قبل نحو أربعة آلاف عام، صمّم المصريون القدماء نماذج رائعة للقوارب التي اعتبروها وسيلة للانتقال بين الحياة الدنيا والعالم الآخر. واحدة من هذه النماذج التي تم العثور عليها في مقابر الدولة الوسطى تُبرز صاحب المركب جالسًا بهدوء تحت مظلة، مع مجموعة من البحارة الذين يقفون جاهزين لتوجيه القارب، كما أكده الباحث الآثري الدكتور حسين دقيل المتخصص في الآثار اليونانية الرومانية تُعدّ هذه القطعة الفنية نموذجًا رمزيًا يعكس رؤية المصريين القدماء لمفهوم الرحلة الأبدية وعقائدهم الدينية المرتبطة بالحياة بعد الموت. اقرأ أيضا|أصل الحكاية| القارب المصري القديم.. رحلة نحو العالم الآخر واليوم، يُعرض هذا القارب ضمن مقتنيات المتحف البريطاني، ليكون شاهدًا على حضارة خلّدت فلسفاتها وعقائدها عبر آلاف السنين. تعود قصة هذا القارب الخشبي المصري القديم إلى فترة حكم الأسرة الثانية عشرة من عصر الدولة الوسطى (1991-1786 قبل الميلاد)، حيث شكّل القارب جزءًا من الطقوس الجنائزية، إذ اعتقد المصريون القدماء أن القوارب هي وسيلة آمنة للعبور إلى العالم السفلي أو "حقول الآيارو"، وهي حقول الخلود والسعادة التي اعتقد المصري أنها تنتظره بعد الموت. وعليه، كانت نماذج القوارب توضع في المقابر لترافق المتوفى في رحلته الأبدية، وتساعده على اجتياز المسافات الفاصلة بين الدنيا والعالم الآخر بأمان وسلاسة. الجانب الفني والتقني في تصميم النموذج يُظهر النموذج، بتفاصيله الدقيقة والبسيطة في الوقت ذاته، براعة الفنان المصري القديم في تصوير الحياة اليومية باستخدام أدوات وتقنيات محدودة. صاحب المركب جالس تحت مظلة، وهو المشهد الذي يعكس أهمية القارب وقيمته لصاحبه، الذي يُعتقد أنه شخصية مهمة أو ذات مكانة. جميع البحارة يقفون بوقار، باستثناء قائد المركب الذي يتولى توجيه القارب. هذا التوزيع الذكي للشخصيات داخل النموذج يعكس طبيعة عمل القارب ودور كل فرد فيه. من ناحية فنية، يبدو أن الفنان المصري القديم تجنّب إبراز ملامح الوجوه بتفاصيل دقيقة، مع التركيز على رسم الأنوف وإظهار العيون بشكل مطلي. أما الأذرع فتبدو متصلة بالأكتاف مباشرة دون إظهار واضح لتفاصيل اليدين، مما يوحي بأن الهدف لم يكن تصوير دقيق للأفراد بقدر ما كان لتجسيد فكرة الرحلة. هذا الأسلوب البسيط لم يمنع من توصيل المعنى بشكل كامل، بل ساعد في إبراز الطابع الرمزي للنموذج. الدلالة الرمزية للقارب وعلاقته بالثقافة المصرية القديمة إن وجود هذا النموذج في المقابر يعكس العقيدة المصرية القديمة في الحياة الأبدية. اعتقد المصريون القدماء أن المتوفى يحتاج إلى وسائل تساعده في رحلته إلى الآخرة، ومن ضمنها القوارب، التي كانت تُعدّ وسائل للنقل إلى العالم السفلي. لذلك، كانت تُزوّد المقابر بنماذج القوارب كنوع من الحماية وضمان رحلة آمنة للموتى. هذا النموذج يظهر بشكل واضح الارتباط العميق بين المصريين القدامى ومفهوم الحياة الأخرى، حيث كانوا يؤمنون بأن الإنسان لن يواجه الموت كغاية نهائية، بل كمرحلة انتقالية إلى حياة أخرى. ورأى المصريون القدماء في القارب وسيلة تتماشى مع فلسفة الخلود لديهم، إذ يُمكنهم من عبور الأنهار التي تفصل عالم الأحياء عن العالم الآخر. ويُعتقد أن وجود القارب يوفر الأمان والحماية للمتوفى أثناء رحلته عبر "دوائر الجحيم" حتى يصل إلى قاعة محكمة الآخرة. اكتشاف نماذج القوارب ومكانتها في علم الآثار المصري تُعدّ نماذج القوارب المكتشفة في مقابر الدولة الوسطى شواهد تاريخية على العقيدة والممارسات الجنائزية. وقد عُثر على العديد منها في مواقع أثرية مختلفة، مما يدل على انتشار هذا الاعتقاد بشكل واسع. يعود هذا النموذج الموجود حاليًا في المتحف البريطاني إلى عصر الأسرة الثانية عشرة، وقد حافظ على تفاصيله الفنية بشكل مدهش، مما يعكس مهارة الفنانين المصريين واهتمامهم بجودة الصناعة، حتى في النماذج الطقسية التي لم تُستخدم في الحياة اليومية. عرض هذا القارب في المتحف البريطاني يُتيح للزوار من مختلف أنحاء العالم فرصة فريدة للتعرف على جزء من التراث المصري القديم، ويُظهر الدور الذي لعبه الفن في تجسيد المعتقدات الدينية والفكرية لمصر القديمة. ورغم مرور آلاف السنين، لا يزال النموذج يجسد قوة ورمزية الحضارة المصرية ويعكس مدى اهتمامها بفكرة البعث والخلود. أهمية عرض القطع الأثرية المصرية في المتاحف العالمية يعتبر عرض نموذج القارب المصري القديم في المتاحف العالمية مثل المتحف البريطاني فرصة فريدة لجذب الزوار من مختلف دول العالم وتعريفهم على جوانب غير معروفة من الثقافة المصرية القديمة. هذه القطع الفنية تلعب دورًا هامًا في زيادة الوعي بالتراث الثقافي لمصر وتعزيز فهم العالم للحضارة المصرية العريقة، مما يسهم في إثراء السياحة الثقافية وزيادة الاهتمام بالتراث المصري عالميًا. إن نموذج القارب المصري القديم ليس مجرد قطعة أثرية، بل هو رمز ثقافي وفني يعكس مزيجًا بين العقيدة المصرية والفن، ويجسد فلسفة المصريين حول الحياة والموت. هذا النموذج الذي يُعرض اليوم في المتحف البريطاني هو تذكار يُلهم العالم لفهم أسس عقائد المصريين القدماء وتصوراتهم عن الحياة الآخرة. يبقى القارب المصري القديم مثالًا حيًا على براعة الفنانين المصريين وعمق ثقافتهم التي تجاوزت حدود الزمن لتُخلّد فلسفتهم وروحهم الإنسانية العظيمة.