشاعرها في مسار من الصدق عن دواخلها، فلا تضع في طريق تدفق نهرها عوائق تمنعها من التعبير عن تجربتها الشعرية الثرية. الشاعرة د. وفاء خنكار، محبة تشدو في أرجاء العالم، وديوان "الحب في ألاسكا" واحد من دواوينها، وكأنها تريد أن تقول: الحب في عز البرد، وتتسم قصائدها بالوضوح وتسلسل الأفكار والصور الفنية التي يألفها الفكر والشعور، وهي تحاول الاستفادة من ثقافتها، سواءً أكان ذلك من خلال ما حصلته من معارف ومعلومات من قراءاتها، أم كان مما رأته من بلاد وعادات الشعوب في الشرق والغرب. وعلى الرغم من أنها تكتب قصيدة النثر، فإن المؤلف لاحظ حنين الشاعرة للقافية في كثير من الأحيان، ولاحظ فى قصيدتها "لست بعاشقة" أنها تمثل أنموذجًا بشأن ما تتطلبه قصيدة النثر وما تؤديه قصيدة التفعيلة، فمثل هذه القصيدة لا تحتاج إلى أن تكون نثرًا، لأنها لا تتبع تقنيات قصيدة النثر، ولكن تتوافر فيها كل مواصفات قصيدة التفعيلة ما عدا الوزن وبعض المتطلبات الفنية الأخرى. أما الشاعرة أحلام الثقفي (الحالمة بحروف الأسماء)، فقد أصدرت ديوانًا بعنوان "لغة من كرز"، يشتمل على سبعة وستين نصًا، كل نص بعنوان "كرزة"، وتدور نصوص الديوان بصفة عامة حول مشاعر الأنثى في ارتحالها عبر مواقف تتنوع مع استمرار الحياة، وانتقالها من مرحلة إلى أخرى. ويقول فوزي خضر إنها تأثرت بأشعار نزار قباني في التوجه العام نحو الاحتفاء بلغة الجسد، وارتباطه بمناحي حياة الإنسان جميعها، وتعلن ذلك منذ كرزتها الأولى، حيث تقدم الشكر إلى نزار، فهو الناطق باسم العشاق، وهو الذي رسم المرأة أنثى حالمة تنام على الأيادي الحريرية، وتطير على أشجار الياسمين، وفي ذلك تقول أحلام الثقفي: شكرًا نزار حين قلت إنك الناطق الرسمي باسم خمسين مليونًا من العشاق. ويشهد فوزي خضر على أن الشاعرة قد نجحت بمعظم نصوص ديوانها في رسم تجربة عشق حافلة بالتنوع والإبداع. الشاعرة خديجة السيد (نابضة في عناقيد الأنوثة)، صاحبة ديوان "نبض العناقيد" الذي تنتمي معظم قصائده إلى قصيدة النثر، ويرى "خضر" أن بعض القصائد تبدأ نثرًا، ثم تختتمها الشاعرة بسطور موزونة، ويؤكد أن رؤية الشاعرة تختلف عن رؤى معظم الشاعرات السعوديات بشأن الشعور بالنقص والضآلة لكونها أنثى، حتى أولئك اللاتي حاولن الدفاع عن الأنثى كانت لديهن قصائد فيها ذلك الشعور السلبي، أما خديجة السيد فهي ترى العكس، فهى ترى رفعتها وقوتها وشموخها، لكونها أنثى، وهي تشعر أنها أنثى مختلفة، حيث تجاوزت كل النساء بما تخطه من كلمات على الصفحات، حيث تقول: يعبر الحرف شرايين قلبي تزمجر أجراس الاستحالة في ظل عنفوان الخطى أنثر عبير باقة أنثى مستحيلة الشاعرة سارة الصافي (مغردة في وادي الجمال)، ومن خلال ديوانها "صلصال ودماء" ترسم صورة رجُلَها في قصيدة "سئمت الانتظار"، حيث يتضح أن هيمنة الجسد الأنثوي في شعر الرجل يقابله انصراف عن جسد الرجل في شعر المرأة. كما يتضح أن الحرمان ينتظم قصائد الديوان، وما بين الأمل واليأس تتوالى القصائد مفعمة بمشاعر جياشة لإنسانة حساسة. أما الشاعرة أميرة صَبياني فتقدم تجربتها كما أرادت أن تقدمها، فحبست مشاعرها في جانب لم تشأ البوح به، وأطلقت مشاعرها في جوانب متعددة من الأسف على من فارقوا، ومن المحبة الجارفة لبناتها وابنيها، ومن عشق الوطن والأمة، والتعاطف مع الشعوب المظلومة، وحب اللغة العربية، والتأمل في الكون وفي أحوال الناس، فكانت تجربتها – كما يرى فوزي خضر – حافلة بالمعاني الطيبة التي تنحاز للخير والجمال وتتمسك بالقيم الناصعة. آخر شاعرات الطائف في هذا الكتاب هي الشاعرة بديعة كشغري، حيث يحتوي ديوانها "مناسك أنثى" على تجليات موسيقية اتضحت في القوافي من ناحية، وفي استخدام الحروف من ناحية ثانية، وفي الاستعانة بالجناس من ناحية ثالثة. ويرى فوزي خضر أن ديوان "كشغري" حافل بنماذج كثيرة، مثلما سيرتها الذاتية حافلة بالإنجازات والعطاء في مجالات الشعر والترجمة والصحافة والأنشطة الثقافية والصالونات الأدبية في السعودية وكندا، وهي مثل مشرق للمرأة العربية في نشاطها وعطائها الثقافي والاجتماعي. ويخلص فوزي خضر في كتابه "شاعرات الطائف بين الإقامة والترحال" إلى تنوع الإنتاج الشعري لدى هؤلاء الشاعرات، فمنهن من انحازت للشعر الموزون، ومنهن من مالت لقصيدة النثر، لكن كلًا منهن قدمت تجربتها الشخصية بغير تقليد للأخريات، فجاءت دواوينهن باقة طيبة من أزهار متنوعة في أشكالها، ومنتظمة في إطار واحد، يجمع تجربة المرأة الطائفية في هذا العصر.