هل يمكنك تخيُّل كم الذكريات التى يحملها المربع الذى تقف فيه حاليًا وربما لا تتجاوز مساحته بعض السنتميترات؟ سؤال قد يكون المخرج الأمريكى روبرت زيميكس طرحه على نفسه أو على المقربين منه، قبل أن يجد ضالته فى الرواية المصورة لريتشارد ماكجواير «هنا» (التى نُشِرت فى ست صفحات عام 1989، وتم تطويرها إلى رواية مصورة من 304 صفحة فى عام 2014) ليقرر تحويلها إلى فيلم تدور أحداثه – الممتدة على مدار قرون – داخل غرفة واحدة، تصبح شاهدة على كل ما هو إنسانى وعابر، حيث تتقاطع الحيوات وتتصادم المشاعر وتترك الذكريات بصماتها التى لا تُمحى، عبر مشاهد تتداخل فيها الأزمنة، ويتماوج الماضى والحاضر فى الغرفة ذاتها، فهو لا يتناول فقط المكان الممثَّل فى الغرفة، وإنما الزمن – أيضًا – الذى يعيد تشكيل الأماكن من خلال الحيوات التى تمر بها. «هنا» هو واحد من الأفلام التى شهد مهرجان القاهرة السينمائى عرضها ضمن «القسم الرسمى خارج المسابقة» فى دورته المنقضية قبل يومين، والتى تعتمد على الزمن كخيط يربط بين البشر، فى حالاتهم الأكثر هشاشة، وتنحو إلى تشخيص الأشياء، فالغرفة هنا ليست مجرد موقع للأحداث بقدر ما هى شخصية بذاتها، تحمل جدرانها ذكريات من مروا بها، وأرضيتها تحفظ آثار أقدامهم. إنها المكان الوحيد الذى يظل ثابتًا بينما تتغير الأزمنة والوجوه، فتبدو فى كل حقبة وكأنها شخصية جديدة تتحدث بلغة مختلفة. ومثلما تعامل زيميكس مع الغرفة؛ فعل كذلك تشن سيتشنغ، مخرج الفيلم الصينى «الشفرة» المأخوذ عن رواية ماى جيا بنفس الاسم، والذى جعل الأرقام تبدو وكأنها شخصيات خفية تتحرك فى مسار السرد، لا مجرد أدوات لفك الشفرات، بل شفرات قائمة بذاتها، تشكّل لغة يتحدث بها البطل مع العالم، لدرجة أن المونتاج جعلها تتراقص وتتصادم كما لو كانت كائنات حية. ورغم أن أحداث الفيلم – الذى عُرض ضمن أسبوع السينما الصينية فى المهرجان – تدور فى فلك الحرب العالمية الثانية، لكنه يتطرق بذكاء لجدلية التعليم والذكاء الاصطناعى، التى تتعلق مباشرة بواقعنا المعاصر. وفى مقابلة بين البطل ومعلمه – بما يمتازان به من سمات عبقرية لا يشاركهما فيها أحد – تتصاعد العلاقة بينهما لتصبح مواجهة بين الإنسان والآلة، وتبادل العلاقة بينهما، لنصل إلى تساؤل مفاده؛ هل يمكن للعقل البشرى أن يبقى حرًا بينما يُستخدم كأداة؟ عبقرية البطل ومعلمه تجعلهما جنودًا غير مرئيين فى حرب خفية بين جهتين متضادتين، ورغم اختلاف توصيف كل منهما ما بين البطل والخائن، لكنهما – بشكل خاص – يجتمعان فى الجهة ذاتها، لينقذ كل منهما الآخر رغم المسافة، لأنهما كما يتشاركان العبقرية؛ يعانيان – أيضًا – من الوحدة التى تدفعهم أحيانًا نحو حافة الجنون، وعزلة روحيهما الهشة. تلك الروح الهشة المنعزلة تعيش بها – كذلك – بطلة الفيلم الأسترالى «مذكرات الحلزون» الذى عُرض فى المسابقة الدولية بالمهرجان، واختار أسلوبًا غير تقليديًا فى السرد، ليحكى بالصلصال قصة امرأة تنسج عالمها الخاص من القواقع الصغيرة بينما تحاول أن تجد مكانًا لها فى عالم لا يرحم. شخصية هشة، مهشمة بين ذكريات فقدان الأم عند الولادة، وطفولة قاسية فى حضن أب مدمن ومشلول، لكن هشاشتها هى مصدر قوتها، تمامًا كالقوقعة التى تحمل بيتها الهش فوق ظهرها. فالقواقع التى تجمعها فى الفيلم ليست مجرد هواية عبثية، ولكنها استعارة عن الحياة نفسها؛ بطيئة، مملة فى ظاهرها، لكنها تحمل فى طياتها أسرارًا جمالية مذهلة. تسير تلك المرأة كالقواقع؛ بخطى بطيئة فى حياتها، لكنها تجد العزاء فى التفاصيل الصغيرة التى يتجاهلها الآخرون، فهى تمتلك قدرة فريدة على إيجاد الجمال فى التفاصيل الصغيرة، وهوايتها فى جمع القواقع هى طريقتها المثلى فى التعامل مع العالم، لتصبح القواقع رمزًا للصبر والقدرة على التأقلم، وهى رسالة الفيلم الأساسية؛ أن الجمال يكمن فى الصبر وفى الأشياء التى نُهملها، وقد تجعل من الحياة مغامرة شاعرية مهما كانت بطيئة. فهي لا تعامل الوحدة كعدو مثل بطل «الشفرة»، بل كرفيق دائم صنعت منه عالمًا خاصًا بها، وبإمكانه أن يصبح قوة خفية تدفعنا لإعادة اكتشاف أنفسنا. وانتقالًا من صراع الإنسان مع الزمن والوحدة، إلى مستوى آخر من صراع الإنسان مع ذاته؛ جاء الفيلم الألبانى «برج القوة» الذى عُرض فى القسم الرسمى خارج المسابقة، ليختبر الإنسانية تحت ظلال الخوف، فهى فى الظروف القاسية تتحول من كونها مجرد صفة إلى اختيار يكشف عن معدن صاحبه. إذ يروى الفيلم حكاية طفل مضطهد يجد ملاذًا فى منزل عدوه، وفى لحظة مصيرية، يُجبر رب الأسرة، على اتخاذ قرار يختبر أعمق مبادئه؛ هل ينقذ حياة طفل برىء، أم يحمى عائلته من خطر محدق؟ هنا، يقف الفيلم على الحد الفاصل بين الخوف والشجاعة، وبين الأنانية والإنسانية. كل ذلك وسط بيئة ريفية بسيطة تكسوها المناظر الطبيعية الخلابة، والجبال الشاهقة، والمنازل الحجرية القديمة، والتى يبدو معها أن الطبيعة تشارك الشخصيات فى صراعاتها. ذلك الصراع مع النفس يذكرنا بأيقونة الألمانى جوته «فاوست» والتى تطور فيها الأمر إلى عقد صفقة مع الشيطان، وهى نفسها التى يوقعها بطل الفيلم الإيطالى «العقد» الذى قدَّمه المهرجان ضمن العروض الخاصة، عن صحفى فاشل، يعيش على هامش المهنة ويسعى لتحقيق أحلامه، ويحاول إعادة إحياء مسيرته المهنية بأى ثمن، فتظهر له شخصية الشيطان لتقلب حياته رأسًا على عقب؛ ممثلًا للطموح الذى يمكن أن يُفسد الإنسان إذا لم يكن متوازنًا، فهل يمكن للأخلاق أن تُباع وتشترى تحت ضغط النجاح والشهرة؟ وإلى أى مدى يمكننا أن نذهب لتحقيق أحلامنا؟