ليست مجرد «أسواق» يتم فيها البيع والشراء لكنها عالم يمتزج فيه التاريخ والأصالة، ويعود إلى مئات السنين.. سوق الجمال أكبر وأقدم الأسواق في مصر والعالم العربى كله، يأتى إليه التجار من كل مكان لبيع وشراء الجمال التي تختلف نشأتها، فمنها ما هو مصرى ومنها ما يأتى خصيصا من السودان وكينيا وجيبوتى والصومال، ويتم البيع فيها بالعرض والطلب عن طريق المزاد. فى الطريق إلى «سوق برقاش» ركبنا متزاحمين في شاحنة نصف نقل «بيك أب» تحمل البشر - كما تحمل غيرهم - ثم ركبنا «توكتوك» مر عبر طريق ضيق غير ممهد، فالطريق إلى السوق يمر إما عن طريق مركز إمبابة أو طريق المحور عبر قرى نكلا والمنصورية وحتى قرية برقاش التابعة لمركز منشأة القناطر. ووصلنا للسوق الذى تبلغ مساحته 25 فدانا، ويدخلها شهريا ما يصل إلى 15 ألف رأس من الجمال معظمها قادم من السودان والصومال وكينيا، وهى أكبر سوق لتجارة الجمال فى مصر، والمعبر الثالث - بعد سوقى «شلاتين» و«دراو» بأسوان - لدخول الجمال لمصر. مئات الجمال افترشت أرض السوق مع مُلّاكها، الذين جلسوا تحت العشش يحتسون القهوة والشاي، فيما جلس بعضهم حول طاولات خشبية ترتفع قليلا عن الأرض لتناول طعام مكون من الفول والطعمية والخبز البلدي والجبن والبصل والخضراوات يتبعونها بتناول «الجوزة» - الشيشة البلدى وهى فى الغالب عبارة عن برطمان من الزجاج، ومثقوبة ثقبين واحد للحجر، وآخر لأنبوب أو «عود غاب» التدخين. العمل هنا يبدأ من الفجر ويمتد لساعات متأخرة من الليل فى المواسم والأعياد، خاصة يومى الأحد والجمعة، فضلا عن العشر الأواخر من ذى الحجة، حيث يبدأ التجار فى التوافد على السوق من الخامسة صباحا متنقلين بين الجمال والمكاتب لاختيار ما يناسبهم. مساحة السوق مقسمة إلى أحواش، ولكل تاجر مكانه الثابت ومكتب يجلس عليه ليتابع تفاصيل البيع، ويبدأ المشترون فى التوافد متنقلين بين الجمال والمكاتب لاختيار ما يناسبهم من الأنواع المختلفة. ◄ مشهد بديع السوق ممتلئة بالجمال التى رُبط أغلبها من رجله اليسرى الأمامية إلى ساقه اليمنى الخلفية بحبل سميك لتقييد الحركة، والمشهد عموما بديع يجعلك تستحضر قوله تعالى فى سورة الغاشية «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت». فقد اصطفت فى مجموعات، بعضها قائم وبعضها افترش الأرض فى هيبة متقنة، كنا نتفرس وجوهها، وهى شامخة رغم صغر سنها! ووفقا لتقارير وزارة الزراعة واستصلاح الأراضى، فإن حركة تداول الإبل فى «سوق برقاش» وحدها تصل ل150 ألف رأس من الجمال والنوق سنويا، بمتوسط يصل ل12 ألف رأس شهريا، وتخضع لرقابة بيطرية قبل وصولها البلاد من مختلف الدول عبر جنوب مصر، خاصة أن معظمها قادم من السودان، وهى نقطة التقاء الإبل من مختلف الدول ويتم من خلال السوق إعادة تسويقها بمختلف المحافظات. وأغلب الأنواع التى يتم التجارة فيها كما يقول الدكتور سيد خليفة نقيب الزراعيين هى: البلدى، والمغربي، والبيشارى، والدنقلاوى، والزمكلى، والألعنانى، والعنافى، وكافة أنواع الجمال التى يتم إحضارها إلى السوق وحسب الطلب.. يقول محمد مسعود وهو مستورد من قنا، ويتعامل مع سوق برقاش منذ سنوات، حيث يسافر إلى السودان للتعاقد على شرائها من المورد السودانى: أغلبها نجلبه من غرب وشرق السودان ودارفور، ليتم نقلها من مدينة الفاشر وعبر مدينة كسلا وحتى الحدود السودانية المصرية، فى رحلة طويلة تمتد لأكثر من 1500 كيلو عبر الصحراء، ويتم شحنها فى سيارات، ثم تسير على الأقدام لفترات طويلة تصل ل6 أيام. ◄ اقرأ أيضًا | في عيد الأضحى | طريقة التخلص من زفارة اللحم الضأن ◄ رحلة الصبر تبدأ رحلة الإبل والجمال لمصر عبر دروب صعبة وقاحلة بداية من مراعى السودان مرورا بعدة مناطق، ثم بالحدود حتى دخول مدينة شلاتين، التى تعتبر أولى محطات الإبل فى مصر وواحدة من أهم نقاط تجارة الإبل. ثم يأتى سوق «دراو» بمدينة دراو بمحافظة أسوان وهو من أشهر الأسواق بجنوب مصر، ويعد بمثابة بورصة لتجارة الجمال حيث يقصد السوق تجار من كافة المحافظات وتباع فيه جمال من سلالات مختلفة، كما يعد السوق الأكبر لاستقبال الإبل القادمة من السودان، ثم سوق «برقاش» الذى نحن فيه الآن. ويعد «سوق الزقازيق» بمحافظة الشرقية، أشهر الأسواق فى شمال مصر، ويضم عددا كبيرا من كبار المربين والتجار فى مراكز بلبيس والقرين والزقازيق، كما يستقطب جميع تجار الجمال من مختلف محافظات الوجه البحرى، حيث يقصده تجار من القاهرة، والمنوفية، والبحيرة. ◄ أنواع الإبل مع اتساع دائرة تأثيرات التغيرات المناخية على قطاع الزراعة والحيوان بدأت الإبل فى لفت الانتباه إليها خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض موارد المياه الصالحة للشرب، بالتالى بدأ الاهتمام بهذا الحيوان الذى له أهمية اقتصادية كحيوان يعيش وينتج تحت الظروف الجافة والحارة. ويبلغ تعداد الإبل فى العالم 19 مليون رأس، منها ما يزيد على 17 مليون إبل عربية «أى وحيدة السنام» والبقية إبل ثنائية السنام، ويحظى الوطن العربى بالعدد الأكبر من الإبل على مستوى العالم، ونجد كذلك أن كلا من الصومال والسودان تمتلك العدد الأكبر 6 و4 ملايين رأس على التوالى. وتأتى مصر فى المرتبة السابعة، حيث يتراوح تعداد الإبل فيها بين 160 و180 ألف رأس، وتمثل 1% من إجمالى تعداد الحيوانات الأخرى، كما تسهم بنسبة 6% - 301 ألف طن - من اللحوم وبحوالى 3% - 43 ألف طن - من الحليب سنويًا. وليس هناك تاريخ محدد لدخول الجمال والإبل لمصر، فهناك إبل نشأت فى أواسط آسيا، ثم دخلت الجزيرة العربية ثم وصلت إلى الشام ثم سيناء ومنها انتقلت إلى إفريقيا، لكن المؤكد أن الجمل دخل تلك المناطق فى تاريخ سابق لسنة 25 قبل الميلاد، فقد وجد تمثال برونزى للجمل فى مقبرة لحاكم تولى حكم «مروى» بين عامى 15 و25 قبل الميلاد، وشاع استخدامه فى العهد الرومانى. و«الإبل» ثلاثة أنواع: «جمال اللحم» أى للذبح والأكل، والجمال المعدة للزراعة والعمل فى الأرض، والنوع الثالث الجمال المعدة للركوب السريع والسباق وهى الأغلى سعرا. الإبل هنا تباع بجميع أنواعها وتختلف أسعارها حسب عدة عوامل، أهمها العمر والنوع والحالة الصحية والغرض من الشراء لحم أو للعمل، فالجمل القاعود يبلغ سعره من 190 إلى 200 ألف جنيه، والجمل الكبير السن يبلغ سعره من 180 إلى 185 ألف جنيه، والإبل المصرية يبدأ سعرها من 20 ألف جنيه ويصل إلى 50 ألف جنيه، والإبل السودانية يبدأ سعرها من 30 ألف جنيه ويصل إلى 70 ألف جنيه. وهناك عوامل تؤثر على أسعار الإبل مثل العرض والطلب حيث يزداد الطلب على الإبل مع اقتراب موسم الحج وعيد الأضحى، مما يؤدى لارتفاع الأسعار، وعموما فإن الجمال السودانية أغلى من المصرية، والجمال المخصصة للأضحية تكون أغلى من تلك المخصصة للذبح. وجمال التحميل والزراعة أغلى من جمال اللحم وتصل أسعار بعض الأنواع لأرقام كبيرة، حيث يستخدمها تجار التهريب والممنوعات فى التنقل عبر الطرق الوعرة والمناطق الجبلية بين صحراء مصر والسودان وليبيا. وأنواع الإبل فى مصر هى: «الإبل المغربى» وهى السلالة المتواجدة فى غرب مصر وشمال إفريقيا وهى سلالة منتجة للحم واللبن، و«الإبل الفلاحى» وتنتشر هذه السلالة فى الدلتا ووادى النيل وهى سلالة إنتاج لحم وتستخدم فى العمل أيضا فى مجال أعمال الزراعة والنقل أحيانا، و«الإبل المولد» وهى سلالة خليط من الإبل الفلاحى والمغربى وتنتشر فى الوادى الجديد، و«الإبل السودانى» وهى سودانية الأصل وتنتشر فى جنوب مصر وهى سلالات متخصصة فى إنتاج اللحم وتستخدم فى العمل بالصعيد. ◄ قطيع النواة الإبل تعتبر المعجزة فهى الحل الأمثل لتوفير الغذاء وأيضا الدواء، بل والاستثمار والاقتصاد والاستغلال الأمثل للموارد فى ظل أجواء مليئة بالتلوث ومواد غذائية غير موثوق فيها، فهى حيوانات مقاومة للتغيرات المناخية المتلاحقة وما يصاحبها من ارتفاع وانخفاض شديدين فى درجات الحرارة، علاوة على دورها الملموس فى سد الفجوة الغذائية الناجمة عن الزيادة السكانية المتسارعة. الدكتورة فاطمة رمضان، الباحثة بقسم بحوث الإبل بمعهد الحيوان بمركز البحوث الزراعية تقول: الإبل تعيش على أعشاب المراعى الصحراوية الخشنة والمالحة، وتعتمد التغذية المتوازنة على الرعى، ومع إضافة القرط والعلف المركز أو الشعير وتقديم التغذية التكميلية للنوق خلال الحمل تكون الزيادة اليومية فى وزنها من 280 ل600 جرام، وتحت الظروف الغذائية المكثفة يبلغ السن المحدد للذبح بالنسبة للقعدان ما بين سنة وسنة ونصف أى عند بلوغها 250 كيلو. وتعتبر لحوم الإبل من أجود أنواع اللحوم الحمراء وتحتوى على نسبة ضئيلة من الدهون بالمقارنة مع اللحوم الأخرى، ويتراوح إنتاج الحليب من النوق بين 6 و12 لترا يوميا ويتميز الحليب بميزة غذائية وعلاجية هامة جدا خاصة لعلاج الأمراض المناعية. وبالنسبة للوبر يستعمل فى نسج الملابس ويدخل فى صناعة الحبال. وهناك اهتمام كبير من وزارة الزراعة وكافة الجهات المعنية، بضم مشروعات تربية الإبل لمنظومة وقطاع الثروة الحيوانية، للاستفادة من ميزاتها، علاوة على انخفاض مدخلات إنتاجها مقارنة بغيرها من الحيوانات التقليدية الأخرى كالجاموس والأبقار. وللعلم فإن هناك مشروعا للحفاظ على السلالة الفلاحى هو مشروع «قطيع النواة» للحفاظ على نقاء السلالات المصرية، والعمل على تطبيق برامج إكثارها ونشرها مرة أخرى بالسوق المحلى، والاستفادة من مزاياها وقدرتها الكبيرة على تحمل الظروف والأجواء المناخية والبيئية المصرية.. وهناك العديد من السبل والتقنيات التى يتم اتباعها لتحسين خصائص اللحم، من خلال بعض التركيبات العلفية الجديدة.. وهناك مقترح للتوسع فى إقامة مشاريع لتربية الإبل والاستفادة منها، من خلال مزارع نموذجية لتخدم الأحياء القريبة الكثيفة فى عدد السكان وذلك لإنتاج حليب الإبل، وذكور التسمين تبدأ بشراء 80 ناقة حلوب فى العام الأول وعدد مماثل من العام الثانى مع عدد 20 فحلا للتلقيح على أن تكون الطاقة القصوى للمشروع 100رأس من مختلف أعمار الإبل وفى حدود طاقة المرعى.. ومن خلالها سيتم توفير السلع الأساسية من اللحوم والألبان للمواطنين، وتوفير فرص عمل وانبثاق فرص مشاريع أخرى من خلال هذا المشروع.