للعطور حكاية عريقة تمتد عبر تاريخ مصر القديمة، حيث كانت جزءاً من الحياة اليومية، ووسيلة للتقرب من الآلهة، ورمزاً للرقي والجمال. وفي عصور لاحقة، تطورت صناعة العطور لتصبح فناً يعكس ثقافة الشعوب وأذواقها. في هذا التقرير، نستعرض حكاية العطور في مصر القديمة والعصور اللاحقة، وكيف استخدمها المصريون للتعبير عن الجمال والتواصل الروحي، ونتتبع تطورها عبر الزمن حتى يومنا هذا. ◄ العطور في مصر القديمة: رائحة الآلهة والجمال كانت العطور تحتل مكانة خاصة في مصر القديمة، حيث استخدمت في الطقوس الدينية والجنائزية، فضلاً عن الزينة الشخصية. كانت المكونات الطبيعية مثل الزهور، واللبان، والمُرّ، والعرعر، والناردين تُسحق وتُخلط مع زيوت نباتية لإنتاج روائح مميزة. وقد تم العثور على أواني العطور في مقابر الفراعنة، ما يدل على أهميتها في الحياة والموت. طرق الاستخدام: 1. في الطقوس الدينية: استخدمت العطور في البخور المخصص للمعابد، لتقديمها للآلهة كوسيلة للتطهير الروحي. 2. في التحنيط: كانت العطور والزيوت العطرية جزءاً أساسياً من عملية التحنيط، للحفاظ على الجثث والتعبير عن الاحترام للموتى. 3. للجمال الشخصي: استخدم المصريون القدماء العطور كرمز للرقي، حيث كان يُعتقد أن العطر يعبر عن نقاء الروح. ◄ العطور عبر العصور: من التراث إلى الابتكار مع انتقال الحضارة المصرية إلى عصورها الإسلامية والحديثة، تطورت صناعة العطور بفضل التبادل التجاري مع الدول الأخرى. خلال العصر الإسلامي، برزت روائح جديدة مثل المسك والعنبر والورد الدمشقي. كما شهدت صناعة العطور تطوراً تقنياً مع إدخال عمليات التقطير. أبرز مراحل تطور العطور: 1. العصور الوسطى: انتقلت تقنيات صناعة العطور من مصر إلى أوروبا عبر الحضارة الإسلامية. 2. العصور الحديثة: أصبحت العطور صناعة عالمية، ولكن مصر حافظت على طابعها الفريد من خلال استخدام الزيوت الطبيعية مثل زيت الياسمين والورد البلدي. ◄ صناعة العطور في مصر اليوم تعتبر مصر من أبرز منتجي الزيوت العطرية المستخدمة في العطور العالمية، مثل زيت الياسمين الذي يمثل نسبة كبيرة من الإنتاج العالمي. كما أن العطور المصرية التقليدية ما زالت تحتفظ بجاذبيتها في الأسواق العالمية والمحلية. لم تكن العطور مجرد وسيلة للزينة أو التطهير، بل كانت تجسيداً للألوهية في الفكر المصري القديم. وفقًا لأسطورة الخلق في هليوبوليس، جاء المعبودات إلى الوجود من خلال "عرق أتوم"، الذي اعتُبر إفرازاً عطرياً يُجسد أصل الحياة. كان البخور والعطور يُمثلان تجليات إلهية، وكان دخان البخور المتصاعد يُعد وسيلة للاتصال بين عالم البشر وعالم الآلهة. ◄ العطور والمعبودات: رموز مقدسة 1. آمون وتجلياته العطرية: في عصر الملكة حتشبسوت، كان آمون يُعتبر محور العبادة العطرية. حيث ارتبطت الطقوس الخاصة به باستخدام العطور التي تُقدم كقربان. 2. حورس وسيد العطر: منذ الدولة القديمة، كان حورس يُعرف بسيد العطر، وظهرت تعبيرات مثل «عطر حورس» و«عطر عين حورس» للدلالة على نقاء وعظمة الروائح المقدمة في الطقوس. 3. نفرتوم وزهرة اللوتس: ارتبط نفرتوم، إله الشفاء والجمال، بزهرة اللوتس العطرية التي كان رع يستنشقها كل صباح مع شروق الشمس. 4. شسمو وصناعة العطور: ارتبط المعبود شسمو بصناعة الزيوت العطرية والبخور، وكان يُعتبر صانع العطور الماهر في الأساطير المصرية. ومنذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا، تظل العطور شاهداً حياً على تطور الحضارات وأذواق الشعوب. في مصر، تحكي العطور قصة فريدة من الإبداع والابتكار، تعكس عبق الماضي وسحر الحاضر. ◄ البخور: الرابط بين السماء والأرض كان البخور جزءاً لا يتجزأ من الطقوس الدينية، حيث استخدم لتطهير المعابد وإقامة الشعائر. واعتُبر دخانه وسيلة تُقرّب المعبودات من البشر. كانت تسمية "بخور الإله" مرتبطة بفكرة التجلّي الإلهي، وظهر في النصوص الدينية وصف البخور بأنه "عطر عين حورس". لمن يرغب في استكشاف المزيد عن العطور المصرية القديمة، يُقام معرض أثري مميز في المتحف المصري بالقاهرة، بالتعاون مع جامعة بول فاليري مونبلييه 3 في فرنسا. يعرض المعرض تفاصيل استخدام العطور في الحياة اليومية والطقوس الدينية، ويقدم تجربة تفاعلية للزوار، منها: ◄ تقنيات الواقع الافتراضي تعيش الزائر تجربة محاكاة لاستخدام العطور في مصر القديمة، سواء في الطقوس أو التحنيط. اقرأ أيضا| أصل الحكاية| تعاليم «بتاح حتب».. فن «الأتيكيت» لقدماء المصريين استنشاق العطور المصرية القديمة: يقدم المعرض عينات من الروائح المصرية القديمة التي أُعيد تركيبها بناءً على برديات أثرية. تحت عنوان «عطور مصر القديمة عبر العصور»، نظم المتحف المصري بالتحرير معرضا مؤقتا عن صناعة العطور قديماً، بالتعاون مع جامعة بول ڤاليري مونبليه 3 في فرنسا والمعمل المتميز لابكس أرشيمد ومؤسسة اللغة الهيروغليفية هيرولكسيك. يهدف المعرض إلى إلقاء الضوء على صناعة العطور في مصر القديمة واستخداماتها وتركيباتها المختلفة والطقوس المرتبطة بها من خلال عرض مجموعة من القطع الأثرية المرتبطة بالعطور والتي تم اختيارها من مقتنيات المتحف المصري بالتحرير ومتحف الفن الإسلامي بباب الخلق والمتحف القبطي بمصر القديمة. يحتوي المعرض على مجموعة من القطع الأثرية التي لها علاقة بالعطور في مصر القديمة وعلى رأسها تماثيل لكل من الملكة حتشبسوت والإله آمون رع ومناظر الرحلة التي أرسلتها حتشبسوت لبلاد بونت لإحضار المنتجات التي يصنع منها العطور مثل المُر واللبان، هذا فضلا عن مجموعة من الزهور الأثرية المجففة من الدولة الحديثة، والأواني التي كانت تحفظ بداخلها العطور وكذلك المخطوطات التي بها وصفات تحضير العطور. وأوضح مؤمن عثمان رئيس قطاع المتاحف بالمجلس الأعلى للآثار، أن هذا المعرض يتيح لزائريه الفرصة للتعرف على أحد أهم الصناعات في مصر القديمة وهي العطور، معرباً عن كامل تقديره لمجهود الجانب الفرنسي لإقامة هذا المعرض وخروجه بالشكل اللائق، مثمنا على التعاون الكبير بين مصر وفرنسا في مجال العمل الأثري بشكل عام. ومن جانبه قال الدكتور على عبد الحليم مدير عام المتحف المصري بالتحرير، أن المعرض سوف يستمر لمدة ثلاثة أشهر وإنه يتيح إلى جانب عرض القطع الأثرية، تقنية الواقع الافتراضي والتي تمكن الزائر من معايشة التجربة المتحفية ومشاهدة استخدامات العطور في الحياة اليومية، والشعائر والطقوس الدينية من خلال عملية التحنيط، وأيضاً الاستخدامات السياسية لصناعة العطور. ◄ البرديات الأثرية وأضاف أنه تم تركيب بعض العطور المصرية القديمة طبقا لما جاء بالبرديات الأثرية تحت إشراف قسم الترميم بالمتحف، وعرضها لزوار المعرض، الأمر الذي أتاح لهم استنشاقها والتعرف على العطور المصرية القديمة على أرض الواقع. افتتح المعرض كل من مؤمن عثمان رئيس قطاع المتاحف بالمجلس الأعلى للآثار، والدكتور علي عبد الحليم علي مدير عام المتحف المصري بالقاهرة، والدكتورة حنان جابر الباحثة في علم المصريات بجامعة مونبلييه، وبحضور الدكتور علي عمر رئيس اللجنة العليا لسيناريوهات العرض المتحفي، والدكتور محمود مبروك مستشار الوزير لشئون العرض المتحفي، والدكتور أسامة عبد الوارث مدير متحف الطفل ورئيس أيكوم مصر، والدكتور فريدريك سارفجان استاذ ورئيس قسم المصريات بجامعة مونبليه بفرنسا، الدكتور عباس زواش مدير الدراسات بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، بالإضافة إلى عدد كبير من أساتذة الآثار وعلوم المتاحف بالجامعات المصرية والفرنسية، ومديري المعاهد الأجنبية المهتمة بالآثار فى مصر، ولفيف من السادة اُمناء المتاحف والعاملين بالحقل الأثري. ◄ الدعوة لزيارة المعرض المعرض يُقام يومياً من الساعة التاسعة صباحاً وحتى الساعة الخامسة مساءً بقاعة 44 في الطابق الأرضي من المتحف. الدخول مجاني للاستمتاع بهذه التجربة الثقافية الفريدة التي تأخذكم في رحلة عبر الزمن لاستكشاف عبق الحضارة المصرية القديمة.